الخرطوم- رغم أنها عملية يُفترض فيها السرية والحذر الشديد، لكنها لم تعد كذلك، فالدخول إلى مصر أو ليبيا عبر التهريب بات هدفا لآلاف السودانيين الفارين من الحرب المستمرة على مدى 11 شهرا.
ودون اكتراث للمخاطر الجسيمة التي تحيط برحلة مجهولة في الصحاري ووسط الجبال، يختار آلاف السودانيين خوض غمارها كآخر الحلول بحثا عن الأمان بعد فقدان الأمل في عودة قريبة للديار التي هجروها تحت دوي المدافع والرصاص.
وتزايدت أرقام العابرين للحدود بطرق غير نظامية خاصة بعد اجتياح قوات الدعم السريع منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي لولاية الجزيرة، حيث تنشط عصابات التهريب على نطاق واسع في الشريط الحدودي الذي يربط السودان بكل من مصر وليبيا.
أعداد مرتفعة
ويؤكد مالك الديجاوي رئيس برنامج “الحد من الهجرة غير النظامية والعودة الطوعية للجاليات السودانية بليبيا”، للجزيرة نت، ازدياد أعداد الفارين عبر التهريب إلى ليبيا بعد الحرب.
ويقول إن أعدادا كبيرة تدخل عبر الكفرة وطبرق قادمين من مصر، كما تصل ليبيا أعداد مقدرة من اللاجئين السودانيين في تشاد وأفريقيا الوسطى، وتقدر السلطات الرسمية -وفق الديجاوي- عدد اللاجئين السودانيين بنحو 400 ألف، ويوضح أن الأرقام لا تشمل الذين يدخلون بطرق غير نظامية وأن العدد أكثر من المذكور.
ويقول أحمد العباس، الذي وصل القاهرة الأسبوع الماضي رفقة أطفاله وعدد من أفراد أسرته، إنه اضطر للاتفاق مع مهربين لنقله إلى مصر في سيارتين اشترط على سائقيها ألا تحمل آخرين سواهم وإنه دفع لأجل هذه المخاطرة كل ما تبقى له من أموال للتخلص من تهديدات وملاحقات الدعم السريع باعتباره من كوادر النظام السابق “وبالتالي بات هدفا مشروعا”.
ويضيف للجزيرة نت “بدأت رحلتي خارج بيتي نازحا داخل الخرطوم من حي إلى آخر، تلاحقنا هجمات الدعم السريع فنغادر تحت دوي المدافع وأزيز الرصاص، غادرنا الخرطوم إلى ولاية الجزيرة وأقمنا بقرية نائية لكن بلغتنا هجمة الجنجويد وبعدت علينا الشقة هذه المرة”.
ويتابع “خرجنا إلى ولاية نهر النيل حيث لاحقونا برسائل التهديد والوعيد ثم إلى مدينة “أبو حمد” شمالي السودان نستطلع طريق اللجوء إلى مصر، أُوصدت أمامنا المنافذ الرسمية فسلكنا دربا وعرا كنا نعلم أنه قد ينتهي بنا إلى أرض الكنانة أو إلى قبر بفلاة دويّة قاحلة”.
عند أطراف سوق “أبو حمد”، يتجول رجال غامضون يعرضون خدماتهم قائلين “سنحملك على ظهر شاحنة تويوتا هايلوكس مقابل 250 ألف جنيه سوداني (250 دولارا)، وإن حجزت مقعدا داخل كابينة الشاحنة ستتضاعف قيمة التذكرة”.
يوضح العباس أن المسافرين يفضلون وضع أطفالهم ونسائهم داخل الكابينة، لكن ذلك الترف ينتهي بهم بعد ساعات لدى نقطة قريبة من الحدود المصرية يسميها المهربون “التخزينة”، وفيها تستبدل الشاحنة التي أخذتك من أبو حمد بأخرى.
ويُحشر الركاب جميعا على صندوق العربة وتنطلق بسرعة 180 كيلومترا/ساعة وتلامس في بعض الأمكنة حدود 200 كيلومتر/ساعة، وكلما أحدق خطر الرصد بواسطة حرس الحدود المصري زادت السرعة.
مخاطر ومخاوف
يخبرك أحد المهربين “عليك أن تتمسك جيدا فلن نتوقف لنلتقط من يسقط في بعض النواحي”، ولا يتردد بعضهم في تثبيت الركاب بحبال على صندوق العربة، لكن العباس يعتبر نفسه محظوظا حيث لم يضطر مهربو أسرته لفعل ذلك.
على النقيض، بدت رحلة شهد وعائلتها وأطفالها كقطعة من جهنم -كما تقول للجزيرة نت- حيث انطلقت من منطقة سيدون بولاية نهر النيل وعاشت 5 أيام وسط الجبال بعد أن أبلغهم المهربون بأن الطريق ليس آمنا وعليهم البقاء في “التخزينة” حتى ابتعاد أعين حرس الحدود المصري.
تقول شهد الطيب (اسم مستعار) إنها بعد وصولها إلى مصر في حال يرثى لها -قبل 3 أسابيع- كانت تخشى على مصير أطفالها الأربعة الذين عاشوا في السودان رعب القصف والرصاص ثم اكتملت فصول مآسيهم برؤية أهوال السفر إلى مصر بهذه الطريقة الأليمة.
وتروي كيف أن اثنين من أبنائها أوشكا على الموت بسبب المياه الملوثة التي اضطروا لشربها بعد نفاد مخزون المياه لديهم، علاوة على تعرضهم للبرد القارس وقلة الطعام إثر نفاد مالهم بفعل الأسعار “الفلكية” التي فرضها متعاونون مع المهربين في “التخزينة” على الأطعمة “البائسة” التي يقدمونها للعابرين.
وتضيف أن المهرب وضعها رفقة أطفالها وشقيقتيها مع 10 آخرين على ظهر العربة المكشوفة مقابل 250 ألف جنيه سوداني للشخص الواحد، ثم أوثقهم بالحبال واشترط عليهم ترك أي أمتعة باستثناء حقائب ظهر صغيرة لكل فرد.
وتردف “لم يلتفت لصراخنا ولبكاء الأطفال بسبب السرعة العالية في طريق وعر للغاية، خشيت أن تنقلب السيارة في أي لحظة، كنا في رتل من حوالي 20 سيارة جميعها تنطلق بسرعة جنونية، رأينا أمامنا أكثر من حادث، بعض الجثث كانت ملقاة على الطريق بينهم أطفال صغار، كان المنظر قاسيا ومؤلما. لا أصدق أننا نجونا”.
رحلة هروب
تستغرق الرحلة من “أبو حمد” في شمال السودان إلى داخل الحدود المصرية ما لا يقل عن 32 ساعة وقد تمتد أحيانا لأيام، حيث يتحرك المهربون بعد الظهر ولا يتوقفون إلا قبيل انتصاف الليل بقليل عند نقطة تحفها الجبال والصخور، يتم فيها استبدال السيارات الفارهة نسبيا بأخرى تناسب وعورة الطريق.
وفي جنح الليل، تعاود الانطلاق لساعات طويلة يمكن خلالها أن تتعرض الشاحنات لإطلاق رصاص ومطاردة عنيفة من قوات حرس الحدود المصري.
وقريبا من أسوان تتوقف الشاحنات في نقطة يطلق عليها “الكسارات” حيث يتم إنزال الركاب ليستقلوا “تكاتك” إلى أطراف المدينة ثم “ميني باص” إلى داخل المدينة ومنها إلى القاهرة، وفي هذه النقاط يشكو القادمون من الاستغلال الكبير لأوضاعهم.
وفي انتظار العباس وشهد وآلاف السودانيين معاناة لم يضعوها في الحسبان، كما قالوا للجزيرة نت، فدخولهم غير النظامي يحتم عليهم توثيق أوضاعهم لدى السلطات المصرية وهذا يتطلب دفع 1000 دولار للشخص.
كما عليهم التسجيل في مفوضية الأمم المتحدة للاجئين لكنهم لن يستطيعوا الحصول على بطاقة المفوضية -التي تكفل لهم الحماية القانونية- قبل 4 أشهر هو الموعد الذي قالوا إن المفوضية حددته للمقابلة الأولية.
إلى حين ذلك الموعد، يقول العباس إن مدخراته لن تكفيه للبقاء وكفالة الأسرة وإن عليه البحث عن طريق للعودة إلى السودان بالطريق الخطر ذاته، بينما توضح شهد أنها ستحاول البحث عن عمل لتتمكن من إعاشة أطفالها وشقيقاتها حتى يحل موعد مقابلتها في المفوضية.
وتقدر السلطات الرسمية في مصر عدد السودانيين الذين وصلوا أراضيها بعد حرب أبريل/نيسان الماضي بحوالي 500 ألف، بينما يصعب إحصاء الذين دخلوا بطرق غير نظامية، في حين تقول مفوضية الأمم المتحدة للاجئين في مصر إن عدد المسجلين بعد الحرب بلغ قرابة 240 ألف سوداني ولا يزال الآلاف يطلبون موعدا للتسجيل.
والشهر الماضي حذرت القنصلية العامة للسودان في أسوان رعاياها من الدخول إلى مصر بطرق غير نظامية، وقالت -في بيان- إن الأمر “يضع مرتكبه تحت طائلة المخاطر والمساءلة القانونية”، وتحدثت عن “وقوع حوادث مرورية وتعرُّض كثيرين إلى النهب والابتزاز من عصابات تهريب البشر”.