تكشف تسمية “أدب الرحلات” عن طبيعته ومجاله، فهو “أدب” من ناحية منظوره وموارده وصياغته، بما يتطلبه ذلك من لغة وبناء وتصوير، وأما مضمونه فيتصل بتصوير رحلة أو رحلات يقوم بها المؤلف/الرحالة، أي أنه ينهض على تجربة مباشرة وعلى رحلة فعلية، ثم تتم محاولة تحويلها إلى مادة أدبية لغوية تحاول أن تنهض بمهمة تقديم صورة أمينة ومؤثرة لمشاهدات الرحالة وانطباعاته وملاحظاته.

يعرّف أدب الرحلات -اصطلاحيا- بأنه “مجموع الآثار الأدبية التي تتناول انطباعات المؤلف عن رحلاته في بلاد مختلفة، وقد يتعرض المؤلف فيها لوصف ما يراه من عادات وسلوك وأخلاق، ولتسجيل دقيق للمناظر الطبيعية التي يشاهدها أو يسرد مراحل رحلته مرحلة مرحلة، أو يجمع بين كل هذا في آن واحد. وقد اشتهر العرب بأدب الرحلات، ومن أهمها رحلة ابن بطوطة. ويعتبر أدب الرحلات إلى جانب قيمته الترفيهية أو الأدبية أحيانا مصدرا مهما للدراسات التاريخية المقارنة، وذلك خاصة بالنسبة للعصور الوسطى، كما أن علماء الأدب المقارن اعتبروه قسما من أقسام هذا الأدب في تصنيفه الحديث”. (مجدي وهبة وكامل المهندس، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مكتبة لبنان، ط2، بيروت، 1984، ص17).

اقرأ أيضا

list of 2 items

list 1 of 2

قصائد مهداة للشهداء.. “كريشة يحملها هواء خفيف” للشاعر موسى حوامدة

list 2 of 2

“البحر الأسود المتوسط”.. انكسارات إنسان المنطقة بعد الربيع العربي

end of list

هذا الصباح-كيف صور أدب الرحلات شعوب أميركا اللاتينية؟

ويبدو فن الرحلات فنا أصيلا عند العرب، وإذا نظرنا فيه نجد مدى ممتدا بين الدراسة السردية والحضارية، مثلما تمتزج في بعض نصوصه ملامح من السيرة الذاتية، وبسبب من طبيعة التجربة الذاتية التي تكشف عنها الرحلة، يظل هذا الفن حيا مشوقا بما فيه من إشراق الرؤية وغرابة المشاهدة ومتعة القراءة، أي بما يحيل إليه الفن وخصوصية منظوره عامّة.

وترتبط “قصص الرحلات” بالانتقال مكانا وزمانا إما في بلاد العرب والمسلمين في المشرق والمغرب، وإما بتجاوزها إلى بلاد بعيدة أو غريبة ، ويتسنّى للرحالة أو المرتحل أن يشاهد ويعايش أحوالا وأهوالا مختلفة، ويرى حياة شعوب وأمم، فيكون الأسلوب السردي أقرب الأساليب وأنسبها ليقصّ على الناس ما جرى له، ويشتمل هذا النقل على نوع من التثقيف والتعريف بأناس آخرين ومجموعات بشرية أخرى غير العرب، كما يشتمل على إمتاع الناس، وخصوصا عند توسّع الأسلوب القصصي عبر سرد حكايات وأساطير وغرائب مما سمعه أو شاهده المؤلف أو الرحالة.

منابع أولى

ويمكن أن نجد لقصص الرحلات جذورا في الشعر العربي قبل الإسلام، فقد كان مشهد الرحلة جزءا أساسيا في القصيدة العربية القديمة، وهي رحلة الصحراء التي لا يلتقي الشاعر فيها بأحد من البشر، كما أنه يقوم بها وحيدا، مستخدما ناقة قوية صلبة، تجوز به الصحارى، وتنتقل به من مكان إلى مكان، حتى تغدو ضعيفة هزيلة آخر الرحلة، وهذه الرحلة قصة نمطيّة متكررة في الشعر القديم، وقد التفت إليها الدارسون والباحثون، وذهبت بعض الآراء بها مذهبا طريفا، إذ عدّتها رحلة رمزيّة لا صلة لها بالواقع الحقيقي، فهي رحلة ذهنية أو وجدانية، تتمّ في خيال الشاعر، وليس في واقعه، فقد لاحظ الباحثون أن الرحلة الصحراوية للشاعر الجاهلي رغم أنها تنجز على أرض الصحراء ظاهريا فإن الشاعر يحتكم فيها إلى منطق السماء، وإلى المجموعات النجمية التي وصفها العرب في السماء.

ولذلك يمكن اعتبار رحلة الشاعر الجاهلي رحلة رمزية شبيهة برحلة جلجامش التي وصفتها الملحمة السومرية الشهيرة، أي أن غاية هذه الرحلة تتمثل في البحث عن الخلود، وعن سرّ الحياة، فكأن الشاعر يريد أن يهتدي إلى طريق توصله إلى الشمس، بكل ما تحمله من رمزية دينية وأسطورية في التفكير العربي القديم. وتمر في رحلة الشاعر الجاهلي قصص فرعية مؤثرة، تتصل بحيوانات الصحراء، والصراع الذي يدور بينها، في صورة تمثيل مؤثر للصراع الإنساني نفسه، وما يتعرض له الكائن الحي من اضطهاد وقلق.. وخصوصا: قلق الموت الذي ظلّ لغزا محيرا للإنسان في كل العصور. وقد دافع المرحوم نصرت عبد الرحمن وغيره من أصحاب التفسير الرمزي والأسطوري عن رمزية هذه الرحلة بالرغم مما فيها من طوابع واقعية يمكن أن تكون أساسا للدلالة الرمزية.

وفي التراث الإسلامي المبكر، نظفر بقصة بديعة، هي قصة “الإسراء والمعراج”، التي ارتحل فيها النبي الكريم من مكة إلى بيت المقدس، ومنها صعد أو رحل إلى السماء، في صورة رحلة معجزة لا تنطبق عليها شروط الرحلة البشرية، وقد عني القصاص المسلمون بهذه القصة، وتحولت عندهم إلى قصة تفيض بالأحداث المشوقة الغريبة، وقد فتحت هذه القصة بوابة للسرد العربي والإنساني، من خلال تطور فكرة الرحلة إلى العالم الآخر، ووصف ذلك العالم وكائناته وأحواله.

وقد استلهم فكرتها الفيلسوف العربي أبو العلاء المعري فكتب قصّته الشهيرة “رسالة الغفران”، وفيها يقوم بطل القصة برحلة سماوية ينتقل فيها بين الفردوس والجحيم، ويقابل عددا كبيرا من الشخصيات في العالمين، ويدير حوارات مشوقة معهم، ففي عالم الفردوس يلتقي بطل الرحلة ببعض الشعراء القدامى من مثل: الأعشى، شاعر الخمر في الجاهلية، عندما يستغرب الراوي وجوده في الجنة، يجيب بأن قصيدته الدالية التي امتدح فيها النبي الكريم قد شفعت له، لكن اشترط عليه ألا يشرب الخمر في الجنة، وكذلك أمر زهير بن أبي سلمى، وعبيد بن الأبرص والخنساء وغيرهم .

أبو العلاء المعري.. فيلسوف الشعراء (الجزيرة)

أمّا شعراء النار فمنهم: امرؤ القيس، وعنترة بن شداد، وعمرو بن كلثوم، وطرفة بن العبد وغيرهم. وفي سائر صوره ومشاهداته الخيالية بدا المعرّي متأثرا بصور عالم الآخرة كما صوّره القرآن الكريم والآثار الإسلامية عن الثواب والعقاب، فضلا عن ثقافته الأدبية واللغوية، ومقدرة تخيلية خلاقة مكّنته من أن يخلّف أثرا قصصيا كبيرا، لا يزال حتى اليوم علامة سردية خالدة، وقد تأثر بها الأدباء والقصّاص في الغرب والشرق، كما هو حال “دانتـي” مؤلف “الكوميديا الإلهية، وجون ملتون فـي كتابه الشهير “الفردوس المفقود”.

وفي العصر العبّاسي نظفر ببدايات فن الرحلة كفن نثري قصصي مدون أو مكتوب، ولعل رسالة ابن فضلان في وصف رحلته إلى بلاد الترك والروس والصقالبة، من أقدم نصوص الرحلات القصصية، إذ قام بها في بداية القرن الرابع الهجري وسجّلها في رسالة قصصية مميّزة سنحاول -لاحقا- أن نعرض جوانب ممّا ورد فيها. وبعد ابن فضلان تتوسّع الرحلة فنجد رحلة ابن بطوطة التي اشتهرت بين الناس، رغم أن ابن بطوطة رحالة وليس كاتبا، ولذلك استعان بمحرّر أو كاتب ليصوغ له رحلته صياغة أدبية، ومع ذلك فهي أشهر كتب الرحلات العربية، وقد أفاد بها وعارضها سرديا روائي العرب نجيب محفوظ في رواية تحمل اسما مماثلا أو موازيا هو “رحلة ابن فطّومة”.

وهناك “رحلة ابن جبير” في القرن السادس الهجري، وابن جبير أندلسي رحل إلى المشرق الإسلامي مدّة 3 سنوات، ثم سجل رحلته في كتاب قصصي عرف باسم “رحلة ابن جبير”، ووصف فيها أحوال المشرق الإسلامي وخصوصا في حقبة الحروب الصليبية، كما وصف “بيت المقدس” الذي يعد علامة مميزة في الرحلة الإسلامية، فكأن الرحالة لم يألوا جهدا في بلوغه وزيارته تبرّكا بزيارة النبي الكريم له في رحلة الإسراء والمعراج، وتقديرا لمكانته وجاذبيته عند المسلمين، فهو أحد المساجد التي لا تشدّ الرّحال إلا إليه، كما ورد في الحديث المشهور.

دوافع الرحلات

ذكر المصنفون في مجال الرحلة دوافع كثيرة أسهمت في دفع الناس إلى الرحلة، ثم شجعتهم على تسجيل تجاربهم لتكون مادة يغترف منها الآخرون خلاصة الخبرة الإنسانية، وهي تشمل دوافع كثيرة منها (انظر: فؤاد قنديل، أدب الرحلة في التراث العربي، ص19-20).

 أولا: دوافع دينية:

تتمثل -عند المسلمين- القصد إلى حج بيت الله الحرام، ذلك أن الحج ركن من أركان الإسلام، يجهد المسلم في القيام به مهما تبعد به الدار، ولذلك فمن المألوف أن تنشأ أكثر الرحلات عن القيام بهذا الحج، وقد تتسع بعده إلى الرحلة الدنيوية التي تشمل زيارة البلدان التي يمر بها المرتحل، كما فعل ابن بطوطة، وابن جبير وهما من أشهر الرحالة العرب، فقد انطلقا من الدوافع الدينية ولكنهما لم يلزما حدها ولم يكتفيا بها.

وفي المكتبة العربية عشرات الكتب التي وثقت الرحلات الحجازية أو الرحلات إلى مكة والمدينة، ومعهما غالبا مدينة القدس التي يغلب أن يزورها الحجاج المغاربة خاصة في طريق حجهم أو رجوعهم. ويقرب من هذا الدافع ما نجده في رحلات الغربيين إلى بلاد العرب وغير العرب لزيارة الأماكن المقدسة “المسيحية”، ومنها الرحلة إلى بيت المقدس، لما فيها من أماكن دينية، وما يتفرع عنها ويقرب منها من أماكن لها صلة بحياة المسيح وتاريخ المسيحية في الشرق العربي.

ثانيا: دوافع تعليمية وعلمية:

وذلك عندما يرحل طلبة العلم من بلد إلى بلد للقاء العلماء والشيوخ ومن يمكن أخذ العلم عنهم، وكانت مثل هذه الرحلات قديما وحديثا من أهم طرق نيل العلم، ومن أهم دوافع الرحلة العلمية. منها في عصرنا رحلة رضوى عاشور الناقدة والكاتبة المصرية المعروفة التي كتبتها بعنوان “مذكرات طالبة مصرية في أميركا” عن رحلتها لدراسة الدكتوراه. منتصف سبعينيات القرن الـ20.

ثالثا: دوافع سياسية:

وتشمل الرحلات التي تتم بطلب من الحاكم أو الخليفة قديما لأداء مهمة رسمية، أو القيام بسفارة أو وفادة لإبلاغ زعيم آخر رسالة الحاكم المسلم، ومن أمثلتها رحلة سلام الترجمان ورحلة ابن فضلان قديما، فهما رحلتان نشأتا لأسباب سياسية. وتشمل هذه الطائفة رحلات المفاوضات والسفارات وما يقرب منها مما له صلة بشؤون الدولة وعلاقتها بغيرها من الدول، ومن أمثلتها “رحلة الوزير في افتكاك الأسير” لمحمد الغساني (ق17) وتدور حول محاولة النهوض بدور السفارة والمفاوضة لتحرير الأسرى المسلمين في إسبانيا.

رابعا: دوافع استكشافية وسياحية:

وقد يكون هدفها استكشاف بلاد جديدة، ووصفها، كما هو الحال في المصنفات الجغرافية التي تعتمد على الاستكشاف الميداني للبلدان والمواضع والتضاريس التي تعرف بها. وقد يمتزج هذا الدافع بأسباب سياسية كما يبدو لنا من تلك الرحلات الاستكشافية إلى بلاد العرب، تلك التي سبقت الحركة الاستعمارية ورافقتها، فهي تهدف إلى تقديم معلومات إلى دوائر الاستعمار للإفادة منها في السيطرة على بلاد جديدة لا يعرفها قادة الاستعمار.

وهناك دوافع أخرى تتشابك مع ما سبق، مثل: السياحة، والدوافع التجارية والاقتصادية، والدوافع الصحية، ونحوها، فكل سبب يدفع المرء للارتحال والانتقال من بلد إلى بلد يمكن أن يمثل دافعا للرحلة، ولكن المهم هو أن يكتب صاحب التجربة وصفا لرحلته ومهمته، ويكون لديه القدرة والكفاءة لالتقاط الأمور المهمة التي تستحق التسجيل، والمقدرة على التعبير عنها من خلال اللغة والأسلوب الأدبي الذي ينقل الرسالة التي يريد مؤلف الرحلة إبلاغها وتثبيتها.

أدب الرحلات: نوع عابر للاختصاصات

يمكن النظر إلى أدب الرحلات بوصفه نوعا عابرا للاختصاصات، فهو بطبيعته منطقة تتقاطع فيها مجالات عديدة: أدبية ولغوية وجغرافية وتاريخية وسياسية وحضارية وثقافية.. وغيرها.

وعلى سبيل المثال، فإن الجغرافيا بما تحيل إليه من وصف البلدان وبيان حدودها وتضاريسها ومعالمها تتداخل مع طائفة من نماذج أدب الرحلة التراثية أو القديمة، ذلك أن أدب الرحلة ضرب من الأدب الجغرافي من هذه الناحية، ولذلك لم يكن المستشرق الروسي أغناطيوس كراتشكوفسكي بعيدا عن الصواب حين سمّى هذا المجال كله بالأدب الجغرافي، وجعل الرحلات قسما أو موردا أساسيا من موارده، فالرحلات كانت مصدرا جغرافيا مهما لاستكشاف الأرض ونواحيها وجغرافيتها الطبيعية والبشرية. والمصادر الجغرافية العربية الأولى قامت على تجارب واسعة من الرحلة ولم تقم على المصادر المكتوبة أول الأمر.

ومن منظور الأدب السردي، فإن الرحلة -من منظور السرديات- تعدّ نوعا من أنواع السرد، إنه نوع أدبي مستقل له خصوصيته وطبيعته وأسلوبه. وقد أسهمت الرحلة في تطوير بعض الأساليب السردية وأسلوب الوصف بشكل خاص نظرا للحاجة إليه في وصف الشخصيات والأماكن ونحوها مما يحتاج إلى وصف دقيق في غياب التصوير قديما، وإذا كنا اليوم نستخدم آلات التصوير وكاميرات الهواتف الرقمية، فإن الأمر قديما مختلف تمام الاختلاف، وقد نشطت اللغة للقيام بهذه الوظيفة التصويرية مع ما يصاحب ذلك من تفنن في نقل المواقف والأحداث والصور والمشاهد.

ويضاف إلى ما سبق إسهام أدب الرحلة فيما يدعى بالأدب العجائبي والغرائبي، ويشمل قصص المخلوقات والموجودات والأحداث العجيبة والغريبة التي يلتقطها الرحالة، وهناك قصص عجائب البر والبحر والأسفار وهي معروفة ككتب مستقلة، أو ضمن كتب الرحلات نفسها.

وفي مجال الدراسات اللغوية والمعجمية، فكثيرا ما تنفتح الرحلة على أسماء وألفاظ تخرج عن المعجم اللغوي المعترف به، إذ يستعمل الرحالة ألفاظا من لغات أخرى أو من المحكيات والعاميات، ومن الألفاظ الحضارية التي لا نجدها في المعاجم، مما يتيح ألوانا من دراسة هذه الألفاظ وتتبع تأصيلها ودلالاتها. وينقلنا ذلك إلى الدراسات الثقافية: وتشمل اهتمام أدب الرحلات بالثقافة (ثقافات الشعوب والمجتمعات الأخرى)، ولذلك كانت الرحلة من أوائل مصادر علوم نشأت لاحقا مثل: الإثنوغرافيا، والأنثربولوجيا، والثقافة الشعبية أو الفلكلور ونحوها.

وتشمل بصورة أعقد دراسات الهوية، واستكشاف صورة الذات والآخر عبر ما تتيحه الرحلة من معاينة المختلف الذي يدفع إلى فهم الذات ومعاينتها ومعرفتها، فينشأ من ذلك وعي بالهوية والاختلاف.

شاركها.
Exit mobile version