كتبتُ في مقال سابق على الجزيرة نت، عن السيرة النبوية المقارنة، وأن هذا اللون من الكتابة قليل، بل جديد لم يُكتب فيه بعد، وأن هذا اللون من الكتابة يخدم سيرة النبي  محمد- صلى الله عليه وسلم – خدمة كبرى، فإن معظم مسارات الكتّاب، سارت في سياقات علمية معينة، إما السرد التاريخي منذ الولادة وحتى الوفاة، أو السرد الموضوعي للسيرة، وأن اللون الجديد الذي ندعو للكتابة فيه وخدمته: أن نمسك بحدث غير الأحداث الكبرى المعروفة، ونبحث فيمن كتبوا فيه، وكيف تناوله كل كاتب من زاوية مهمة، عند جمع هذه الزوايا من الكتّاب المختلفين، سنحصل على صورة متعددة الجوانب والألوان الفكرية والأدبية حول السيرة النبوية.

وكنت ذكرت مثالًا دعا إليه الدكتور محمد رجب البيومي، وهو يوم وفاة إبراهيم ابن النبي – صلى الله عليه وسلم- وألمحت إلى نظرات مماثلة ومقتطفات مختلفة عند آخرين، وكان للمقال صدى طيب لدى بعض المختصين والمتابعين، فطلبوا الكتابة في نموذج آخر، ليتّضح به الحديث، واخترت موضوعًا أو حدثًا لا يستغرق في تناوله عند كتاب السير سوى أسطر، لكن الباحث عند الكتابات التي حللت وسبرت غور ما بين السطور، سيجد نظرات عظيمة لهذا الحدث، ذات دلالات قيمة، لا تقف النظرة فيها عند هذا الحدث البسيط فقط.

أبو أمية: (في غضب) من هذا الرجل؟ قريش: هذا شيخ من نجد. أبو أمية: بل إنه الشيطان.. أغرب أيها الرجل، لا شأن لك بما نحن فيه. إن هذا الغلام لخليق أن يجمع رأي العرب يومًا، وأن يوحد الناس..).

موجز قصة وضع الحجر الأسود

الحدث هو بناء الكعبة المشرفة، ووضع الحجر الأسود في موضعه بعد البناء. وموجز القصة: أن قريشًا والعرب، عزموا على بناء الكعبة بعد أن تهدم الكثير من بنائها، وقاموا بالبناء بالفعل، بعد أن شرطوا ألا يضعوا في بنائها ما كان من مال حرام، واكتمل البناء، وبقي أن يوضع الحجر الأسود في موضعه، وتنازعت القبائل على نيل هذا الشرف، وتحولت المنافسة لنيل شرف وضع الحجر، إلى تنافس بالسيوف والقتال، وفي ظل احتدام النقاش، اهتدوا لفكرة التحكيم، وهي: أن يحكم أول من يدخل عليهم من باب الصفا، وينزل الجميع على حكمه، وهو تحكيم أقرب منه للقرعة.

وكان الذي دخل عليهم هو محمد – صلى الله عليه وسلم- فارتضوا حكمه، وبسط رداءً، وطلب من كل قبيلة أن تمسك بطرف منه، ووضح الحجر الأسود في الرداء، ثم قام بوضعه في مكانه، وقد نزل الجميع على حكمه، وارتضوه، وإن حاول الشيطان أن يوغر الصدور عليه، بتحريض أحدهم باللوم عليهم أن يحكموا شابًا صغيرًا في أمرهم.

وقفات الأدباء مع القصة

هذا مجمل القصة، لكن الأقلام التي تناولتها على كثرتها، كل أخذ بطرف منها، مستلهمًا الدرس والعظة، بل منهم من أعاد الصياغة بشكل أدبي مبهر، تشعر مع كل واحد عندما تقرؤُها، أنك تقرأ قصة أخرى غير ما تعرف وتحفظ، ونبدأ بالأدباء والمفكرين، ثم بالعلماء الأدباء من علماء الأزهر.

أما توفيق الحكيم وهو أديب وروائي، وكان كتابه بعنوان: (محمد الرسول البشر)، وقد كتب السيرة بلغة حوارية أدبية، محافظًا قدر استطاعته على أحداثها كما وردت، لكنها بصيغة حوار وسيناريو يمكن تصوره وتصويره، فقال عن وجهة نظره في الحدث ودلالته، ولكن على لسان أحد الحضور للحدث آنذاك، وقد نقل عبارة الشيطان لتحريض قريش على حسد محمد – صلى الله عليه وسلم – لحكمته وحكمه، فقال شيخ من العرب (الشيطان): يا معشر قريش، أرضيتم أن يضع هذا الركن وهو شرفكم، غلام يتيم دون ذوي أسنانكم؟!

أبو أمية: (في غضب) من هذا الرجل؟ قريش: هذا شيخ من نجد. أبو أمية: بل إنه الشيطان.. أغرب أيها الرجل، لا شأن لك بما نحن فيه. إن هذا الغلام لخليق أن يجمع رأي العرب يومًا، وأن يوحد الناس..).

أما طه حسين في كتابه: (على هامش السيرة) والذي كتب السيرة النبوية بأسلوب الحكّاء، في لغة أدبية عالية، لا تخلو من تأمل فلسفي، فصور الموقف بما يؤمن به، لكنه على لسان الراوي، فقال: (فلا يلبثون أن يدخل عليهم من الباب رجل شاب، لم يروَ أجمل منه طلعة، ولا أعظم منه هيبة، ولا أحسن منه سيرة في قومه. سمعت من أنبائه الشيء الكثير.

ولكني استيقنت أنه رجل عظيم الخطر، حين رأيتهم ينظرون إلى مقدمه مبتهجين ويصيحون: “هذا الأمين، قد رضينا، هذا محمد، قد سلمنا” ثم يعرضون عليه الخصومة، فما رأيت وقارًا كوقاره، وما رأيت أناة كأناته، وما رأيت هدوءًا كهدوء نفسه، وما رأيت رجلًا أرفق منه بقومه، وأعطف منه عليهم، وآثر منه لهم بالخير، وانظروا إلى قضائه فيهم، فسترون كما أرى أنه لم ينتج عن تفكير إنسان، وإنما كان إلهامًا من الله… وقد اطمأنت قلوبهم إلى هذا العدل، واستبشروا بما كف عنهم من الشر، وبما عصم لهم من الأنفس، وحقن لهم من الدماء).

وقفات المفكرين والعلماء

إذا غادرنا الأدباء، ولم ينتهِ بعدُ عطاؤهم، ولكننا اقتبسنا بعض عباراتهم، وهناك آخرون بلا شك أبدعوا في هذا السياق، وإذا انتقلنا إلى الأدباء من المشايخ والعلماء، في تحليلهم للحادث، فقد اعتبر الشيخ الغزالي ما قام به النبي – صلى الله عليه وسلم – حلًا حصيفًا رضي به القوم، فقد كانت من قبل رؤيتهم لمحمد – صلى الله عليه وسلم- مثار تيمّنهم واطمئنانهم، وهذا يدل على سناء المنزلة التي بلغها فيهم.

أما محمد رواس قلعجي في كتابه: (قراءة سياسية للسيرة النبوية)، فقد نظر للأمر من زاوية أخرى مهمة، حيث يقول: فتوجهت الأنظار إلى محمد، ولهج الناس بذكره، واعتبروا ذلك دليلًا على سعة مداركه، وسرعة تصرفه بحكمة في الأزمات، وهو ميدان أولي العقول الراجحة. فكان ذلك رصيدًا له يفيده في المستقبل عندما يدعو الناس إلى الله، ويتسلم عصا القيادة في دولة الإسلام.

أما خالد محمد خالد المفكر والأديب، فقد نظر نظرة من بعيد على الحدث، نظرة تربط بين الحدث وبين رسالة هذا النبي، وعلاقته بالمختلفين، سواء مع أتباع الملل أو النحل التي سيلقاها في حياته، وتواجهها دعوته ورسالته، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – بسط رداءً وجعل كل قبيلة تمسك بطرف، ليتشارك الجميع، وهو ما عبر عنه خالد بأن المعنى هنا معبر عن أسلوب نمط تفكير لديه، وهو التوفيق بين المختلفين، فيما يعد قاسمًا مشتركًا بينهم.

ويكون بذلك منهجًا وسطًا، يبتعد عن الإفراط أو التفريط، يحاول تقريب من فرط أو أفرط، دون تنازل منه عن الحق والحقيقة، فهو منهج توفيق لا منهج تبرير أو نفعية، فقد كانت طريقته في حل هذه المشكلة إرهاصًا للمنهج الذي سيتبعه في حل مشكلات الناس فيما بعد، ومشكلات الخلاف بين أتباع الديانات المختلفة.

كما دلَّ فعله على الطريقة التي سيُخرج بها الناس من حَيرتها وضلالها، إلى الهدى والسلم، فإنّ من أخرج قريشًا من حَيرتها يوم التحكيم، سيقدر له في غدٍ أن يخرج العالم كله من حَيرته وضلاله، مرسلًا إليه من ربّ العالمين.

أما الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فقد أخذ من الحادثة أنها دليل على بيان مدى حكمته – صلى الله عليه وسلم – في تدبير الأمور، وسياسة القضايا، وقطع دابر الخصومات، وبين من؟ بين أقوام قلما قامت بينهم خصومة ثم نامت قبل أن تراق فيما بينهم بسببها الدماء. وقد وصل بهم الخلاف كما تعلم إلى درجة كاد أن ينشب فيما بينهم القتال.

وأحال البوطي ما قام به – صلى الله عليه وسلم- إلى ما اختاره الله له من القيام بعبء الرسالة والنبوة، قبل أن نحيلها إلى العبقرية التي جبل عليها، والذكاء الذي فطر عليه. فالأساس الأول في تكوينه -عليه الصلاة والسلام- أنه رسول ونبي، ثم تأتي المزايا الأخرى كلها من عبقرية ودهاء وذكاء مبنية على هذا الأساس ولاحقة به.

ويمكننا أن نضيف كذلك إلى من سبقوا، أن الحدث ربما نظر إليه البعض على أن هذه الفرصة التي أتت للنبي – صلى الله عليه وسلم- كانت مباغتة ومفاجئة، وعن غير إعداد، وهذه زاوية، لكن الزاوية الأهم، أن كثيرًا من الناس قد تأتيهم الفرصة المباغتة للتعبير عما لديهم من مواهب وملكات، لكن تأتيهم الفرصة غنيمة باردة، فتذهب أدراج الرياح دون فائدة تذكر، فلولا ما هُيئ له محمد – صلى الله عليه وسلم- من إعداد، وملكات ومواهب، ذات علاقة ببشريته ونبوته معًا، وإعداده لذلك، ما برزت هذه الحكمة، فالإنسان العميق وما لديه ما يقدمه، يكون بانتظار الفرصة فقط، ليبرز للناس ما لديه، وليثبت جدارته واستحقاقه فيما نبغ فيه.

هذه بعض مقتطفات من تأملات الأدباء والمفكرين في هذا الحدث، وقد تناولها آخرون، سواء من المستشرقين، أو أدباء انطلقوا في كتابة السيرة من المنهج المادي، بحكم ما اعتنقوه من مذاهب معاصرة كالشيوعية، أو غيرها، ومع ذلك جاءت كتاباتهم – وإن لم تخلُ من ملاحظات – مسلطة الضوء على نقاط مهمة، تضيف ومضات إلى السيرة النبوية العطرة، وتعضد ما دعونا للمضي فيه قدمًا في دعوة الباحثين والكتّاب، إلى ولوج هذا الباب المهم في سيرة المصطفى، صلى الله عليه وسلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version