كانت المعاناة ولا تزال ملهمة للنصوص الأدبية منذ قديم الزمان، فلا إبداع بلا معاناة كما قال الفلاسفة؛ إذ مثلت قدرة الإنسان على الكتابة وتحويل الألم والعزلة إلى كلمات نوعا من المواساة والعزاء والتحرر لا سيما حينما يضيق المكان ويتسع الزمان للتأمل كما في زنازين السجون وعتماتها الضيقة، ومع تاريخ طويل من محنة السجون السورية وآلامها تعددت حكايات الحرية وأصواتها الآتية من صيدنايا، تدمر، المزة العسكري وغيرها من السجون التي حاولت سلب إنسانية المعتقلين بأهوالها المرعبة لكنها لم تكسر أقلامهم التائقة للحرية.

ما كان لتلك التجارب أن تمر هباء، دون أن يسجلها ويحكي عنها كثير ممن اعتقلوا من الكتاب والمثقفين وأصحاب القلم، أو حتى ممن رأوا هذا الظلم ولم يستطيعوا السكوت عنه، وولدت -من رحم المعاناة- روايات وأشعار وقصائد وكتب تحمل شهادات المعتقلين وعائلاتهم، وتوثق ما ذاقوه من جحيم خلف القضبان، وتبقى تلك الذاكرة الأليمة في أذهان الجميع، حتى لا ينسوا هؤلاء المعذبين، الذين ناضلوا من أجل الحرية، ولم تُخفهم معارضة النظام الظالم المستبد.

برامج متفرقة - تدمر.. حدثني السجين والسجان

وصاغت العديدُ من تلك اليوميات والروايات فنون الألم وسردت صنوف التعذيب الجسدي والنفسي، وانتهاك الإنسان وكرامته، ومنها كتاب “بالخلاص يا شباب.. 16 عامًا في السجون السورية” لياسين الحاج صالح، والذي سرد فيه تجربته الطويلة في السجن، ورواية “القوقعة.. يوميات متلصص” للكاتب مصطفى خليفة الذي لسخرية القدر اعتقل بتهمة الانضمام لجماعة “الإخوان المسلمين” رغم أنه مسيحي، بالإضافة إلى رواية “خمس دقائق وحسب.. تسع سنوات في السجون السورية” للكاتبة هبة الدباغ، التي اعتقلت بدلا عن أخيها، رغم عدم انتمائها لأي فصيل سياسي، وكشفت فيها أحوال النساء في سجون النظام وأشكال العذاب التي ذُقنها، ومرارة فراق الأهل والعائلة.

واليوم بعد أن فُتحت السجون السورية وتحرر المعتقلون عقب سقوط نظام الأسد الابن والأب، أضحت فصول المعاناة المسطورة تلك شاهدا تاريخيا على أكثر من نصف قرن من حكم البعث، وصارت عذابات المعتقلين والناجين قصصا تروى بعد أن كانت صرخات تدوي في جحيم سجون النظام السوري. يستعرض هذا التقرير بعض نماذج أدب السجون السوري التي تنوعت بين نثر المذكرات واليوميات وقصائد الشعر والروايات.

غلاف رواية “مرام” هو صورة التقطها شباب مدينة سراقب، لمكان يشبه السجن خُط عليه “أشد اللحظات ظلمة هي اللحظات التي تسبق الصباح” (الجزيرة)

سلام من صبا بردى أو (مرام)

كتب أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدة “نكبة دمشق” التي اعتبرت من أجمل ما صاغ، بعدما قصف الفرنسيون دمشق عام 1945 وأحلوا الدمار بها، ثم بعد ذلك لحنها وغناها الفنان محمد عبد الوهاب. وفيها يلقي شوقي التحية والسلام على نهر بردى، وهو نهر في دمشق، ويبكي على ما حل بها، فتبدأ القصيدة:

سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ .. وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ

– أحمد شوقي من قصيدة “نكبة دمشق”

ومن مطلع القصيدة المبدعة لأمير الشعراء، تنطلق تلك رواية خالد بريش التي يحمل عنوانها بداية القصيدة “سلام من صبا بردى أو (مرام)”، والتي نقلت للقارئ عالم السجون السورية المرعبة، بروايتها لتجربة الشابة السورية “مرام”، التي وجدت نفسها بلا مقدمات في ضيافة المخابرات السورية، لاتهامها بالمساعدة في تهريب السلاح لجماعة معارضة، مع أخيها الذي تمكن من الفرار. وشاية كاذبة أدخلتها السجن لسنوات طويلة، خرّبت بداخلها كل معنى للحياة.

الرواية هي مجموعة قصص متداخلة بعضها ببعض تحكي تجارب 10 نساء ذقن مرارة السجن، تحدث معهن الكاتب. ليهدي عمله إلى:

“كل اللواتي انتظرن طويلا اليوم الذي يسمعن فيه الهتاف الضارب بجذوره في أعماق التاريخ والمطرز بنفحات قدسية، وهو ينطلق من حناجر المتظاهرين طلاب العزة والكرامة: الموت ولا المذلة”

تحكى الرواية صنوف التعذيب في المعتقلات السرية في سوريا، وتسجل سادية السجان الذي يتمتع بأذية المساجين إلى حد تقشعر منه الأبدان والنفوس. ويتعامل معهم على أنهم حيوانات وليسوا بشرا. فيتفنن السجان في ذلك فيسأل إحداهن “قولي لي كيف تريدين أن أعذبك؟!”.

تصور الرواية ما تشعر به مرام من العذاب خلال فترة السجن، سواء كان تعذيبا ماديا حقيقيا بالكهرباء أو الضرب على ظهرها أو مقاسم رجليها، أو العذاب النفسي من خلال انشغالها بأحوال عائلتها، أولادها وزوجها وأخيها، وإمكانية أن يكونوا قد اعتقلوا هم أيضا، أو لأنها بسبب هذا الضرب الشديد لا تقدر على الصلاة في تلك الأيام. كان تأثير هذا الأمر عليها أشد وقعا من التعذيب الجسدي أو الاغتصاب.

تمضي “مرام” زهرة عمرها وشبابها في الدهاليز المظلمة لتلك السجون، وتقابل العديد من الفتيات اللاتي اعتُقلن أيضا بلا جريرة أو ذنب، وذُقن جميعا ويلات العذاب، متسائلات ماذا فعلن لكل هذا؟، ويحملن ألمهمن سويًا، يتذوقن الرعب والمهانة والمذلة بل والاغتصاب أيضا، في عالم ظالم وقاس لا تعرف الرحمة لقلبه طريقا. يمُتن كل يوم، في مكان أسماه الكاتب ساخرا، كما يفعل السجناء السوريون “المضافة الوطنية” أو “فندق خمس نجوم” أو “السجون الحضارية” أو “المنتجعات الوطنية”.

غلاف الرواية هو صورة التقطها شباب مدينة سراقب (ريف إدلب شمال غرب سوريا)، لمكان يشبه السجن خُطّ عليه بالأحمر “أشد اللحظات ظلمة، هي اللحظات التي تسبق الصباح”.

“بالخلاص يا شباب” هي رواية تحكي تجربة ياسين الحاج صالح في الاعتقال عام 1980، تنقل خلالها في 3 سجون (الجزيرة)

بالخلاص يا شباب.. 16 عامًا في السجون السورية

يروي ياسين الحاج صالح تجربته كسجين سياسي في “سوريا الأسد” بين عامي 1980 و1996، حين اعتقل في سن الـ20 من كلية الطب في جامعة حلب بتهمة الانتماء إلى حزب معارض، فقد كان عضوًا في “الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي” الذي يُعتبر مناهضًا لحزب السلطة ومناوئًا لها وقتها، اعتقل “16 عاما و14 يوما”، تماما كما يذكر الحاج.

وعن تصنيف كتابه، يقول الحاج في مقدمته:

“لا يندرج هذا الكتاب مرتاحا في خانة أدب السجون، ولا هو بحث اجتماعي، ولا هو كذلك سيرة ذاتية لسجين، ولا هو أخيرًا وثيقة سياسية أو حقوقية، تفضح النظام وتظهر جرائمه للعموم. فإن كان لي أن أعبر عما يوحد هذه النصوص، غير إحالتها المشتركة إلى السجن، فربما يكون الجهد الهادف إلى تحويل السجن إلى موضوع ثقافي”

– مقدمة: “بالخلاص يا شباب”

يحوي الكتاب ما يصفه الكاتب بـ”طفولتي الثانية التي كانَها السجن لي”. إذ مثلت سنوات اعتقاله تجربته الأساسية والإنسانية. تلك الحقيقة التي لا يمكنه الفرار منها أو إيجاد مخرج لها، فقد قضى بالسجن سنوات تكاد تعادل السنوات منذ خروجه منه. وكتب أقدم نصوص الكتاب عام 2003، أي بعد نحو 7 سنوات من خروج الحاج من السجن.

يتفرد الكتاب لتوثيقه هذه التجربة الذي تنقّل خلالها الكاتب في 3 سجون وهي المسلمية في حلب، وعدرا في دمشق، وسجن تدْمر الصحراوي. تنقّل بين سجن حلب المركزي ومعتقل عدرا في دمشق مدّة 15 عاما. وقبل أن تنتهي مدّة حكمه عرض عليه أن يصبح مخبرا، يكتب التقارير ويشيب أصدقاءه، فرفض، فتم ترحيله مع 30 سجينا إلى سجن تدمر الرهيب، ليمضي سنة إضافية في مكان جحيمي لا تنفتح أبوابه إلا لتلقي الطعام والعقاب.

في فصل بعنوان “في السجن تحررت، في السجن كانت ثورتي”، وكان عبارة عن حوار أجراه مع المؤلف، رزان زيتونة، ولم يسبق نشره، يعترف الحاج أن السجن كان بالنسبة له تجربة انعتاق حقيقية، عبر الصراع مع السجن ومع النفس ومع الغير، وعبر التعلم من الرفاق ومن الكتب. ومن قراءته الكتب خلال تلك الفترة، تعلم الانحناء أمام الكتب واحترامها والتعلم منها والتغير العميق تحت تأثيرها. فيقول “يحتاج المرء أن يقبل أن يكون عبدا كي يتحرر، سجينا كي ينعتق”.

ويضيف أيضا “كان سجني سيرورة تعلم. وبفعلها توسع عالمي، وصرت حرا أكثر في السجن”. فهو يعتبر كما يقول “السجن في الثمانينيات وأكثر التسعينيات كان مكانا أكرم من أي مكان آخر لأي شخص مستقل الضمير ومعارض للنظام، كان ذلك زمنا بغيضا، لا يصون المرء بقاءه فيه إلا إذا تخلى عن كرامته”.

أمضى ياسين 16 عامًا في السجون السورية من دون تهمة محددة. تعرض فيها للتعذيب بواسطة أدوات ذكرها مثل “الدولاب” و”بساط الريح”. وبعد أن أمضى 15 سنة في سجنَي المسلمية وعدرا، نقل إلى سجن تدمر الذي يحكمه 3 اشتراطات أساسية، يسردها فيقول:

“أن تكون الرؤوس مُنكَّسة بحجة أنهم “لم يفعلوا شيئا يرفع الرأس!”، وأن يكون الكلام همسًا كي لا ترتفع أصواتهم مستقبلا، وأن تكون شعور رؤوسهم وذقونهم وشواربهم حليقة كي يشعروا بالمهانة والاستصغار”

– رواية “بالخلاص يا شباب”

“عائد من جهنم” هي رواية مؤلمة لـعلي أبو دهن اللبناني الذي ساقه حظه السيئ للسجن (الجزيرة)

عائد من جهنم.. ذكريات من تدمر وأخواته

كتاب للمعتقل اللبناني السابق في المعتقلات السورية علي أبو دهن يروي قصته من خلاله، وهو الذي ساقه حظه السيئ ليأتي وعائلته إلى سوريا ليكمل معاملة الهجرة إلى أستراليا، وليذهب بزيارة إلى مدينة السويداء السورية، حيث سيتم اعتقاله من فرع مخابرات السويداء، فيتم الإفراج عنه ومن ثم تسليمه لفرع مخابرات المنطقة في دمشق.

يفضح فيه الكاتب كل ما يجري في ظلمات السجون وغياهبها. وللتأكيد على حجم العذابات التي يلقاها كل من يدخل تلك السجون، استبدل كلمة “سجن” بالعنوان بكلمة “جهنم”، فتلك السجون دائما ما يحكي عنها الناس أن “الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود”.

“أيها الـ…

حللتم أهلا ونزلتم سهلا في مثواكم الأخير..

هنا لا ينتظركم من شيء إلا الموت البطيء كالكلاب والبهائم..

هنا جهنم الحمراء التي حدثتكم عنها الأديان والرسالات..

لا رحمة هنا ترجونها و لا رأفة..

هنا تدمر و لا رب أعلى لكم إياي…”

– من خطاب الاستقبال في سجن تدمر ـ (بتصرف)

رواية “عائد من جهنم”

بأسلوب واقعي يرتكز على السرد والحوارات، يصف أبو دهن تفاصيل يومياته على مدار سنوات قضاها متنقلا من معتقل إلى آخر. ولا يتوقف عند الألم الجسدي الذي يكابده السجين، بل إنه يروي كيفية تجريد السجين داخل ذاك العالم الضيق والموحش من إنسانيته من دون أن يعطى حق معرفة السبب الذي أدى به إلى المكان، حيث ينتزع فيه اسمه ووجوده وكينونته ليصبح مجرد رقم، فلا فرق أن يكون اسمه رقم “6”، أو حتى رقم “13”.

يسرد بالكتاب من خلال “الحكي” لحظة بلحظة قصته، ويذكر معاناة الزنزانة وتعامل السجانين، وتحميلهم له على الاعتراف باتهامات لم يقم بها، وعن معاناة الطعام و دخول الحمام، وعن أساليب التعذيب التي تعرض لها كالكرسي الألماني والدولاب والصعق بالكهرباء فضلا عن أفظع الشتائم التي سمعها، وعن اشتياقه لأهله وعائلته وزوجته وابنته، التي لا يصدق أنه عاد ليراها أكبر بـ13 عاما، لم تعرف فيها اسم أبيها ولا شكله ولا رائحته.

استمر تعذيبه منذ أن تم اعتقاله لشهرين كاملين بأبشع الطرق، حتى فقد أكثر من 20 كيلو من وزنه وفقد التركيز والقوة، ودخل اليأس قلبه، بالقدر الذي لا يمكن لأحد أن يلومه عليه. واضطر إلى الاعتراف بذنب لم يرتكبه مكرهًا، فقد وقع على ورقة بيضاء يكتبون فيها ما يحلو لهم من اتهامات، أملا أن يتوقفوا عن تعذيبه، فهو لم يعد قادرا على تحمل المزيد.

كان علي، على ثقه بمعية الله له، وهو القادر على تخليصه من عذابه، ولكن حينما قال ذلك للضابط رد عليه ساخرا “معك كل الحق، ولكن الله لا يدخل هنا وإلا لما وجدتني أمامك. هنا فقط الاستخبارات”.

وفي تلك الفترة العصيبة، يحكي الكاتب عن علاقته بجرذ في زنزانته، وأنه أصبح رفيقه في وحدته، فقد كان يحدثه ويتخلى عن جزء من حصته بالطعام لأجله.

يذكر الكاتب احتجازه في إحدى الزنازين في سجن “تدمر”، تبين له بعدها أنها كانت ساحة لمجزرة صارت بحق المعتقلين الإسلاميين عام 1980، فقد كانت آثار الدماء والرصاص على الجدران والأرض، مما زاد المساجين رهبة فوق رهبتهم.

“القوقعة” رواية لمصطفى خليفة الذي تبين له أنه اعتقل لانتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين على الرغم من مسيحيته (الجزيرة)

القوقعة.. يوميات متلصص

صدرت هذه الرواية للسينمائي السوري المسيحي مصطفى خليفة في عام 2008، وقد كانت هذه الرواية صفعة مدوية لكل الخائفين والراضين بالقمع والاستبداد.

إذ تحكي الرواية قصته عندما كان شابا سوريا تلقفته المخابرات السورية وهو عائد إلى وطنه سوريا من فرنسا، وذلك بعد أن أنهى دراسة الإخراج السينمائي، ليمكث 13 عامًا في السجن دون أن يعرف التهمة الموجهة إليه.

علم خليفة، الذي تبين له أنه متهم بانتمائه إلى الإخوان المسلمين على الرغم من مسيحيته، ومن سخرية القدر، أن أحد كتاب التقارير من زملائه في باريس أيام الدراسة قدم عنه تقريرا لشتمه الرئيس. هذا التقرير الذي كلفه 13 عاما من عمره، منتظرا الموت في كل لحظة، سواء بالمحاكمات الميدانية التي تقضي عليه بحكم الإعدام، أو حين يريد ضابط إشباع ساديته بضرب وتعذيب أحد المعتقلين.

أورد خليفة عذابات السجن والتعذيب والإهانة، فيقول “علموني بالسجن أن أقول: ياسيدي. هذه الكلمة لا تستخدم هنا كما بين رجلين مهذبين، هذه الكلمة تُنطق هنا وهي تحمل كل معاني الذلّ والعبودية”، وذكر صديقه في السجن (نسيم) الذي جُن من هول ما حدث له، ومن ثم انتحر بعد خروجه من السجن. وهكذا حال خليفة أيضا واستقراره النفسي، فرغم مرور سنة على خروجه من السجن، لا يزال يعيش في ماضيه الأليم.

وهناك يسرد علينا البطل هول ما يحدث في السجن وما يتعرض له السجناء من انتهاكات من النظام السوري، سواء بالمأكل أو حتى في مهاجع النوم أو الحمام أو الحلاقة أو التنفس أو مقصات الأظافر -التي كانت رفاهية غير موجودة بالسجن فيقومون بقضم أظافرهم بالأسمنت- وهي أبسط الحقوق التي تحفظ كرامة الإنسان. وتكلم أيضا عن النظافة وانتشار حالات الجرب بين المساجين، وعدم توفر علاج له.

وعن واقعة تكرر ذكرها على لسان أكثر من سجين سجل روايته لما حدث معه بالسجون، يذكر خليفة أنه مع انتشار الجرذان داخل السجن، تلذذ السجناء بجعلها وسيلة أخرى من وسائل التعذيب، فيذكر خليفة تلك الواقعة الصعبة، فيحكي “منذ أكثر من سنة، كان أحد الرقباء واقفا في ظل حائط، مرت فأرة من أمامه فهرسها ببوطه العسكري، معست الفأرة وماتت، أخرج الرقيب من جيبه منديلا ورقيا وأمسكها بواسطة المنديل من ذيلها، اقترب من صفوف المساجين التي تدور حول الساحة، أمسك بأحد السجناء لا على التعيين وأجبره على ابتلاع الفأرة، ابتلع السجين الفأرة. منذ ذلك اليوم صرف الرقباء وعناصر الشرطة جزءا مهما من وقتهم لاصطياد الفئران والصراصير والسحالي وإجبار السجناء على ابتلاعها، كلهم قاموا بهذا العمل ولكن ابتكاره (إبداعه) عائد لأول رقيب قام بهذا العمل”.

قضى خليفة سنوات وآلاف الليالي، يستحضر ما سوف يفعله من أحلام بعد خروجه من جحيم المعتقل -كما وصفه- ممنّيا نفسه أنه سوف يعيش تلك الأيام بطولها وعرضها، ولكن ما رآه من هول أفقده رغبته في الحياة، وقتل فيه كل الأحلام، فيقول:

“الآن، ها قد مضى عام كامل، لا رغبة لدي في عمل شيء مطلقا”

– مصطفى خليفة

“خمس دقائق وحسب” لهبة الدباغ،  استدعاها الأمن 5 دقائق، لينتزع منها الحياة 9 سنوات كاملات (الجزيرة)

خمس دقائق وحسب.. 9 سنوات في السجون السورية

تروي هبة الدباغ (ابنة حماه) حكايتها المؤلمة التي عذبت فيها 9 سنوات متواصلة، سنوات من الإذلال الذي تقشعر منه الأبدان. اعتقلتها المخابرات السورية بدلا عن أخيها “الناشط سياسيا” لانتمائه إلى حركة الإخوان. حين اصطفت المخابرات على طول شارع بيتها في “حي البرامكة”، واستدعاها الأمن لكي تذهب معهم 5 دقائق وحسب، لينتزعوها من الحياة 9 سنوات كاملات.

“تنسلخ سنوات العمر مني وتتفطر جوارحي وتشيخ روحي لأجل وشاية كاذبة فندتها تحقيقات الظلام نفسها. لكنهم آثروا أن يتجاوزوا الحقيقة ولا يدعوا جهود مخبريهم وجلبة سياراتهم التي شقت هدوء الليل لتقبض علي، تذهب سدى! فلبثت أتنقل -خمس دقائق وحسب- بين زنزانة ومهجع وسجن. وآخر تسع سنوات عجاف، أقفلت فيهن كل أبواب الرحمة لدى
البشر، وماتت على أعتابهن آخر آمال أملتها ورجاءات بأحد من بني الإنسان علقتها، وظل الرجاء بالله وحده حيا بقلبي لا تنطفئ شعلته وإن خبت”

– الروائية هبة الدباغ

خرجت هبة، من السجن لتجد أن كل عائلتها قد قُتلت في مجزرة حماة الكبرى عام 1982، وأنها هي الوحيدة المتبقية بالعائلة نظرا لكونها داخل السجن، وأخوها صفوان لأنه لم يكن بسوريا. إذ قتل نظام الأسد حوالي 10 أفراد من عائلتها، من الأب إلى الأم إلى الأطفال الصغار والبنات الصغيرات، وهو عجز أعتى عتاة التاريخ أن يفعلوا مثله!

وتقول هبة إنها لم تنتم إلى أي حزب من الأحزاب في يوم من الأيام، وعلى الرغم من نشأتها الدينية وتعلقها بدروس الفقه والتجويد وحرصها على حفظ كتاب الله، وانتسابها إلى كلية الشريعة فيما بعد، إلا أن ذلك لم يكن مبررًا لتصنيفها ضمن أي تنظيم أو حزب.

بعد ذلك، شعرت هبة بواجب ملزم وأمانة معلقة في رقبتها للحديث عن مظالم النظام الأسدي، والعذاب الشنيع الذي تلقته وصديقاتها بالاعتقال، فتحكي قصة ما جرى معهن في تلك الرواية. وتتألف الرواية من 6 فصول تنقسم إلى عدة عناوين فرعية، تحدثت فيها الروائية عن حادثة اعتقالها والاتهامات التي وجهت لها، وطرق ووسائل التعذيب داخل السجون السورية، وقلقها وصديقاتها على عوائلهن، والأخريات اللواتي التقت معهن وانتماءاتهن، وعن الإضراب وطرق التمرد المتبعة داخل السجون، وعن التهديد المستمر بالإعدام، أو التحويل إلى سجن تدمر.

“الشرنقة” رواية لليسارية حسيبة عبد الرحمن عن تجربتها في الاعتقال بسجن “دوما” (الجزيرة)

الشرنقة

كتبت الروائية والكاتبة والسياسية اليسارية حسيبة عبد الرحمن هذه الرواية عن تجربتها في الاعتقال السياسي في سجن “دوما”، حيث أمضت في سجون الحكومة السورية أكثر من 9 سنوات بشكل متقطع.

وكان نشاطها السياسي سببا في اعتقالها، فقد كانت منضمة لحزب وشبيبة البعث والاتحاد النسائي، ولكنها غادرتها عام 1974، وانضمت بعدها بفترة إلى حزب العمل الشيوعي، واعتقلت لأول مرة عام 1980 على الحدود السورية اللبنانية وكان بحوزتها مراسلات تخص الحزب.

تعرّضت بعد ذلك لعدة حالات اعتقال ما بين عامي 1987 و1991، وما بين عامي 1994 و1995 بتهمة استقبال هيئة العفو الدولية في دمشق عام 1993، وأخيرا عام 1997 قبل أن يتم الإفراج عنها في نهاية العام نفسه ومنعها من السفر بعد ذلك، وكانت أطول مدة منها 6 سنوات بتهمة الانتماء لحزب العمل الشيوعي في سوريا.

“مات في السجن شاب لم يعط أدوية القلب، وتعب من الخفقان السريع، وارتاح، خرج في تابوت خجول وعيون مودعة دامعة.. مات دون إنذار أو اعتذار أو ابتسامة تحلق في سماء سجن داكن وآلاف المعتقلين”

– رواية الشرنقة ص257

رواية الشرنقة كانت نتاج تجربتها في السجن النسائي التي استمرت 6 سنوات بالإضافة إلى تراكمات لاعتقالاتها المتكررة. ذكرت بها كل التفاصيل الصغيرة التي تشكل يوميات السجناء بالسجن، قد ينظر البعض لها أنها تفاصيل تافهة، لكنها جل حياة السجين أو السجينة.

فعبّرت عن شكل الصراع على الأمكنة، التي تمثل البيت الصغير لكل سجين مما يشتمله من فراش وبطانيات عسكرية وسنتيمترات فوق الرأس، تُجمع فيها الأشياء الخاصة للسجينة. وناقشت غيرها تفاصيل أخرى مثل دور الحمامات، الطعام، الأمزجة المختلفة بين السجناء و كيفية إدارتهم للحياة داخل الزنزانة، مثل قواعد وقت النوم وإطفاء النور. وتبعا لنشاطها السياسي والنسائي، فقد بينت بالرواية الصراع مع إدارة السجن حول حقوق السجينات ومراقبة الأمن الذي يتبع حركتهم، والنقاشات داخل السجن المدني.

“يسمعون حسيسها” لأيمن العتوم، تحكي تجربة الطبيب السوري إياد سعد الذي قضى ما يقارب 17 سنة في سجن تدمر (الجزيرة)

يسمعون حسيسها

صدرت رواية الكاتب الأردني أيمن العتوم عام 2012، وقد لامست بقوة الجراح الغائرة في أقبية ومعتقلات النظام السوري في ثمانينيّات وتسعينيّات القرن المنصرم. يرويها العتوم على لسان الطبيب السوري إياد سعد الذي قضى ما يقارب 17 سنة في سجن تدمر منذ 1980 إلى 1997، بينما بقيت تهمته مجهولة، وأفرج عنه بعفو رئاسي، ولكن أي عفو هذا؟! بعد كل الويلات التي لاقاها وزملاءه المساجين هناك، ووصفهم بالمجرمين من قبل سجانيهم.

يروي العتوم بلغته  البلاغية المعهودة وصوره الأدبية البديعة، ذكريات الطبيب في السجن بتفاصيلها الدقيقة، كيف ينامون، كيف يفكرون، كيف يأكلون، كيف يُعذبون وكيف يموتون. الموت الذي بات أمرا سهلا أمام انتظاره كل لحظة. ففي المعتقل لا أنت حي ولا أنت ميت. المعتقل الذي يضيق عليك ليس فقط بالمكان ولكن بصدرك وتفكيرك.

“اختلط الليل بالنهار، تداخلا ربما، سبق أحدهما الآخر.. ماذا يعني الليل والنهار لسجين صارت كل خلية فيه مرتهنة للدولة، وهو لا يملك حتى أن يسحب هواء الزنزانة الخانق إلى صدره..؟! كان عليه أن يسترق ذلك، لأنه إن ضُبط بالجرم المشهود فسيحرّمون عليه هذا النفس من أن يدخل إلى جوارحه ولو بالإكراه فيما بعد..!!”.

– الطبيب إياد سعد بالرواية

تغوص الرواية في أعماق النفس البشرية، هل تصمد أمام ويلات ما ترى أم تنهار فلا يلومها أحد. كما تروي حكايات النازفين في المعتقل، وتنسج قصص الراحلين الذين عانَوا أبشع ما يمكن أن يعانيه بشر على وجه الأرض. وأظهرت الرواية المنهجية التي اتبعها السجان في حَيْوَنَة السجناء حتى نسي بعضهم اسمه أو إنسانيته.

استطاع الكاتب وصف حالات الرعب والجنون والهذيان والموت والجحيم التي عاناها السجين رفقة أكثر من 20 ألف سجين آخر، قضى منهم نحو 11 ألفا عن طريق الإعدام أو التعذيب أو المرض أو الجنون أو الانتحار. بينما تشبث بطلها الطبيب إياد، بالحياة، وحبه لها، وارتباطه بابنته – التي تركها ابنة عام واحد- وذكراها أن تبقي على وجوده، وظل يتخيلها تكبر بمرور السنين ويحاورها من بين ركام العذاب حتى التقاها أخيرا بعد خروجه من السجن وقد أصبحت ذات 18 عاما.

الصحفي السوري فرج بيرقدار نجح في نقل تجربته التي عاشها في سجون المخابرات السورية برواية “خيانات اللغة والصمت” (الجزيرة)

خيانات اللغة والصمت.. تغريبتي في سجون المخابرات السورية

“وأمّا أنت… بلى أنت… فكم يخجلني صمتك!”

– خيانات اللغة والصمت (ص:162)

يكتب الشاعر والصحفي السوري فرج بيرقدار من مواليد حمص 1951، تجربته التي عاشها في سجون المخابرات السورية، والتي بدأت عام 1987 وانتهت بعد مرور 14 عاماً. وفي رحلة مثلها موصدة الأبواب ومقفلة الجدران، كان لا بد له من ملاذ للروح، فكانت الكتابة والشعر بالنسبة إليه هي طائر الحرية الأجمل الذي لا يستطيع أحد أسره.

بعد 6 سنوات من التوقيف، بتهمة الانتماء إلى الحزب الشيوعي، أحيل إلى محكمة أمن الدولة العليا بدمشق، وهي محكمة استثنائية، فأصدرت بحقه حكما بالسجن 15 عاما مع الأعمال الشاقة، والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية. ولكن بعد 14 عامًا من الاعتقال، قضاها ما بين فروع الأمن وسجن تدمر الصحراوي وسجن صيدنايا العسكري سيئ السمعة، أفلحت الحملة الدولية المطالبة بالإفراج عنه في حمل السلطات السورية على ذلك.

استطاع بيرقدار بلغة الشاعر وإحساسه أن يصف أصناف التعذيب الذي تعرض له في المعتقل، وأن يُدير عجلة العذاب في آلات وأدوات السجان، الذي التقط أنه يحمل حقدا كبيرا داخله، أفقده إنسانيته.

ولأن السائد في سوريا هو “قانون القوة” لا “قوة القانون” -كما يقول- فإن أكبر دلالة على ذلك أن جميع الأنظمة التي تعاقبت على حكم سوريا خلال الـ30 عاما الماضية، وصلت للسلطة عبر الانقلابات لا عبر الانتخابات، فتلك الأنظمة أنظمة غير شرعية، مما يلغى شرعنة القوانين والمراسيم التي صدرت بها، وينسف كيان أمن الدولة التي يقف للمحاكمة أمامها كمتهم.

“أيها السادة، ليس ما تسمعونه أو تقرؤونه الآن تقريرا صحفيا معدا للاستهلاك، وليس بيانات كاذبة تروجها أجهزة مأجورة أو مشبوهة، بل هو ما تبقى من أنقاض روحي، وأنقاض مئات المعتقلين السياسيين الشرفاء.. إنه شهيقي وزفيري وما يترمّد بينهما من ذكريات الماضي وأحلام المستقبل”

–  الشاعر فرج بيرقدار

صوّر بيرقدار الحالة التي عاناها المسجونون بتهمة انتمائهم لجماعة الإخوان وجماعة بعث العراق، فيقول “كانت حالها أقسى وأكثر بؤسا وخطورة وتراجيدية.. حال لم يُنذر بها من قبل نبي ولا كتاب”.

خصص بيرقدار فصلا كاملا عدد فيه جميع وسائل التعذيب “الدولاب” و”الكرسي الألماني”، وسواء كنت سجين رأي أو من الإخوان، فإنها كما يقول بيرقدار “مشتركة، ولابد لك من المرور ضمنها، ولابد للوجع أن يرسم خريطته على جسدك، ولابد لصرختك أن تشق عنان السماء، ولابد أن تنفر روحك من جسدك وتتمسك بهدب صغير نافر منها، هو ما يبقيك على قيد الحياة، ولابد أن يركب عليك الكرسي الألماني، ولابد أن تشبح عاريا معلقا بالمقلوب، ولابد لعضوك التناسلي أن يكره المس حتى بامرأة، بعد أن تمسه كابلات الكهرباء، ولابد “للكلبشات” الإسبانية أن تصنع لك سوارا من دم حول معصميك، ولابد أن تعود جنينا ملتفا على نفسك ليس في بطن أمك، وإنما في دولاب الاستبداد المخصص لنسف ما صرته من كبر، أو ما عمرت من سنين لتعاد قهقرة”.

وإن بقيت حيا، بعد كل هذا العذاب، فهناك صور لا يمكن أن تغادر مخيلتك، ولا أن تمحى من ذاكرتك. وفي ظل غياب القضاء والمحاكم، وعدم وجود كلمة العدالة في قاموس الطاغية، فإن النفس البشرية تتجلى بكل ما هو مقرف في السجان. فيذكر بيرقدار قصة لشاب اسمه مازن كان مسجونا معهم، أجبره الشرطي على إدخال فأرة في فمه، وابتلاعها بدون أي مضغ!

“بوح الضحايا” لهدى سرجاوي، يضم 11 قصة، ترويها أمهات المعتقلين في سجون النظام السوري (الجزيرة)

بوح الضحايا

“سعيدٌ هو من مات على فراشه بين ذويه”

فقد أصبح موت الإنسان طبيعيا على فراشه ترفا يتمناه كثير من المعتقلين والمختفين والمغيبين قسريًا من السوريين. تلك القضية التي تشكل أكثر المآسي التي يعانيها الشعب السوري. وهي القضية التي تلامس حياة مئات الآلاف منهم وعائلاتهم، ولذلك ذهبت الحقوقية هدى سرجاوي لتلك الفكرة، لتوثيق شهادات الضحايا وعائلاتهم.

ضم الكتاب 11 قصة ترويها أمهات المعتقلين في سجون النظام السوري، وحكايات على ألسنة نساء كن معتقلات، لتسليط الضوء على تلك القضية وإبقائها ضمن دائرة الأولويات.

صاغ الكتاب أدبيا الكاتب فراس الرحيم، ورسم لوحات قصصه الفنان رامي عبد الحق.

“أم اعتقلت للمرة الثانية وهي حامل، أنجبت توأما في السجن، فقام السجان بخنقهما أمام عينيها”

شهادة إحدى المعتقلات في الكتاب

يرصد الكتاب ليس فقط الانتكاسات التي حدثت للضحايا في المعتقل، بل أيضا المعاناة التي يعيشونها بعد الإفراج عنهم، وخروجهم لجحيم المجتمع، الذي يتلقفهم بنظرته إليهم، ويكفيهم قهرا أن يسألهم أحد السؤال المتكرر: هل اغتصبوك؟ حتى يصلوا إلى مرحلة الانهيار.

تردد صدى الكتاب على صعيد الإعلام والفاعلين في المجتمع، وعلى المنظمات المهتمة بقضية المعتقلين، وكذلك الضحايا أنفسهم الذين شعروا بالارتياح والامتنان، لأن قضيتهم ما زالت تطرح باهتمام خاص، ولأن المجتمع يتذكرهم ويقدر تضحياتهم، ولم ينسهم.

“تشبه وردا رجيما” مجموعة من القصائد الشعرية، كتبها الشاعر فرج بيرقدار (الجزيرة)

تشبه وردا رجيما

“في العالم المتحضِّر هناك سجون للجنائيين، ولكن ليس هناك معتقلات للسياسيين وأصحاب الرأي والضمير. في العالم المطعون بالتخلُّف والطغاة وصمت الأمم المتحدة ومجلس الأمن هناك سجون كارثية، ومعتقلات جهنمية، تمثِّل عارا ليس على بلدانها فقط، وإنما على تاريخ البشرية أيضا”

– مقدمة الشاعر فرج بيرقدار

يكتب صاحب رواية “خيانات اللغة والصمت” تلك المجموعة من القصائد الشعرية، ليبعث بها من وراء القضبان. فقد كتبها الشاعر فرج بيرقدار في سنوات سجنه بين عامي 1996-2000، أي آخر 5 سنوات من اعتقاله. وهي صور شعرية ضاجّة بالمعاني ودالة على نفس مزنّرة بالحزن، مشحونة بالمعاناة والألم.

تلك القصائد تصور الواقع الحقيقي الذي عاشه الشاعر ككثيرين غيره من المعتقلين في السجون الأسدية، بحس نقدي، يبقي الذكريات التي انطبعت على أجساد الضحايا حية ومتحفزة حتى آخر رمق فيها. فتلهب المشاعر، وتحرك النفوس.

طُبعت تلك الكلمات مؤخرا في كتاب صادر عن دار سامح للنشر، رغم أنها كتبت من عدة سنوات، وخرجت إلى النور كما صاحبها، وكأنه ما زال يعيش متاهة، متاهة ذكرياته داخل المعتقل، لا يعرف كيف ينجو منها، إلا بالشعر. وهو يشعر أن طباعة هذه المجموعة بالنسبة إليه، هي دليل إضافي على أنه أصبح حرا، على نحو ما، وبحدود ما.

ويقول بيرقدار “في الحقيقة يستطيع المرء أن يكون حرًّا إلى درجة قصوى فيما يكتب، حتى وهو في السجن، بل وخصوصا حين يكون في السجن، ولكن حدود حرية النشر لها شؤون وشؤون وشؤون، ولا سيما في بلدان شرقنا المعاصر، المحكوم بما لا حكمة فيه على الإطلاق”.

في قصيدة بعنوان “هذا الخراب” يقول بيرقدار:

“سقط الاحتفال الأخير.. وطني نخلة لا أراها.. ومئذنة لا تراني.. وأجنحة علقت..  في شباك فضاء ضرير..لا بكاء إذن.. لا بكاء سوى الريح.. فوق ما تستطيع القصيدة.. هذا الخراب.. وأبعد مما يريد الأذان”

يضم الديوان 16 قصيدة من الشعر العربي الحديث، منها “جهة الشرق”، “الطائرة”، “حروف الياسمين”، “رمل”، “جدار” وغيرها.

التقت روزا ياسين حسن بعشرات المعتقلات السياسيات، وسجلت ودونت قصصهن وتعجبت من هول ما سمعته من قصص (الجزيرة)

نيغاتيف.. من ذاكرة المعتقلات السياسيات السوريات

تعد تلك الرواية وفقا لكاتبتها روزا ياسين حسن، رواية توثيقية، تكشف من خلالها معاناة المعتقلات السياسيات داخل السجون السورية خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، وتفضح قمع النظام السوري في تعامله مع المعارضة النسائية، سواء أكانت شيوعية أم إسلامية. وهما أبرز اتجاهين للمعارضة النسائية بسوريا. كانت أغلب النماذج المذكورة من المعتقلات الشيوعيات بينما أشارت الرواية في ثناياها إلى أن الإسلاميات كن يلقَين معاملة مختلفة، أسوأ بكثير من السوء المذكور بالرواية.

لم تكن روزا، سجينة يوما، ورغم ذلك قال عنها الكاتب مالك داغستاني إنها لشدة انغماسها لسنوات طويلة في حياة المعتقلات والمعتقلين، بدت وكأنها عاشت التجربة حقا، فكتبت عنها وعن دقائق تفاصيلها، ليغدو من الصعوبة على من لا يعرف، أن يكتشف أنها لم تسجن يوما.

فقد التقت الكاتبة بعشرات المعتقلات السياسيات، وسجّلت ودوّنت قصصهن، وتعجبت من هول ما سمعته من قصص، وفي مقالة لها نشرت في جريدة “دي تسايت” الألمانية بعنوان “نساء في مجاهل العتمة” تقول روزا ياسين حسن:

في الوقت الذي كنت أعمل فيه على كتابي “نيغاتيف”، صُدمت بعوالم وحكايات لم يكن يخطر ببالي أنني أتشارك معها بلدا واحدا!

– روزا ياسين حسن

كشفت الرواية عن مآس إنسانية عديدة في أكثر من موضع من الرواية. وقد يستوعب المرء أن يعذِّب رجل في المعتقل مناضلا ضد محتل أو لنيل حريته من مستبد، لكن أن تكون السجينة الضحية المعذبة امرأة، وأن يكون السجان (ابن البلد) هو من “يهشم فيها” وينزع ما في داخلها من أنوثة، وينتزع منها شرفها ويهتك عرضها، وأن يحطم نفسيتها بتجويعها وإذلالها، بل ويعذب زوجها أمام عينيها، وقتها لن تجد بعد ذلك منها سوى الخوف والتيه؛ بعد أن وئدت وقتلت آلاف المرات في كل لحظة عاشتها في ذل المعتقل.

وفي خاتمه الرواية:

“كتبت جود، وهي ابنة زوجين معتقلين لسنوات، عندما كان عمرها ثماني سنوات، على دفترها المدرسي: باسم أمي وأبي: لماذا كل الناس مظلومون في السجن. هذا ليس من القانون. أرجو من الجميع الانتباه جيدا”

– رواية نيغاتيف

ورغم أن الجميع يعرف ما يحدث داخل السجون السورية من تعذيب وظلم وتعدّ على حقوق الجميع، فإن النظام السوري لم يترك متنفسا لمن يعارضه، ولكن أخيرا قد انتبه أحد لكلام تلك الطفلة، واستطاع أن ينفض السوريون عن أنفسهم غبار معركة طويلة خاضوها مع هذا النظام، فتمكن من إنهاء أول فصل من تلك التراجيديا القاسية، وأفرج عن المعتقلين المظلومين، حتى يبدأ فصل جديد في ملاحقتهم والثأر لكل من عُذب أو قُتل أو فُقد في تلك السجون.

شاركها.
Exit mobile version