اختتمت أعمال القمة الـ79 للجمعية العامة للأمم المتحدة في 30 سبتمبر/ أيلول الماضي، وقد وضعت “قمة المستقبل” -التي استمر انعقادها في مدينة نيويورك على مدى أسبوع كامل- محددات تجديد المنظمة الأممية، فيما يخص مستقبل الشعوب.

وكان لقارة أفريقيا حضور بارز في هذه القمة، حيث استعرضت فيها أهم القضايا التي تشغل دول القارة السمراء، وتناول الزعماء في خطاباتهم الأجندات الإقليمية والمحلية للدول المختلفة.

أفريقيا حضور تام ونصاب مكتمل

ضمن الأعمال التمهيدية للقمة، تم انتخاب رئيس للدورة الـ79 للجمعية العامة للأمم المتحدة من أفريقيا، وهو الكاميروني المخضرم فليمون يانغ، خلفا لسلفه دنيس فرانسيس من ترينداد.

ويعتبر يانغ سياسيا ودبلوماسيا مخضرما عمل فترة طويلة ممثلا لبلاده الكاميرون في عدد من المواقع الوزارية والدبلوماسية، كما عمل رئيسا للجنة الشخصيات الأفريقية البارزة المعنية بفحص الترشيحات للمناصب المهمة في الاتحاد الأفريقي، كما مثل بلاده في العديد من الاجتماعات الإقليمية والدولية.

انطلقت القمة وعلى جدول أعمالها 8 بنود رئيسية، مع بنود فرعية لكل منها بلغت 15 صفحة، وجاءت أفريقيا في البند الثالث من جدول الأعمال تحت شعار “تنمية أفريقيا” من أجل تنمية القارة ولتقييم التقدم المحرز في تنفيذ إستراتيجية التنمية المستدامة وكيفية تحقيق السلام الدائم.

وخاطبت القمة 190 دولة، وكانت أفريقيا كاملة الحضور بـ54 دولة لم يغب أحد، الجميع كان هناك حيث شكلت ما يقرب من ثلث الحضور، ومن بين 71 رئيسا كان هناك 25 من الرؤساء الأفارقة، بما يفوق 35% من جملة الرؤساء الذين تحدثوا في القمة.

وبالجملة، فإن ملكا واحدا و24 رئيسا و14 وزير خارجية و8 رؤساء وزراء و3 نواب رؤساء وممثليْن دائميْن ونائب رئيس وزراء واحد، جميعهم خاطبوا القمة نيابة عن الشعوب الأفريقية.

الدورة الـ79 للأمم المتحدة تعقد في ظل حروب عجز المجتمع الدولي عن إيقافها

قمة المستقبل وأهداف الدورة الجديدة

انعقدت الدورة الـ79 تحت شعار “لا تتركوا أحدا خلفكم: فلنعمل من أجل السلام والتنمية المستدامة والكرامة الإنسانية للأجيال الحالية والمستقبلية”.

وهدفت بشكل رئيسي إلى إعادة تأكيد ميثاق الأمم المتحدة وتنشيط التعددية، وتسريع الجهود الرامية إلى الوفاء بالالتزامات الدولية القائمة، واستعادة الثقة، والاستجابة للتحديات والفرص الناشئة.

وقد سبق ذلك بيومين انعقاد قمة أطلق عليها “قمة المستقبل” لمناقشة التحديات الكبرى التي تواجهها البشرية مجتمعة، ومعالجة تحديات وثغرات الحوكمة العالمية، وخلق إجماع دولي حول كيفية تحسين الحاضر والمستقبل وإنشاء ميثاق للمستقبل يتضمن التمويل والتنمية المستدامة، والسلام والأمن الدوليين، والعلوم والتكنلوجيا والابتكار والتعاون الرقمي، والشباب والأجيال القادمة.

هموم القارة في خطابات الوفود

حملت خطابات القادة الأفارقة في القمة عددا من القضايا الرئيسية التي تشغل القارة السمراء على مستوى الإجماع، إضافة إلى القضايا الإقليمية التي تشغل الكتل السياسية والاقتصادية المختلفة، والهموم الخاصة بالدول الأفريقية كل على حدة، وسيطرت على خطاباتهم عدد من القضايا التي تشكل إجماعا في الرأي والإلحاح منها:

  • إصلاح المنظومة الدولية

لم يخل خطاب من خطابات الزعماء الأفارقة إلا وكان لمناقشة وطرح قضية إصلاح المنظومة الدولية نصيب وافر، فقد أشاروا إلى أنها تواجه خللا جوهريا قد يُفضي لتآكلها ويهدد بقاءها، بفعل غياب الفعالية، وانعدام المساواة وتفشي المعايير المزدوجة، وأن نزاهة الأمم المتحدة وشرعيتها باتت على المحك.

وأكد القادة أن المنظومة الدولية التي بلغ عمرها الثمانين حولا بحاجة إلى إعادة صياغة أجندتها، وأن القصور الذي تعانيه الأمم المتحدة ينبع من الإحجام وعدم الالتزام والتقيد بالمواثيق، وبالتالي فإنه دون دور جوهري لها يسترشد بمبادئ وميثاق الأمم المتحدة، فهي تتحول بذلك إلى منصة غير ذات جدوى، وفقا لأحد رؤساء الوفود.

وقال وزير خارجية النيجر بكاري ياو سانجاري إن ميثاق الأمم المتحدة بلغ 80 عاما، دون أن تُجرى أي إصلاحات على المنظمة الدولية التي تمثل العالم لجعلها منظمة يشعر الجمع بأنه شريك فيها بحيث تتماشى مع النظام العالمي.

وأضاف أنه قد حان وقت مراجعة الميثاق وإعادة تأسيسها، مع التركيز على إصلاح مجلس الأمن الدولي الذي تقوده 5 دول، وهو ما تطرحه القارة بقوة وقد يتحقق إذا ما بذل القادة الأفارقة ما يكفي من جهد من أجل نظام عالمي يضمن السلام والاستقرار.

  • إصلاح مجلس الأمن وتمثيل أفريقيا

كانت قضية إصلاح مجلس الأمن الدولي وأساليب عمله قضية محورية في مجمل مناقشات أجندة القمة، وكانت الوفود الأفريقية أكثر تناولا واستفاضة في عرض القضية أكثر من غيرها من عدة زوايا:

  • أولها، أهمية إصلاح مجلس الأمن الدولي، من أجل تعزيز مكانة وأهمية ودور الأمم المتحدة ومصداقيتها وتوسيعه بحيث يتوقف احتكار الأعضاء دائمي العضوية للمجلس.
  • ثانيا، إزالة الظلم التاريخي الذي وقع على أفريقيا باستبعادها عن المجلس وهي المؤسسة التي تقرر مصير العالم في قضاياه الرئيسية، وجاءت المطالب بإصلاحات شاملة.
  • ثالثا، البعد الذي تتمتع به أفريقيا جيوسياسيا، إذ إنه من غير المعقول أن يتم استبعاد 54 دولة وهي مواطن لـ1.4 مليار إنسان، بينما يُسمح لدولة واحدة باستخدام حق النقض ضد قرارات الدول الأعضاء والبالغة 191 دولة، وذلك من أجل تمثيل يعكس ما عليه العالم اليوم، وليس ما كان عليه قبل 80 عاما.

والمقترح الذي دفع به الزعماء الأفارقة أن تنال أفريقيا مقعدين دائمين بكامل الصلاحيات، يتمتعان بحق النقض، ومقعدين آخرين غير دائمين، ويرى القادة الأفارقة أن الأمر أصبح حتميا ويتطلب تصحيح المظالم التاريخية وأن يكون للقارة تمثيل عادل.

وكان الاتحاد الأفريقي قد شكل لجنة سماها “لجنة العشرة” بقيادة جمهورية سيراليون في 2005 بناء على إجماع إيزولويني وإعلان سيرت اللذين فوضا اللجنة لتقديم مشروع أفريقيا في مسألة إصلاح مجلس الأمن الدولي ومطالب القارة السمراء في التمثيل العادل فيه.

  • التضامن مع القضية الفلسطينية

أما بالنسبة للقضية الفلسطينية وإدانة ما يجري من حرب إسرائيلية في غزة، فقد حضرت بشكل كبير في مخاطبات القادة الأفارقة وبشيء من التفاوت، ولم يخل أي من الخطابات من ذكر ما يجري في غزة إلا النذر اليسير تعاطفا مع الفلسطينيين وإدانة لحرب الإبادة الإسرائيلية التي تشنها في تحد سافر للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، كما جاء في خطابات بعض الوفود، وطالبوا بالوقف الفوري للحرب.

وتحدث رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا عن العقاب الجماعي الذي تقوم به إسرائيل ضد المدنيين العزل في غزة، وهو ما يصدم إنسانيتنا الجماعية، بحسب قوله.

كما تحدث وزير الخارجية المصري سامح شكري عن العدوان الإسرائيلي على غزة، ووصفه بأنه يمثل وصمة عار حقيقية على جبين المجتمع الدولي، وأن الأولوية يجب أن تتركز على وقف فوري لحمام الدم وبشكل دائم وغير مشروط، والوقوف بحزم أمام محاولة تصفية القضية الفلسطينية بمختلف الوسائل.

وشدد معظم الزعماء الأفارقة على حل الدولتين، ورحبوا بدولة فلسطينية حرة ومستقلة وذات سيادة تعيش بسلام مع جيرانها، واعتماد فسلطين بعضوية كاملة في الأمم المتحدة.

رئيس جنوب أفريقيا تحدث عن العقاب الجماعي الذي تقوم به إسرائيل ضد المدنيين العزل في غزة (شترستوك)

 

  • إصلاح المؤسسات المالية الدولية

وجاءت قضية إصلاح المؤسسات المالية كأحد القواسم المشتركة لدى الوفود الأفريقية، فقد كانت أسقف المطالب كبيرة ولغة الخطاب قوية، إذ شدد الزعماء الأفارقة على إصلاح الهيكل المالي الدولي، وقواعد عمل مؤسساته المالية لضمان التمثيل العادل للدول النامية في صنع القرارات المتعلقة بالحوكمة الاقتصادية الدولية التي تؤثر على مسار تنميتها الوطنية.

وإضافة إلى تعزيز نظام تجاري متعدد الأطراف، قائم على أسس وقواعد وغير تمييزي ومفتوح وعادل وشامل وشفاف، وأهمية تقديم المساعدات المالية للدول النامية بشروط مواتية.

  • عبء الديون والتنمية المستدامة

تحدث الأفارقة بقلق بالغ عن التنمية المستدامة، باعتبار أن إستراتيجية التنمية المستدامة في الإطار الأممي كان مقدرا لها أن تنجز بحلول 2030.

وأكد عدد من القادة الأفارقة أن القمة الـ79 تنعقد وهم على مسافة 6 سنوات فقط من نهاية الخطة، ولم تتحقق الأهداف المرجوة.

وأشاروا إلى الحاجة الماسة إلى تدابير شاملة، لتخفيف عبء الديون، لتمكين التمويل المستدام، وأنه لا يمكن لبلدان الجنوب العالمي أن تحقق تقدما اقتصاديا ذا مغزى دون تنازلات خاصة، ومراجعة عبء ديونها الحالية، ذلك لأن تحدي التمويل لا يزال ماثلا، ويعتبر من أكبر التحديات التي تقوض جهود البلدان النامية في طريق التنفيذ الكامل لخطة التنمية المستدامة 2030، وتحقيق أهدافها الـ17.

  • تحديات التغيرات المناخية

نالت تداعيات التغيرات المناخية وآثارها حيزا كبيرا في خطابات القادة الأفارقة، لما يمثله من تهديد حقيقي لمستقبل القارة وأجيالها الحالية والمستقبلية، ودعوا إلى تنفيذ مقررات مؤتمرات المناخ بشجاعة وفعالية، خاصة أن التغير المناخي المضطرب أصبح يهدد بعض البلدان والمناطق الساحلية، إذ ينضم النازحون بسبب المناخ إلى النازحين واللاجئين بسبب الحروب.

وطالبت الدول الأفريقية بأن تأخذ البلدان المتقدمة زمام المبادرة كما تنص اتفاقية باريس في السعي لتحقيق صفر انبعاثات، وتقديم الدعم بما في ذلك تمويل البلدان النامية، وتعويض البلدان المتضررة من الانبعاثات بمقدار 100 مليار دولار للتخفيف من الآثار السلبية لتغير المناخ.

وانتقد عدد من القادة الأفارقة قضية فرض العقوبات الأحادية من طرف واحد، التي لا تسهم في الحفاظ على السلام والأمن، وأن البلدان يجب ألا تملي حلولا على الآخرين، لأن الحلول موجودة في البيئة الأفريقية، ودعوا إلى رفض الهيمنة والإكراه والترهيب والتخلي عن التسول وذل المعونات.

كما جاءت مطالب الوصول العادل إلى التكنولوجيا للجميع بما يحقق مصلحة الجميع، وألا تكون احتكارا على الأقلية التي تتحكم في الأغلبية، لأن المستقبل محكوم بالتطور التكنولوجي، وطالبوا بالعدالة والتغلب على الأنانية من أجل تحقيق التضامن والشعور بالمسؤولية الجماعية.

وزير خارجية النيجر يتحدث خلال اليوم الأخير من المناقشة العامة للدورة الـ79 للجمعية العامة للأمم المتحدة (شترستوك)
  • الأوضاع الأمنية

برزت بوضوح منطقتي الساحل والقرن الأفريقي بهموم خاصة، إذ شهدت المنطقة سلسلة من التغييرات في ظل التحديات الأمنية التي عاشتها، وتحدث قادتها عن تطلعاتهم في تحقيق الأمن والاستقرار.

وطرح وزير خارجية النيجر أنهم أسسوا تحالف دول الساحل الثلاثي من أجل مواجهة التحديات المشتركة، كما تحدثوا عن التدخلات الخارجية في شؤون المنطقة وأهمية إعادة النظر في منهج حل الصراعات في منطقة الساحل.

أما ممثلو شرق أفريقيا، فقد تناولوا الأوضاع الأمنية المضطربة في البحر الأحمر والمنطقة عموما، وما تشكله المنظمات المتطرفة من خطر على المنطقة، وضرورة بذل الجهود لكبحها.

ودعا ممثل إثيوبيا إلى إعادة رسم مسار جديد للمشاركة الشاملة في الأمن البحري من الدول ذات المصلحة على جانبي البحر الأحمر بشكل متساو.

الرئيس التركي أردوغان تحدث عن الحاجة الماسة لإنهاء الحرب في السودان (شترستوك)

أفريقيا في خطابات زعماء العالم

كان الرئيس الأميركي جو بايدن في مقدمة المتحدثين عن دعمهم لأفريقيا في مواجهة وباء الكوليرا الذي اجتاح عددا من الدول الأفريقية، إضافة إلى دعوته مجلس الأمن الدولي للقيام بواجبه تجاه منطقة القرن الأفريقي ومنع تدفقات السلاح إليها.

وتحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن الحاجة الماسة لإنهاء الحرب في السودان، كما تناول دعم بلاده للجهود الأفريقية من أجل السلام والاستقرار والتنمية لشعوب القارة، وأنها تعمل مع أفريقيا على أساس مبادئ الشراكة المتساوية والاحترام المتبادل.

كما وتحدث ممثل الاتحاد الأوروبي عن الحرب في السودان، والتي وصفها بكارثة إنسانية هائلة، حيث قتل 20 ألف شخص، ويعيش حوالي 25 مليونا في حالة طارئة، ونزوح نحو 8 ملايين، كما تحدث عن القرن الأفريقي قائلا إنه بأكمله معرضا للفوضى، واقترح أن يكون للقارة مقعدان دائمان وتجهيز آليات عمل لذلك بشكل عاجل.

وهكذا تشكل المشاركة القوية والمطالب الأفريقية الواضحة -التي تأتي في مقدمتها العدالة والإنصاف- علامة فارقة في بحث أفريقيا عن نفسها وموقعها الصحيح الذي تستحقه بعيدا عن الاعتماد على القوى الكبرى، فهل تتكاتف دولها لإزالة الظلم التاريخي، أم تظل كفة الميزان مائلة وإلى الأبد؟ وكما قال وزير خارجية النيجر “ويل لأولئك الذين تركوا وراءهم غير القادرين على تأكيد كرامتهم”.

شاركها.
Exit mobile version