تقترب الحرب الإسرائيلية على غزة من إتمام عامها الأول وهي تتوسع إلى جبهات جديدة مع الضربات الجوية والغزو البري الإسرائيلي للبنان قبل ساعات، ما خلق نوعا من الأُلفة والاعتياد مع مشاهد وأحداث يُفترض أن تكون غير تقليدية، مثل تحليق وقصف الطيران الإسرائيلي المتواصل، ومشاهد الشهداء والجرحى، والبيوت المهدمة، وحتى كمائن المقاومة وقذائفها وصواريخها ومسيراتها.
لكن ما يحدث يُعد غير مسبوق على مستويات عدة، فهذه أطول حرب تخوضها دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ تأسيسها على أنقاض مدن الفلسطينيين وقُراهم عام 1948، وقد حشدت لها نحو 360 ألف جندي احتياطي، في أكبر تعبئة منذ حرب أكتوبر عام 1973. وعلى نطاق أوسع، قد تكون هذه الحرب بداية لعهد جديد من الحروب لم تعد تكفي فيه الأيام أو حتى الأسابيع والشهور لإحراز النصر، ما يعني بالتبعية حال حرب ممتدة ربما تستمر لأعوام عديدة.
في غضون ذلك، يخشى الخبراء أن يكون زمن “الحروب القصيرة” والخاطفة قد ولَّى إلى غير رجعة، فمع تعقُّد إستراتيجيات الحروب، والكفاءة التي يبديها الفاعلون الأصغر والأقل تجهيزا في مواجهة الجيوش النظامية الكبيرة بفضل تكتيكات الحروب غير المتكافئة التي جسرت الفجوات التقنية والتكتيكية وحتى العددية، بات تحقيق “النصر” بمعناه الحاسم أكثر صعوبة، وحتى تحقيق الأهداف الجزئية الأصغر بات أكثر كلفة وتعقيدا. ولا مثال أوضح على ذلك من حروب إسرائيل نفسها، فقبل أكثر بقليل من أربعة عقود، غزت إسرائيل لبنان في 6 يونيو/حزيران عام 1982 بهدف معلن محدود هو تأمين شريط بعرض 40 كيلومترا داخل لبنان على الحدود الإسرائيلية، وفق تأكيدات وزير الدفاع الإسرائيلي أرييل شارون وقتها.
لكن سرعان ما طورت إسرائيل هجومها وتقدمت نحو العاصمة بيروت، واشتبكت مع القوات السورية، متسببةً في خسارة كبيرة لها بعد عبور نحو 76 ألف جندي إسرائيلي وأكثر من 1000 دبابة إلى لبنان. وفي غضون فترة قصيرة، حاصر الإسرائيليون مقر منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت الغربية، وقصفت الطائرات والدبابات والسفن المدينة لمدة عشرة أسابيع لإجبار المنظمة على الاستسلام، وهو ما وافق عليه الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في النهاية، ليخرج مع 14 ألفا من مقاتليه تحت حماية قوة متعددة الجنسيات من الجنود الفرنسيين والإيطاليين والأميركيين في 19 أغسطس/آب من العام نفسه.
ورغم أن إسرائيل لم تنسحب بشكل كامل من لبنان إلا عام 2000، فإن وقائع الحرب نفسها دامت أقل من 90 يوما بين يونيو/حزيران وسبتمبر/أيلول 1982، حققت إسرائيل خلالها هدفها المعلن، بل وأكثر منه بكثير، بعدما أضعفت الوجود الفلسطيني في لبنان تماما، وقللت من النفوذ السوري في البلاد، وصعدت بحكومة صديقة لها إلى السلطة بقيادة بشير الجميل (وإن دامت لفترة قصيرة)، واحتلت أجزاء كبيرة من لبنان، وخلقت واقعا مختلفا تماما. وبالمقارنة، فإن عاما كاملا من القتال في غزة لم يكن كافيا لإسرائيل لتحقيق أهدافها المعلنة، وعلى رأسها استعادة الأسرى، ما يعني أن القتال مرشح للاستمرار لفترة أطول.
لا نبالغ إذن إذا قلنا إن الحرب الحالية في غزة تُعد “نقطة تحول إستراتيجي” لجيش الاحتلال الإسرائيلي في صراعاته بالمنطقة، ينتقل بموجبها من الاعتماد على المعارك والحروب الخاطفة إلى الحرب الطويلة. ويكمن الخبر الجيد لإسرائيل في هذا التحول في نجاحها في كسر العديد من المسلّمات التي طالما اعتنقتها حول نفسها، وعلى رأسها عدم القدرة على التكيف مع حالة الحرب “المستمرة”، واستحالة الانخراط في حرب على أكثر من جبهة في الوقت نفسه، في المقابل سوف يكون من الصعب التكهن بالتداعيات طويلة الأمد لمثل هذه الحرب على دولة الاحتلال نفسها ووضعها الداخلي، وعلى علاقاتها الإقليمية.
من الحرب “الخاطفة” إلى الحرب “المستمرة”
تُعرَّف “الحروب الخاطفة” بأنها ذلك النوع من المعارك الذي يتركز على المناورات السريعة واستغلال نقاط الضعف في دفاعات العدو قبل أن يتمكن من التعبئة الكاملة أو الرد، ويكون الهدف غالبا هو توجيه ضربة قاضية في غضون ساعات أو أيام، مما يعطل قدرة العدو على المقاومة أو الرد بشكل فعال. ويتطلب هذا النوع من الحروب تسليحا وتدريبا جيدين، مع خبرة وتمرُّس في إدارة غرف عمليات لأسلحة مشتركة، ربما تشمل الدبابات والمشاة الآلية والمدفعية والدعم الجوي، في نوع من التكامل يسمح باختراق خطوط العدو وتعطيل هياكل قيادته بسرعة.
ويُعد نموذج القوات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية أحد التطبيقات المثالية لهذا النوع من الحروب الخاطفة الحاسمة، كما حدث عام 1939 عندما دمر النازيون الجيش البولندي في سلسلة من المعارك الخاطفة بعد تطويقه، وكذلك في مايو/أيار 1940 خلال الهجوم على فرنسا حين اخترقت فرق الدبابات الألمانية التشكيلات الفرنسية بطيئة الحركة وقطعت الطريق على قوة المشاة البريطانية في دنكيرك، وهو ما تكرر أثناء غزو الاتحاد السوفيتي عام 1941، ما مكَّن النازيين من أسر أعداد كبيرة من الجنود السوفييت.
لطالما اعتمدت إسرائيل هذا النهج الخاطف للحروب في صراعاتها في المنطقة، وهي حقيقة تنطبق حتى على حروبها مع الجيوش النظامية العربية وأهمها حرب عام 1967، وهي حرب متعددة الجبهات ضد 3 جيوش عربية بدأتها إسرائيل وأنهتها في 6 أيام فقط، وبالمثل في حرب عام 1973 استمر القتال لمدة 20 يوما فقط، وهو ما ينطبق أيضا على حربي لبنان؛ الأولى عام 1982 التي استمرت 88 يوما، والثانية عام 2006 التي استمرت 33 يوما.
لم يختلف الحال في الحروب الإسرائيلية على غزة، بداية من “معركة الفرقان/الرصاص المصبوب” في ديسمبر/كانون الأول 2008 التي استمرت 22 يوما، مرورا بحرب “حجارة السجيل/عمود السحاب” في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 التي استمرت 8 أيام، وحرب “العصف المأكول/الجرف الصامد” في يوليو/تموز 2014 التي استمرت 51 يوما، وأخيرا معركة “سيف القدس/حارس الأسوار” في مايو/أيار 2021 التي استمرت 11 يوما. جميعها كانت حروبا خاطفة سريعة، دخلتها إسرائيل مستخدمة قوة جوية باطشة بهدف تدمير المقاومة في غزة وتحييدها، مع توغل بري محدود بغية تحقيق أهداف معايرة بدقة خلال فترة قصيرة.
ولكن على العكس من حروبها القديمة، كان سجل إسرائيل في الحروب الخاطفة بداية من عام 2006 مشوبا بالكثير من الإخفاقات. في البداية، اضطرت إسرائيل إلى العودة من لبنان عام 2006 بخفي حنين دون تحقيق أيٍّ من أهدافها الإستراتيجية، وفي قطاع غزة لم تفلح الحروب الإسرائيلية الخاطفة في وأد المقاومة الفلسطينية أو منعها من تهديد “أمن إسرائيل”.
ولذلك، حين انطلقت الحرب الأخيرة في أعقاب عملية طوفان الأقصى، ملأت إسرائيل فمها بأكثر مما يمكنها مضغه حين وضعت أهدافا كبيرة وهي تعلم استحالة تحقيقها من خلال حرب خاطفة. وهكذا تحولت الحرب الأخيرة دون تخطيط من أيٍّ من طرفيها إلى حالة “حرب مستمرة”، فقط لأن إسرائيل لا يمكنها التراجع وتجرع مرارة الهزيمة، في حين أن المقاومة لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي بينما إسرائيل تسوي غزة بالأرض وتهدم القطاع هدما فوق رؤوس ساكنيه.
وفي غضون الأشهر الأولى من الطوفان، بدا واضحا أن الحرب التي فشل صناعها في رسم حدودها بدأت ترسم معالمها بنفسها، متحولةً إلى معركة استنزاف طويلة هدفها على الجانب الإسرائيلي إضعاف المقاومة الفلسطينية باستمرار، وعدم منحها الفرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة بناء نفسها وترميم خسائرها ما دامت قد فشلت هزيمتها بنصر فوري. المشكلة أن هذا النمط من الصراع ربما يستمر لسنوات ويتخذ أشكالا عدة لن تسفر غالبا عن نتائج فورية حاسمة، ولكنها تهدف إلى تحقيق “مكاسب تراكمية” بمرور الوقت.
وبعكس الحروب القصيرة، يعتمد التفوق في الحروب الطويلة بالأساس على “إدارة الموارد”، ولا نعني هنا الموارد بمنظورها العسكري المجرد ذخيرةً وسلاحا، بل المقصد هو الموارد بمنظورها الشامل التي تشمل الاقتصاد والمجتمع (الرأي العام/الحاضنة الشعبية) اللذين سيتحملان عبء التكيف مع حرب رتيبة بلا نهاية.
تحدى المبادئ الاستراتيجية
يُشكِّل هذا التحول تحديا كبيرا لكلٍّ من المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي على السواء. وبالنسبة للأخيرة، فإن نمط الحروب الطويلة يتطلب عقيدة ومبادئ تختلفان عن تلك التي تتبناها إسرائيل منذ نشأتها، ما يعني أنها مرحلة فاصلة للعسكرية الإسرائيلية، بل وللمجتمع الإسرائيلي ونظامه السياسي والسلطوي، والأخطر هو أن هذه التحولات أُجبرت إسرائيل عليها ولم تخترها، وبالتالي لم تكن مستعدة لها بما يكفي.
عسكريا، اعتمدت إسرائيل منذ نشأتها على أربعة مبادئ رئيسية لإستراتيجيتها العسكرية، تعود جذورها إلى “عقيدة بن غوريون”، التي أكدت الطبيعة الوجودية للصراع العربي الإسرائيلي، وضرورة أن تكون إسرائيل “أمة مسلحة” قادرة على اتخاذ موقف عسكري استباقي.
وقد انعكست تلك المبادئ على بنية وهيكلة القوات وانتشارها وتخصصاتها العملياتية، بل وحتى ميزانيتها ونمط إدارة عملياتها الحربية. هذه المبادئ أشبه بـ”قواعد فوق دستورية” للعسكرية الإسرائيلية، وأولها “الإنذار المبكر” الذي يعتمد على جمع المعلومات الاستخباراتية عن قدرات العدو، وتحديد مستويات التهديدات الإستراتيجية والتكتيكية والتعامل معها قبل أن تُشكِّل تهديدا مباشرا لأمن الاحتلال.
أما المبدأ الثاني فهو “الدفاع – اتخاذ القرار” الذي يعمل على أن يلبي الجيش الأهداف السياسية التي يضعها صانع القرار بما يمنع الخصم من تحقيق أي مكاسب إستراتيجية ويضمن فعالية الأعمال العسكرية.
بعد ذلك يأتي المبدأ الثالث وهو “الردع” الذي يُعد العصب الرئيس للمبادئ الأربعة، ويهدف إلى جعل الأعداء المحتملين يفكرون مليا في التبعات قبل شن أي هجوم على إسرائيل، مما يمنعهم من المبادرة بتلك الخطوة، وينقسم إلى نوعين؛ أولهما هو “الردع بالحرمان” من خلال منع الخصوم من تنفيذ خططهم، أما الثاني فهو “الردع بالعقاب”، وذلك عن طريق فرض تكاليف عالية على الخصوم إذا قرروا الهجوم.
بينما المبدأ الرابع هو “القدرة على الحسم” أو “النصر”، وهو تتويج لعمل المبادئ الثلاثة بشكل متناغم بما يحقق النتيجة المرغوبة للحروب الإسرائيلية.
أصبح من الواضح الآن أن هجمات طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023 ضربت العقيدة العسكرية الإسرائيلية في ركيزتها الأساسية وهي “الردع”، حيث لم تُثنِ الحروب الأربع السابقة ضد غزة حماس عن استهداف العمق الإسرائيلي كما لم يفعل أحد من قبل في تاريخ دولة الاحتلال.
كسر الهجوم أيضا مبدأ “الإنذار المبكر”، بعدما كشف قدرة جيش الاحتلال الإسرائيلي على التنبؤ بالعملية ومنع الهجوم قبل تنفيذه. وذلك رغم تنفيذ غرفة العمليات المشتركة للأجنحة العسكرية في قطاع غزة مناورة عسكرية اشتملت على إطلاق النار الحي وإطلاق الصواريخ باتجاه البحر ومحاكاة هجوم على موقع إسرائيلي، ومداهمات قبل ليلة سقوط فرقة غزة في السابع من أكتوبر بخمسة وعشرين يوما، تحديدا في 12 سبتمبر/أيلول 2023، ونشرها مقاطع مصورة لذلك على حساب تلغرام.
بحسب التقديرات الإسرائيلية نفسها، فإن عملية السابع من أكتوبر كانت عملية معقدة ومتعددة الأبعاد، ولم تكن مجرد حدث عابر أو وليدة فكرة طارئة، بل كانت نتيجة نقاش ودراسة وتخطيط وتنفيذ دقيق استمر لعدة أشهر وربما أكثر. وخلال حفل تذكاري في مقر “شين بيت” جهاز الاستخبارات الداخلي الإسرائيلي، اعترف رونين بار رئيس الجهاز بالفشل في توفير الغطاء الأمني المطلوب لـ”شعب إسرائيل”.
ويمتد فشل أجهزة الاستخبارات إلى العجز عن الإلمام بتفاصيل شبكة أنفاق القسام، أو معرفة مكان الأسرى الإسرائيليين، وضعف التقديرات الاستخبارية في تحديد قدرات كتائب القسام العسكرية. وهذا رغم محدودية الجغرافيا في غزة، مما يجعل العمل الاستخباري -نظريا- أكثر سهولة. وسواء كانت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية قد التقطت مؤشرات حول هجوم السابع من أكتوبر وتجاهلتها أم أنها فشلت في رصدها من الأساس، فالمحصلة في النهاية هي ضربة حاسمة لمبدأ “الإنذار المبكر” الذي يفتتح دورة الحرب الإسرائيلية.
أما المبدأ الثالث وهو “الدفاع واتخاذ القرار” فقد كُسر عدة مرات خلال الحرب، أهمها في الأسبوع الأول بعد الهجوم، حيث نفذت إسرائيل “بروتوكول هانيبال” الذي تسبب في مقتل عدد من الجنود الإسرائيليين بحسب تحقيقات صحيفة “هآرتس” العبرية التي كشفت أن جيش الاحتلال قام بتفعيل البروتوكول مباشرة يوم السابع من أكتوبر، وكذلك تحقيق “يديعوت أحرونوت” الذي أفاد بأن الجيش الإسرائيلي نفذ بروتوكول هانيبال في وضع مرتبك وعشوائي وفي ظل ضعف تواصل بين القيادة والجنود، الذين وُجِّهوا لإطلاق النار على المركبات العائدة إلى غزة دون التمييز بين المقاتلين و”الرهائن” المحتملين.
وفي حين أن بروتوكول هانيبال سبق أن أُلغي من قِبَل رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق غادي أيزنكوت عام 2016، الذي أكد أن الجيش سيقوم بتصميم سلسلة من الأوامر الجديدة، التي تتناسب بشكل أفضل مع المواقف المختلفة التي قد يجد الجنود أنفسهم فيها، فإن إعادة العمل به في هذه الظروف يشير إلى فقدان السيطرة الميدانية والانهيار في منظومة اتخاذ القرار التي يجب أن تستند إلى المعلومة الاستخبارية وتقدم حياة الجنود والأسرى بوصفها أولوية وليس بالتضحية بهم من خلال ضربات عشوائية.
مثال آخر لا يقل أهمية حول ارتباك عملية “اتخاذ القرار” يظهر في استغراق مجلس الحرب الإسرائيلي أسبوعا كاملا في تقييم الهجوم والرد عليه بخطة واضحة من خلال وضع السيناريوهات والأهداف التي ستعمل وزارة الدفاع والجيش على تحقيقها. أما الارتباك الأبرز فظهر في النتائج “غير المعلنة” لاجتماع مجلس الحرب يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، الذي وضعت خلاله أجهزة الاستخبارات في إسرائيل ثلاثة خيارات بوصفها أهدافا رئيسية للعملية البرية في غزة، وهي استيراد حكم السلطة من الضفة إلى غزة مجددا، أو احتلال قطاع غزة بشكل مباشر من قِبَل إسرائيل حتى بناء سلطة جديدة مواتية، وأخيرا الخيار الثالث والمرجح وهو ترحيل سكان غزة إلى سيناء.
وكما هو واضح، لم تستطع إسرائيل فرض أيٍّ من هذه الخيارات حتى الآن، وهو ما عنى بالتبعية سقوط الركيزة الرابعة والأخيرة للإستراتيجية الإسرائيلية وهي القدرة على تحقيق النصر أو “الحسم”.
حرب متعددة الجبهات
لا نبالغ إذن إذا قلنا إن حرب غزة تحدت العسكرية الإسرائيلية كما لم تفعل أي حرب أخرى في تاريخ دولة الاحتلال، وكان التحدي الأكبر هو أنها كسرت المبادئ الرئيسية التي صُممت بالأساس لجعل الحروب الإسرائيلية سريعة وخاطفة في حال فشلت في منعها من الأساس. لكن بعد مرور أكثر من عام، بدأت إسرائيل تتكيف مع هذه الطبيعة الجديدة للحرب، ومع حقيقة أخرى لا تقل أهمية حولها، وهي أنها “حرب متعددة الجبهات” وليست على جبهة واحدة. وهذه الحقيقة أيضا كانت شبحا لإسرائيل التي حاولت دائما تجنب خوض حرب متعددة من خلال تسكين بعض الجبهات وتجنب إشعال الأمور بشكل متزامن مع خصومها.
لكن في أعقاب طوفان الأقصى، سرعان ما أثبتت المواجهة طبيعتها “المتعددة” التي أدركتها الولايات المتحدة، حليف إسرائيل الرئيسي، أسرع من تل أبيب المتخبطة حينها. لذلك، بمجرد أن تعرضت إسرائيل لهجوم المقاومة المفاجئ في السابع من أكتوبر، صدرت أوامر لحاملة الطائرات الأميركية “يو إس إس جيرالد ر. فورد” بالتوجه إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، جزءا من إستراتيجية عسكرية أميركية أوسع تهدف إلى ردع الأطراف الإقليمية المحتمل مشاركتها ومنعها من توسيع نطاق الحرب خارج نطاق غزة حتى تستعيد القوات الإسرائيلية توازنها.
ومع ذلك، لم تُثنِ حاملات الطائرات الأميركية باقي أطراف ما يُعرف بـ”محور المقاومة” من توجيه ضربات لإسرائيل سواء من حزب الله اللبناني (شمالا) أو من الحوثيين في اليمن (جنوبا)، بل أصبحت مصالح أميركا وأصولها نفسها معرضة للضربات ولو كانت غير مؤثرة عمليا، لكنها كانت إشارة على أن دعمها المطلق لإسرائيل ربما يكون له تبعات على المدى الطويل. نموذج واضح على ذلك هو ما حدث في سبتمبر/أيلول الماضي (2024) حين أعلنت حركة أنصار الله اليمنية استهدافها 3 مدمرات أميركية في البحر الأحمر بـ23 صاروخا باليستيا ومجنحا وطائرة مسيّرة، في واحد من تحركاتها الأخيرة للرد على استهداف أميركا للحركة عقابا على دعمها للمقاومة في غزة في أعقاب طوفان الأقصى.
بيد أن أشباح الحرب الإقليمية ليست وليدة حرب السابع من أكتوبر وما بعده، لكنها ترجع إلى ما قبل ذلك بكثير. كانت الحرب الإقليمية متعددة الجبهات هي الحالة “الطبيعية” لإسرائيل منذ تأسيس الدولة العبرية قسرا في محيط عربي معادٍ، وكان النصر العسكري الأبرز لدولة الاحتلال في تاريخها عام 1967 في حرب متعددة الجبهات. لكن الأمور تغيرت مع توقيع إسرائيل اتفاقيات سلام مع مصر والأردن، ثم سقوط نظام البعث العراقي، وانشغال دول الجوار الأخرى وعلى رأسها لبنان وسوريا في أزماتها الداخلية، وهي تحولات أعادت ترتيب المشهد الإقليمي لصالح الدولة الصهيونية بشكل غير مسبوق منذ تأسيسها.
الاحتلال ينفذ برامج تدريبية مكثفة لمحاكاة سيناريوهات لحرب متعددة الجبهات (رويترز)بيد أن هذا الحال لم يدم طويلا. فمع اضطرار إسرائيل إلى الانسحاب مرغمة من قطاع غزة عام 2005، ثم فشلها في مواجهة حزب الله في لبنان عام 2006، أيقنت أنها تقف مجددا مع تهديد “الجبهات المتعددة”، لكن هذه المرة بشكل “غير تقليدي”.
في مواجهة ذلك، عملت تل أبيب على تعزيز قواتها بمفهوم الحرب متعددة الأطراف، لكنها واجهت معضلة تتعلق بطبيعة خصومها الجدد، سواء في غزة أو في لبنان، وهي أن هؤلاء الخصوم ليسوا جيوشا نظامية يمكن تحييدها ومواجهتها بالتكتيكات والقوة العسكرية التي تتفوق إسرائيل فيها، فالمقاوم يمتلك قدرات محدودة، وربما تكون عملياته أقل فتكا بمفردها، لكنها تعتمد على مفهوم “التراكم” وصناعة التأثير من خلال الاستمرار، وهو أمر فشلت المبادئ العسكرية التقليدية لإسرائيل في مواجهته.
فمنذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، لجأت خلال العقدين الماضيين إلى التعامل مع التهديدات في غزة والضفة ولبنان بمفهوم “جز العشب”، ويعني استهداف قيادات المقاومة وعناصرها النشطة بشكل متكرر، لكن مع تجاهل الأسباب الكامنة وراءها. ويتقاطع هذا المفهوم مع نمط الحرب السريعة والعمل العسكري قصير المدى، ورغم أنه ربما يحقق نتائج جزئية في وقته، فإن تأثيره الإستراتيجي طويل الأمد يكون ضعيفا، حيث سرعان ما تتجدد المقاومة على مختلف الجبهات، وهو ما يسلط الضوء على التهديد الذي فرضته الحرب غير النظامية لمجموعات المقاومة، وجبهاتها المتعددة، على العسكرية الإسرائيلية.
إدراكا لذلك، بدأ جيش الاحتلال ينفذ برامج تدريبية مكثفة لمحاكاة سيناريوهات حرب متعددة الجبهات. على سبيل المثال، دُرِّبت مستويات قيادية مختلفة لتحسين قدرتها على شن هجمات منسقة عبر مسارح مختلفة في وقت واحد. وفي عام 2020، قدم الجيش الإسرائيلي مفهوم “النصر الحاسم” العملياتي، الذي يهدف إلى إعادة تعريف الإستراتيجية العسكرية وتعزيز التوافق بين الخدمات مع الاستعداد للتصعيد الأفقي المحتمل، حيث يمكن للصراعات في منطقة واحدة أن تؤدي إلى اشتباكات في مناطق أخرى.
لم تنفذ إسرائيل معظم هذه التدريبات منفردة، ولكن بالشراكة مع أميركا، مع التركيز بشكل أساسي على حزب الله وإيران. على سبيل المثال، نفذت تل أبيب بالشراكة مع واشنطن تدريب “التحدي الصارم” عام 2012، الذي ركز على أنظمة الدفاع الصاروخية، وتدريب “كوبرا العرعر” عام 2016، وهو تدريب متكرر يحاكي هجوما على إسرائيل من 3 جبهات، وتدريب “نوبل دينا” عام 2018 في البحر الأبيض المتوسط، الذي حاكى سيناريوهات حرب بحرية، بما في ذلك الاستجابات للتهديدات المتوقعة من حزب الله وإيران. وكذلك تدريب “عربات النار” عام 2021 الذي شارك فيه آلاف الجنود، وغيرها من التمرينات التي تؤكد استعدادات عالية لحرب على أكثر من جبهة، لكن الملاحظ أن إحساس إسرائيل بالتهديد كان مركزا أكثر ناحية لبنان وإيران، في حين احتلت المقاومة الفلسطينية مرتبة أقل على سلم التهديد، وهو ما يسلط الضوء على خلل آخر في التفكير الإسرائيلي.
مقامرة نتنياهو
على كل حال، أصبحت الحرب متعددة الجبهات واقعا بعد أن بدأت إسرائيل غزوها البري للبنان قبل ساعات، تماما كما أصبحت الحرب الطويلة واقعا لم يعد من الممكن الفكاك منه. وفي ظاهر الأمر، ربما يُعد قرار مد الحرب إلى لبنان نوعا من الهروب إلى الأمام لنتنياهو من الإخفاق في غزة، لكن الأهم من ذلك يؤشر القرار إلى أن إسرائيل باتت تدرك المأزق الإستراتيجي الذي وضعها فيه طوفان الأقصى، وأنها ترى فرصة سانحة -ربما لن تتكرر قريبا- لتوجيه ضربة مؤثرة لقدرات حزب الله وإيران مستفيدة من الاستنفار الأميركي الكامل في الوقت الراهن.
من خلال هذا التحرك، كسرت إسرائيل اعتقادا دام أكثر من عقدين حول عدم إمكانية خوض حرب على أكثر من جبهة في آنٍ واحد مجددا، وفي غضون ذلك يأمل الجيش الإسرائيلي أن مغامرته في لبنان سوف تكون أقصر وأسرع حسما من حرب في غزة. لكن بغض النظر عن طبيعة ونتائج الحرب الحالية على الجبهة اللبنانية، فقد ترسخت الطبيعة الجديدة لحروب إسرائيل القادمة على أنها “حروب طويلة” و”متعددة الجبهات” وليست حروبا “خاطفة” و”أحادية”. وفي حين أن الاحتلال بدأ يُظهِر مرونة عسكرية وسياسية في التكيف مع هذا النمط الجديد، فليس من الواضح بعد أنه سيكون قادرا على التكيف مع ضرائبها الأبعد مدى، اجتماعيا واقتصاديا.
اجتماعيا مثلا، تُعد مسألة التجنيد أحد التحديات الشائكة على الطاولة، فمع حالة الحرب المستمرة تحتاج إسرائيل إلى نوع من التعبئة العسكرية على نطاق زمني واسع أكبر مما خبرته على مدار تاريخها، ويعني هذا أنها ستحتاج إلى كل مجند محتمل، وأن التجنيد سوف ترتفع ضرائبه إلى حد عودة المجند إلى أهله في صندوق خشبي أو احتجازه أسيرا وعدم عودته من الأساس. ولكي يتحمل المجتمع مثل هذه الضريبة الباهظة، لا مفر من أن يتحملها الجميع بشكل متساوٍ، وهو ما يجعل قضية إعفاء الحريديم المتدينين من التجنيد (وعددهم 1.3 مليون شخص أو نحو 13% من سكان دولة الاحتلال) لغما مهددا بالانفجار في أي لحظة.
يعتقد العديد من الإسرائيليين اليوم بالفعل أن الضريبة الباهظة لطوفان الأقصى والحرب على غزة لا تُتحمَّل بشكل متساوٍ، وأن أقل المتضررين منها هم أنصار نتنياهو من المتدينين، وهؤلاء للمفارقة من أكثر المدافعين عن استمرار الحرب. هذه الخسائر تشمل الأسرى المحتجزين لدى المقاومة، وقتلى جيش الاحتلال في السابع من أكتوبر وما بعده، ناهيك بآلاف المصابين والمعاقين الذين تختلف تقديراتهم، وهي طوابير مرشحة للزيادة كلما طال أمد المعارك.
أبعد من ذلك، من المتوقع أن تكلف الحرب إسرائيل أكثر من 67 مليار دولار من النفقات الدفاعية والمدنية حتى عام 2025، وفق تقديرات بنك إسرائيل. وسوف يدفع النهج المالي الحالي للحكومة، الذي يقوم على الضرائب المنخفضة والإنفاق الاجتماعي المرتفع لدعم القطاعات والأسر الأكثر تضررا من الحرب، في اتساع العجز المالي لميزانية 2024، وما بعده.
وتُعد نفقات قوات الاحتياط البالغة 360 ألف جندي تحديدا صداعا في رأس إسرائيل، فبخلاف التكاليف المباشرة الباهظة لهذه القوات والمقدرة بـ5 مليارات شيكل (نحو 1.3 مليار دولار) شهريا على الأقل، فإن استمرار تغيب هذا العدد من العاملين عن وظائفهم العادية يكلف إسرائيل يوميا نحو 1.6 مليار شيكل (نحو 427 مليون دولار)، وهي خسارة لا أحد يعلم كم من الوقت يمكن لإسرائيل أن تتحملها.
كل هذا ولم نحسب بعد تأثير حالة الحرب المستمرة على المناخ الاستثماري، خاصة قطاع التكنولوجيا الفائقة الذي يشكل قرابة 20% من الناتج المحلي الإجمالي لدولة الاحتلال، وهو ما سيواجه تحديات كبيرة مع حالة الحرب المستمرة، بسبب المخاوف الأمنية أولا، وبسبب التداعيات المحتملة على الشركات التي يُنظر إليها على أنها تدعم الحروب الإسرائيلية في الأسواق الأخرى، مع حملات المقاطعة المحتملة.
وقد لُمس طرف من هذه الآثار بالفعل خلال العام الماضي، كما في قرار شركة “إنتل” إيقاف استثمار بقيمة 25 مليار دولار لبناء مصنع جديد للرقائق في إسرائيل. وعموما، منذ السابع من أكتوبر 2023، أبلغ أكثر من 80% من الشركات الناشئة في إسرائيل عن تعرضها لأضرار ناجمة عن الحرب، فيما أكد أكثر من 50% من الشركات الناشئة أنها تملك أقل من ستة أشهر من النقد اللازم لاستمرار التشغيل، ما يعني أنها مهددة فعليا بالإغلاق في وقت قريب.
في غضون ذلك، خلَّفت هجمات جماعة الحوثي آثارا سلبية كبيرة على الاقتصاد الإسرائيلي، فميناء إيلات أصبح شبه متوقف وبلا حركة، بعدما كانت تدخله بين 12-13 سفينة شحن يوميا قبل الحرب. وعموما، انخفض النشاط في الميناء بنحو 85% منذ تحويل شركات الشحن الكبرى مسار سفنها عن البحر الأحمر تجنبا للهجمات. والأهم من الخسائر الاقتصادية المباشرة، يُعد توقف ميناء إيلات أشبه بقطع غير رسمي للعلاقات بين إسرائيل من جهة وآسيا وأفريقيا من جهة أخرى.
وكذلك لم نتحدث عن السياحة التي توقفت بشكل كامل تقريبا، وخروج قطاعات جغرافية عن المساهمة في الاقتصاد الإسرائيلي كانت تساهم بنحو 30% من الناتج المحلي الإجمالي، وعلى رأسها المناطق الشمالية وغلاف غزة. كل هذه الخسائر مرشحة للزيادة، بل وللتضاعف مع طول أمد الحرب وتعدد جبهاتها، خاصة إذا طال أمد الحرب على جبهة لبنان أو اتسعت إلى المزيد من الجبهات. وأخيرا وليس آخرا، مع استمرار الحرب بلا نهاية، ليس من المستبعد أن أصدقاء إسرائيل الإقليميين سوف يبدأون في التنصل من علاقاتهم معها مع زيادة التكاليف الشعبية لهذه العلاقة في ظل استمرار الحرب وتعدد ساحاتها.
يخبرنا ذلك كله أن إسرائيل لا تزال بعيدة جدا عن تجاوز آثار طوفان الأقصى والأسئلة الجديدة التي يفرضها كل يوم، وأحجار الدومينو التي تواصل التساقط. في غضون ذلك، تبقى الحقيقة المؤكدة أن زمان الحروب الإسرائيلية الخاطفة والسريعة قد ولّى، وأن على إسرائيل، بل والمنطقة بأسرها، أن تتكيف مع واقع جديدة أصبحت “حالة الحرب” فيه هي القاعدة والأساس، وفترات الهدوء هي الاستثناء الذي سيصبح أشبه بهدنة قصيرة لالتقاط الأنفاس.