لم يدرجْ مستقبل أوروبا، مع تنامي ظاهرة الإسلام بشقَّيه: “الرمزي” و”الديمغرافي”، داخل القارة العجوز، على أجندة الباحثين العرب أو المسلمين، بشكل يتناسب مع حجم التحولات المتوقّعة، في مرحلة ما بعد غزة، ليس فقط على فحوى الهُوية، حيث يثير ذلك قلقًا ثقافيًا متزايدًا في عموم أوروبا، وإنما أيضًا على انتقال أزمات الشرق الأوسط ـ وعلى رأسها “المنطقة العربية” بطبيعة الحال ـ من “هامش” الاهتمامات إلى “متن” التأثير على اتجاهات الرأي العام في الغرب، وإلى صُلب النقاش العام، بل وتسمية القادة السياسيين في أي انتخابات برلمانية، أو رئاسية “محتملة”.
أزمة هُوية
لعلَّ ذلك يرجع إلى عدم حماس العرب لولوج ما يسمى “علم المستقبل” أو الدراسات المستقبلية، وهو علم يختص بـ”المحتمل والممكن”، وذلك منذ وفاة عالم الاجتماع العربي ابن خلدون في مارس/آذار عام (1406)م. والذي كان ـ بحسب تعبير البريطاني “إرنست غيلنر (1929 ـ 1995) : “عالم اجتماع استشرافي/ مستقبلي متميز”.
علم المستقبل ـ في طبعته ما بعد الخلدونية ـ يرجع إلى الربع الأول من القرن العشرين، عام 1920 مع الأميركي جيلفيلان، ثم جرى تداوله في المجتمع البحثي الألماني عام 1943 في علم الاجتماع السياسي، على يد “أوسيب فلختايم” فيما اكتسب مرادفًا آخر في البلدان ذات النزعة الماركسية باسم ” التنبّؤ التخطيطي”.
في مقابل هذا التثاؤب العربي/ الإسلامي، خضع مستقبل أوروبا ـ مع تزايد الحضور المتنامي لـ “الإسلام الرمزي” ـ لدراسات مستقبلية أجراها مفكّرون أوروبيون وأميركيون، مثل: الأميركي “دانيال بايبس”، أو الإيطالية “أوريانا فالاتشي”، و”رالف بيتر”، و”مايك ستاين”.
وجاءت تلك الدراسات المستقبلية على خلفية انزلاق الدول الأوروبية في “أزمة هُوية” أجّجت المشاعر المعادية للإسلام، ولم يكن مستغربًا آنذاك أن تصبح تلك الكتب التي تستشرف مستقبل أوروبا مع الإسلام، هي الأكثر مبيعًا في تلك الفترة، مثل: كتاب “الغضب والكبرياء” لـ ” أوريانا فالاتشي” في إيطاليا عام 2001، وكتاب “ألمانيا تلغي نفسها” لـ” ثيلو سارازين” عام 2010، في ألمانيا، وكتاب “الاستسلام ” للفرنسي ” ميشال ويلبك” في فرنسا عام 2015، وكريستوفر كالدويل “تأملات في الثورة في أوروبا: الهجرة والإسلام والغرب”، عام 2009، وبروس باور “بينما كانت أوروبا نائمة: كيف يدمر الإسلام الراديكالي الغرب من الداخل؟”،عام 2006 في إنجلترا.
تحريض صريح
صدرت هذه الدراسات “المستقبلية” ـ كما أسلفنا ـ في فترة تصاعد قلق حقيقي وهاجس بلغَ مبلغ الهوس على هُوية أوروبا، وبدا واضحًا في السيناريوهات المبالغ فيها من قبل المفكرين الغربيين بشأن مستقبل “الهُوية المسيحية” لبلادهم، بلغت حد التحريض الصريح بإثارة الفزع بين الأوروبيين أنفسهم كما فعل “بايبس”، حين توقع أن تخضع أوروبا “للحكم الإسلامي”، أو إلى “ولاية إسلامية ” على حد تعبير “أوريانا فالاتشي”، أو تخويف المسلمين الغربيين من تعرضهم لعملية تطهير ديني واسع النطاق، كما توقع “رالف بيتر” والذي اعتبر أوروبا “أفضل مكان للإبادة الجماعية والتطهير العرقي”، ويرى أن مسلمي أوروبا سوف يكونون “محظوظين إذا تم طردهم ولم يقتلوا”!!.
وإذا كان من المبكر استشراف قدرة الإسلام “الرسالي” ـ في نسخته العربية ـ كمشروع أخلاقي على حجز بطاقة “القبول/الرضا” ليكتسب شرعية الشراكة في منظومة القيم الغربية بعد حرب غزة.. فإن الأخيرة ـ بالتأكيد ـ أعادت “للإسلام النضالي/المقاوم” نبله ومشروعيته وعدالته في الوعي العام الغربي، بعد سنوات من اتهامه بـ “الإرهاب”.
يبدو لي أن المشكلة في أوروبا لم تعد في الإسلام “المهاجر” ـ من العالم العربي أو الإسلامي ـ كتهديد لهُويتها. إنها في تقديري ـ بعد غزة ـ قد تجاوزت هذا القلق الثقافي المخيف والمتوجس من “الاندماج” ودلفت إلى مناطق لم يكن من المتوقع أن تجد لها فيها موطئ قدم، كان من أبرز تجلياتها شبه الرسمية ـ ناهيك عن المظاهرات ـ أن تكون “غزة /نصرة غزة” في بريطانيا، هي التي سترجح كفة هذا المرشح أو ذاك (غالاوي نموذجًا) والذي زُينت منشوراته الدعائية بالعَلم الفلسطيني وبعبارة: “غزة جورج”! فيما قال في خطاب الفوز: “هذا من أجل غزة”.
قوى اجتماعية
في حين باتت “غزة” مصدر قلق يزعزع ثقة الرئيس الأميركي “بايدن” في إمكانية بقائه في مكتبه بالبيت الأبيض في الاستحقاق الرئاسي المقبل، وكأنها ـ أي غزة ـ ولاية “مرجحة” في الانتخابات الرئاسية، بل باتت في صلب استطلاعات الرأي بعد أن اتسعت جغرافيًا الاحتجاجات الشعبية على تورط الولايات المتحدة المباشر في حرب الإبادة التي يمارسها الكيان الصهوني. ونقلت CNN عن ” مايكل أبرامسون”، مدير السياسات في منظمة الشباب الديمقراطيين في مقاطعة “ماريكوبا” في “أريزونا”: إن “الكثير من المنظمات التي أعمل فيها، لديها روابط قوية مع ما يعيشه الفلسطينيون، وتريد مواصلة الارتقاء بنضالهم”.
وحذّر إستراتيجيون ديمقراطيون تحدثوا إلى CNN من أن “الرئيس قد يواجه صعوبة في العثور على بدائل على استعداد لتولي مهمة التحدث إلى مجموعات الناخبين الرئيسية، مثل: المسلمين والأميركيين العرب والتقدميين الغاضبين”. وبحسب استطلاع للرأي أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” ومعهد “سيينا” للأبحاث في الفترة الأخيرة أظهر أن ” الناخبين المسجلين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا قالوا؛ إنهم أكثر ميلًا إلى دعم القضية الفلسطينية على حساب إسرائيل”.
ونقلت وسائل إعلام أميركية محلية عن الخبير الإستراتيجي الديمقراطي “أدريان هيموند” قوله: “إن الرئيس يجب أن يشعر بالقلق إزاء نقص الدعم الذي يتلقاه بين هذه المجتمعات، خاصة في ميشيغان، التي تعد موطنًا لأكثر من 200 ألف ناخب أميركي مسلم”.
وتشكّلت قوى اجتماعية من التقدميين “ضد بايدن”، تمثل الناخبين اليهود والناخبين الملونين والشباب من الذين شكلوا أجزاءً رئيسية من ائتلاف بايدن الفائز عام 2020. فيما تأسست “حركة التخلي عن بايدن”، وهي حملة وطنية تعمل ضد جهود إعادة انتخاب بايدن، وكشف قادة محليون لوسائل إعلام أميركية أنهم يسعون في ولايات متأرجحة حاسمة، مثل: ميشيغان ومينيسوتا وفلوريدا وجورجيا ونيفادا وبنسلفانيا لدفع الناخبين إلى عدم دعم بايدن.
وشهد عدد من المعارض الفنية في “نيويورك” أثناء افتتاح موسمها في الحي الصيني، تحرّكات ورسائل مناهضة للصهيونية. وذكرت صحيفة “آرت نت” الأميركية، أنه تمّ تعليق ملصقات كبيرة على واجهات المعارض – ومن بينها “ماكسويل جراهام” و”56 هنري”، وكلاهما يحظى بتقدير كبير في نيويورك – تتّهم الشركات بأنها “متواطئة في الإبادة الجماعية في غزة”، وتدعو إلى “وقف البيع للصهاينة”.
قمع الصوت الفلسطيني
ونُشرت صور الملصقات على موقع “إنستغرام” من قِبل منظمة “كُتّاب ضد الحرب على غزة”، بحسب صحيفة “ذا غارديان”. كما ظهرت الملصقات نفسها على واجهات مؤسسة “ضيا” للفنون، ومعرض “ديفيد زويرنر”، وأماكن أخرى أيضًا، استنكرت “إسكات الفنانين”، إلى جانب بيان منسوب إلى “مجموعة مستقلة من العاملين في مجال الفن”، طالبت المجتمع الفني، بقطع العلاقات مع أصحاب المعارض الصهيونية، ومن بينهم ليفي غورفي ديان.
وفي ألمانيا.. الحليف الأقوى بعد واشنطن لإسرائيل، وقّع مئات المثقفين والفنانين حول العالم عريضة بعنوان: ” قاطعوا ألمانيا”، وعلى رأس الموقعين الأديبة الفرنسية وأستاذة الأدب الفرنسي الفائزة بجائزة “نوبل للأدب” 2022 “آني إرنو”، والروائية البوسنية اليهودية “لانا باستاسيتش”، ونقل عن صحيفة “ذا غارديان” البريطانية، قولها؛ إن العريضة التي وقّعها أكثر من ألف شخص، “تدعو إلى مقاطعة المؤسسات الثقافية الألمانية؛ بسبب قمعها الصوت الفلسطيني في سياق الحرب الإسرائيلية على غزة”.
وكتبت على صفحتها في “إنستغرام”: “كان من واجبي الأخلاقي إنهاء عقودي مع دار النشر “إس فيشر”؛ احتجاجًا على منع التحدث بصوت عالٍ عن الإبادة الجماعية المستمرة التي تحدث في غزة، فضلًا عن الرقابة على الأصوات المؤيدة للفلسطينيين”.
وقبل أن أختتم يذكر أن “أينشتاين” سُئل ذاتَ مرةٍ: لِمَ تُعطي اهتمامًا “مبالغًا فيه” بالمستقبل؟، فأجاب: “ببساطة لأننا سنعيش بقية عمرنا هناك”. وفي السياق ذاته، وضع المؤرخ السوفياتي ” أندريه أمالريك” عام 1970 كتابه الشهير” هل يبقى الاتحاد السوفياتي حتى 1984؟” كدراسة مستقبلية توقع فيها تفككَ الاتحاد السوفياتي واختفاءَه وانهياره، وهو ما حدث فعلًا عام 1991.!!
هذه محض نماذج ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ وتعتبر “مادة خام” تنتظر من يشتغل عليها في دراسات مستقبلية تستشرف مآلات قضايانا “العربية /الإسلام” في المزاج الغربي العام.
إذ ليس بوسع أحد أن يتجاهل حقيقة أن العواصم الغربية، ما زال بيدها ناصية مراكز الثقل الحضاري، وصناعة القرارات الدولية. فمثل هذه الدراسات ليست “ترفًا” علميًا من قبيل التسلية، وإنما قاعدة يمكن البناء عليها، عساها تمهد بشكل علمي لدعم أي جهود يمكن أن تنقل العالم العربي ـ بالتدرج والتراكم ـ ومن خلال الحضور الإسلامي في أوروبا، من “هامش” العالم الذي لا يحترم إلا من له وزن وقيمة.. إلى “متنه” ليكون جزءًا منه ومشاركًا في صياغة الرأي العام الدولي، وليس محض فائض إنساني كما هو حاله الآن.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.