أنقرة- تمثل تركيا لاعبا إستراتيجيا فريدا في لوحة الشطرنج الجيوسياسية لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، بفضل موقعها الجغرافي الحساس الذي يمتد على مفترق طرق بين أوروبا وآسيا، ودورها المحوري في القضايا الأمنية الإقليمية والعالمية.

وبالعودة إلى قصة انضمامها للناتو، نجد أن مسعى تركيا للانخراط في صفوف الحلف كان يتجلى في تعزيز علاقاتها بالغرب، وخاصة مع الولايات المتحدة. ليشكل فيما بعد ركيزة أساسية في إستراتيجية الردع الدفاعية لتركيا، خاصة في مواجهة الخطر الذي مثلته ترسانة الأسلحة النووية الضخمة للاتحاد السوفياتي أثناء الحرب الباردة.

تقدمت تركيا بطلبها الأولي للانضمام إلى الناتو عام 1950، لكنه لم يلق قبولا، إذ عارضت بعض دول غرب أوروبا، خاصة فرنسا وبريطانيا، طلبها خوفا من أن يتسبب موقع أنقرة الجغرافي المجاور لدول الشرق الأوسط المضطربة، في تورط الناتو في صراعات لا ترغب هذه الدول الأوروبية في الانخراط بها، مما يعكس تحيزا في الالتزامات الأمنية وفقا للمصالح الجيوسياسية للدول الأوروبية.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال مشاركته في قمة سابقة للناتو ببروكسل (رويترز)

عربون صداقة

وبالتزامن مع اندلاع الحرب الكورية في يونيو/حزيران 1950، سعت تركيا لتقديم عربون صداقة مع الحلف وتعزيز فرصها في الانضمام له بإرسال قوات تضم 4500 جندي إلى شبه الجزيرة الكورية، ولكن طلبا ثانيا قدمته في أغسطس/آب من العام نفسه قوبل بالرفض أيضا.

في النهاية، دفعت الولايات المتحدة بقوة للحصول على موافقة على انضمام تركيا إلى الحلف، مستندة إلى الحاجة الملحة لتأمين الحدود الجنوبية الشرقية للناتو، لتنضم أنقرة إليه في 18 فبراير/شباط عام 1952.

تستضيف تركيا منشآت عسكرية هامة تابعة للحلف مثل قاعدة إنجرليك الجوية، وتنخرط بفعالية في برامج التعاون والشراكة معه، مما يعزز موقعها على الساحة الدولية. كما تشكل عضويتها فيه عنصرا مهما في الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب، وخاصة بعد توسيع الحلف عملياته في هذا المجال عقب هجمات الـ11 من سبتمبر/أيلول.

وتمثل علاقات تركيا الإقليمية نقطة اهتمام كبرى للحلف، حيث تلعب أنقرة دورا في دعم الاستقرار الإقليمي وتحسين العلاقات مع دول الجوار. وتبرز هذه الجهود في مساهمات تركيا في عمليات الناتو بشرق البحرين الأبيض المتوسط والأسود، وتكتسب أهمية مضاعفة في ظل الأزمات الإقليمية المستمرة.

قاعدة إنجرليك الجوية التركية من أهم المنشآت العسكرية التابعة للناتو (رويترز)

ركيزة أساسية

في تصريحاته للجزيرة نت، يعتبر الباحث السياسي في مركز “سيتا” للأبحاث، باقي لالي أوغلو، أن الشراكة بين تركيا وحلف الناتو بمثابة ركيزة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها.

ويوضح لالي أوغلو أن تركيا، بامتلاكها ثاني أكبر جيش في الحلف وموقعها الإستراتيجي على الخارطة العالمية، تقدم إسهامات لا غنى عنها في تأمين حدود الناتو الجنوبية الشرقية.

ويضيف أن موقعها الفريد كنقطة التقاء بين أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وجوارها الجغرافي مع روسيا، يعزز مكانتها كعامل استقرار وتوازن قوى في منطقة البحر الأسود وشرق البحر الأبيض المتوسط.

ولا تقتصر العلاقة بين أنقرة والناتو على الجوانب العسكرية والأمنية فحسب، بل تشمل أيضا العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية، خاصة مع روسيا، إذ تنتهج تركيا سياسة موازنة بين التزاماتها الحلفية وعلاقاتها التجارية والطاقية مع موسكو، مما يضفي أهمية على موقعها ضمن الحلف.

وتعمل تركيا على توسيع نفوذها وتأكيد حضورها في المجتمع الدولي، مع حاجتها للانخراط في تحالف عالمي قوي يدعم جهودها في مكافحة الإرهاب والتصدي للتحديات المترتبة على ذلك.

كما وجدت تركيا دعما من حلفاء الناتو في مواجهة التداعيات الناجمة عن الحرب في سوريا وتضامنها مع المعارضة السورية، لاسيما بعد إسقاط طائرة استخباراتية تركية في 2012، مما عكس تغييرا في مواقف الحلف تجاه أنقرة مقارنة بالماضي.

وتعهد الحلف بتأمين تركيا ضد أي تهديدات من سوريا، ونتيجة لذلك، نُشرت أنظمة الدفاع الجوي باتريوت على الحدود التركية السورية.

ويرى لالي أوغلو أن الروابط التاريخية والمؤسسية بين تركيا وحلف الناتو متينة للغاية، إذ لا توجد مشاكل جوهرية تعترض تلك العلاقات كونها معتمدة على التعاون المتبادل، مما ينشئ أهمية لا يمكن إغفالها لكلا الجانبين.

تحديات

ويضيف الباحث السياسي أن التحدي الرئيسي للناتو يتعلق بتغييرات في إستراتيجية الأمن العالمي للولايات المتحدة، التي تُعتبر القائد العسكري والسياسي والاقتصادي للحلف، إذ إن التحول نحو التركيز على منطقة المحيط الهادي والتوجه نحو الصين يتطلب من الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو أن تتولى مسؤولية أمنها بشكل أكبر.

ومع ذلك، تظل تركيا بسبب قدراتها العسكرية، وحجم جيشها، وخبرتها في الميدان، وموقعها الجيوإستراتيجي والجيوسياسي، شريكا لا غنى عنه لأوروبا، خاصة في ضوء الأحداث الأخيرة مثل الغزو الروسي لأوكرانيا الذي زاد من إدراك أوروبا للتهديدات الأمنية.

ويشير لالي أوغلو إلى أن المشاكل التي ترتبط بتركيا داخل الناتو هي ثنائية مع دول أخرى في الحلف، وليس مع الناتو نفسه كمؤسسة. فمثلا، يمكن القول إن الخلافات مع واشنطن بشأن سوريا، ومسائل الطائرات إف 35 وصواريخ إس 400، والعلاقات مع روسيا هي قضايا ثنائية وليست قضايا مع الناتو في مجملها.

كما أن مسألة انضمام السويد للناتو كانت تحديا صعبا، ومع ذلك يبدو أنها أكثر ترابطا مع العلاقات مع الولايات المتحدة بدلا من الناتو بشكل عام. إذ وافقت تركيا على انضمام السويد بعد تحقيق بعض التوقعات المتعلقة بمحاربة الإرهاب، خاصة فيما يتعلق بحزب العمال الكردستاني (بي كاي كاي) وجهود ستوكهولم في هذا الصدد.

ونوّه لالي أوغلو إلى نقاط الخلاف بين أنقرة وواشنطن بالعلاقات مع موسكو، فعلى الرغم من التاريخ المعقد بين تركيا وروسيا، فإن الدبلوماسية على مستوى القادة جعلت تركيا في موقف فريد داخل الناتو يمكنها من إقامة علاقات غير عدائية مع روسيا. وهو ما قد يُعتبر فرصة للناتو للحفاظ على السلام مع موسكو، ولكن الموقف السلبي الذي تتخذه الولايات المتحدة قد يعرقل تلك الفرصة.

ويرى محللون أن تركيا لم تعد دولة مهمشة داخل حلف الناتو، بل أثبتت خلال السنوات الأخيرة قدراتها على فرض رأيها وحماية مصالحها التي ضمنتها لها المعاهدات والمواثيق، وأرجعوا ذلك إلى التطور الذي تشهده أنقرة في المجالات الصناعية والاقتصادية وتدخلاتها المحسوبة في الدول التي قد تشكل خطرا على أمنها القومي.

وجاء رفضها انضمام السويد للحلف إلا بشروط فرضتها، إلى جانب علاقتها مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، التي تصنفها باقي دول الناتو “حركة إرهابية”، دليلا واضحا على حجم القوة التي تتمتع بها تركيا داخل الحلف.

شاركها.
Exit mobile version