هداني تفكيري – وأرجو ألا أكون مخطئًا- إلى أن ما يمكن أن يقدمه لنا “طوفان الأقصى” هو التأكيد على مناهج النظر التي يجب أن تحكم تفكيرنا في القرن الواحد والعشرين التي أظن – وبعض الظن ليس بإثم- أنها تختلف كليًا عن طريقة التفكير التي حكمت القرن العشرين والتي كانت الثمانينيات من القرن الماضي بداية التحول عنها، ولكنها تعززت كثيرًا في العقد الأخير من القرن العشرين.

تستند مناهج النظر المعاصرة إلى أسس عدة، وكنا قد تناولنا في المقال السابق أساسَين من هذه الأسس ونستكمل في هذا المقال الأساسَين الثالث والرابع:

العرب والمسلمون في أوروبا وأميركا الشمالية يخرجون مع المتظاهرين من اليسار والسكان الأصليين والسود وغيرهم ضد الحرب في غزة، ولكنهم يصطفون مع اليمين المحافظ؛ لمناهضة قضية تعليم الجنس في المدارس

ثالثًا: الانطلاق من الوقائع لنعيد مناقشة الأفكار

فلا يمكن -على سبيل المثال- فهم الخطابات السياسية العربية بعيدًا عن متابعة التغير في هياكل الدولة التي يعاد صياغة أدوارها ووظائفها، وتطورات السوق/ الاقتصاد؛ الذي اختلط فيه الخاص بسيطرة الدولة والنيوليبرالي باقتصاد تقليدي لم تصله قيم النيوليبرالية ولا أدواتها بعدُ.

سمح لنا -نهج الوقائع لا الأفكار- باستدعاء كثير من الفاعلين المؤثرين في الطوفان. هنا يمكن أن نشير إلى الدول في الإقليم والعالم، كما يمكن أن نلحظ التفاعل بين هذه الدول والفاعلين من غير الدول من تنظيمات وحركات دون الدولة أو عابرة للدول، ويُضاف، إلى هذا، المؤثرون على السوشيال ميديا، والمثقّفون والفنّانون …إلخ.

يساعد هذا المنهج -أيضًا- على فهم مساحات التقاطعيّة بين المكونات المختلفة. كان مفهوم العدالة والموقف من السلطة -أية سلطة- هو الجذر الفكري الأعمق الذي جمع شتات الفاعلين الذين تظاهروا تأييدًا للفلسطينيين – كما أوضحت سابقًا في مقال على موقع الجزيرة. نت.

وفق هذه الطريقة من التحليل؛ فإن فهم بداية ونهاية حقب، يصير أكثر سهولة؛ فمع انسحاب الولايات المتحدة مدحورةً من أفغانستان – سبتمبر/ أيلول 2021- يمكن أن نتحدث عن نهاية حقبة سبتمبر/ أيلول 2001 التي ارتفعت فيها راية “الحرب على الإرهاب”، كما يمكن مناقشة الادّعاءات التي حاولت أن تربط سبتمبر الإسرائيلي بالأميركي.

الانطلاق من الواقع- لا الافتراضات الفكرية- يعني رفض أفكار التجاوز الكامل، ويؤكد على ضرورة البحث عن التجاور والتعايش والتداخل، وهنا يصبح السؤال عن أسباب استمرار ظواهر ما واختفاء أخرى، والسياقات التي تدفع لهذا أو تحول دون ذاك.

عند هذه النقطة؛ أحبّ أن أؤكد أنني لست ممن يتبنّون فكرة التجاوز والانقطاع في فهم الواقع – كما يظهر في بعض المفاهيم التي يسبقها “ما بعد”- فكاتب هذه السطور ينتمي إلى مدرسة تؤكد على فكرة التحول في الفترات الانتقالية التي تتضمن التجاور والتعايش والتداخل في أحيان بين القديم والجديد، وبين الظواهر المختلفة.

وفق هذا المنظور، يمكن النظر إلى حماس والمشروع الصهيوني: ما الذي تغيّر، وما هي عناصر الاستمرارية، وما تأثير الطوفان على مستقبلهما؟

نقطة أخرى؛ وهي: أنه لا استثنائيّة للظواهر والحركات والخطابات؛ فهي جميعًا من جهد الإنسان – الذي نفخ الله فيه من روحه- وبالتالي فالبحث عن تطوّرات الظواهر ومقارنتها مع بعضها البعض في المجتمعات المختلفة مسألة هامّة.

هذا المنهج يسمح بتجاوز الهوس بصمود المجتمع الفلسطيني الذي حاول البعض أن يلصقه به دون تحليل وإدراك كافيَين لعناصر قوته وعوامل ضعفه؛ فهو خلْق من خلق الله يعتريه الضعف والخوف وحب الدنيا وكراهية الموت، ويعني هذا كله ضرورة مساندته ليستطيع أن يصمد ويستمر في المقاومة.

نقطة أخرى؛ وهي ما أطلقت عليه في كتابات أخرى تشظّي الاستقطابات وتفتتها. العالم المعاصر تسيطر عليه القضايا والمفاهيم الجزئية من قبيل: التغير المناخي، وحقوق الإنسان، والجندر، والموضوعات المحددة التي تتفرع عن ذلك، مثل: الإجهاض، أو تعليم الجنس في المدارس …؛ لذا فإن الموقف يُرسم وفق كل قضية على حدة.

العرب والمسلمون في أوروبا وأميركا الشمالية يخرجون مع المتظاهرين من اليسار والسكان الأصليين والسود وغيرهم ضد الحرب في غزة، ولكنهم يصطفون مع اليمين المحافظ؛ لمناهضة قضية تعليم الجنس في المدارس.

أهمية الانطلاق من الواقع يعني ضرورة الاتجاه لإصلاح الهياكل والبنى ومعالجة السياقات التي أنتجت المشاكل، ولا يصرف طاقتنا إلى الجدل في الأبعاد الثقافية دون تأثير على واقع الناس. وهي الظاهرة التي أطلق عليها البعض “جمهورية الجدل”، خاصة أن التفاعل على السوشيال ميديا يصرف كثيرًا من الطاقة عن تغيير الواقع.

رابعًا: إعادة صياغة الأسئلة مع التحرر من القديم منها

في كل مرحلة تاريخية كانت هناك أسئلة مركزية انشغل بها الفكر، وتمحورت الجهود حولها، لكنها كانت في النهاية محصلة تفاعل بين تطور عنصرَين أساسيين: هيكل الدولة، وطبيعة الاقتصاد.

مع كل تطور تشهده هياكل الدولة العربية وصيغة الاقتصاد المطبق بها وعلاقته بتطورات هياكل الاقتصاد الدولي، نشهد تداعيات متشابهة على الخطابات السياسية والثقافية السائدة. الحديث في الحضارة والنهضة نشأ في هذا السياق وتأثر بهذين العاملَين أساسًا.

في الزمن المعاصر انصبّت هموم المواطن العربي على العيش الكريم الذي يقومُ على الكرامة الإنسانية ويستند إلى عدالة التوزيع للفرص، والموارد، والدخل والثروة.

قد يساعدنا مفهوم التعددية – الذي هو ابن أصيل لرسم الخرائط التفصيلية كما قدمت- في إعادة النظر في الأسئلة السائدة، والبحث عن جديدة.

وَفق ذلك يمكن التساؤل عن التقاطعية التي يستند إليها الحراك العالمي المساند للفلسطينيين: كيف تحقق؟ وما مستقبله؟ وما تأثيراته على السياسة الغربية تجاه القضية؟

عدم الاكتفاء بتأكيد الظواهر كما كانت، وإنما إدراك سياقاتها وخصائصها المستجدّة أمر هام.

من سمات الأسئلة المعاصرة أنها أسئلة تتعلق بمجمل البشرية، وهي في جوانبها المختلفة تخص الإنسانية المشتركة، صحيح أن تبدياتها تأخذ طابعًا محليًا، ولكن يجمعها جوهر واحد. نحن بصدد اشتراك في القيم؛ لأنها إنسانية عامة، وتعدد في مداخل وطرق تحقيقها.

إن البدء بأسئلة جديدة أو إعادة النظر فيما كان مطروحًا، يقتضيان التحرر من الديباجات الفكرية لاكتشاف السياسة الكامنة خلفها، والمصالح الاقتصادية التي تتطلع لتحقيقها.

أنا أدرك أن هناك صراعًا على المعايير التي يجب أن تحكم عمل المؤسسات الدولية، وفي المجالات المختلفة كالإنترنت، والتغير المناخي، والتجارة الدولية، والذكاء الصناعي…، ولكنه صراع ليس من طبيعة حضارية؛ بل تغلب عليه المنافسة السياسية، والبحث عن تحقيق المصالح الاقتصادية.

مفهوم صراع الحضارات الذي صاغه عالم السياسة الأميركي هنتنغتون كان يستهدف خدمة الهيمنة الأميركية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة التي استندت إلى القطب الواحد، والخطابات الدينية التي استخدمت من الساسة الإسرائيليين والغربيين كان مقصدها حشد وتعبئة قطاعات من الرأي العام خلف قادتهم في معركة ليست من طبيعة دينية، كما أكدت حماس في وثيقتها التي أصدرتها أواخر الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني 2024).

نقطة أخيرة؛ فقد يخفي التنافس والصراع، البنى المتشابهةَ التي يستند إليها المصطرعون. بنية الاقتصاد الصيني والأميركي هي من طبيعة رأسمالية، وإن اختلفت بينهما مساحات تدخل الدولة. وهم حين يتنافسون على المعايير التي يجب أن تحكم النظام العالمي، فإنهم يستهدفون تحقيق مصالحهم الذاتية.

اتفاقات التطبيع التي أطلق عليها أبراهام أدت في النهاية إلى تحالف بين الرأسماليات الكبيرة في الخليج وفي إسرائيل، وكانت محصلتها في النهاية على حساب المواطنين العاديين في كلا الجانبين.

تتشابه الرأسماليات الكبرى في كل مكان بغض النظر عما تتدثر به من غترة وعقال أو برنيطة إفرنجية أو الكيباه اليهوديّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version