تعرف السينما الأميركية باهتمامها بالإثارة والتشويق ودفع الأدرينالين في عروق مشاهديها، لكن الأفلام الأوروبية تستهدف نوعا آخر من المشاعر والأفكار، وتجبر المشاهد على إعادة قراءة حياته وتقييم أهدافه.

ويبطئ “الفن السابع” في أوروبا من ركض المشاهد خلف الإيقاع المتسارع للأيام، ويدفعه لتقدير علاقات يعتبرها تحصيل حاصل، فيدعوه مثلاً لتذوق متعة الطعام الشهي، أو الخوف من الاكتئاب الذي يعزله عن محيطه، والتوقف عن البحث عن الدافع وراء كل شيء، وتفهم عشوائية العالم.

وقد قاومت أبرز الأعمال السينمائية الأوروبية تيار اللهاث والسرعة نتيجة لمواقع التواصل الاجتماعي والمآسي والحروب التي نتابع أحداثها لحظة بلحظة، واخترنا أدناه أفضل الأفلام الأوروبية خلال عام 2023 التي تستحق المشاهدة:

1- أوراق متساقطة (Fallen Leaves)- فنلندا

يُعد المخرج الفنلندي أكي كاوريسمكي أكثر أبناء جيله من المخرجين الأوروبيين موهبة وشاعرية، وقد اشتهر بعدم اهتمامه بالتغطيات الإعلامية لأفلامه خلال مسيرته التي بلغت 20 عملاً، تناول خلالها قصص أبناء الطبقة العاملة في حكايات تبدو اعتيادية للغاية، لكنه مزج فيها بين حب الحياة والهلع من قسوتها.

وعُرض أحدث أفلامه “أوراق متساقطة” في مهرجان كان السينمائي، وحاز على جائزة لجنة التحكيم، وقدمته فنلندا لتمثيلها في أوسكار أفضل فيلم دولي، وقد وصل إلى القائمة القصيرة بالفعل. ويعتبر “أوراق متساقطة” أحدث إضافة إلى سلسلة أفلامه المعنونة “بروليتاريا” والتي بدأها عام 1986.

وتعمل بطلة العمل الشابة بشكل غير ثابت في أحد المتاجر، وفي أمسية تتعرف على عامل بناء يعيش مثلها على هامش المجتمع، ويدفن ملله وحزنه في شرب الخمور، وتبدأ علاقة رومانسية تنسج خيوطها بينهما على الرغم مما يقاسيانه على المستوى المادي والاجتماعي.

ويمثل “أوراق متساقطة” أفضل ما تقدمه السينما الأوروبية الحديثة، في قصص لا تبحث عن الإثارة والتشويق، بل نثرات من الحياة الحقيقية بكل اعتياديتها ومللها وحتى متاعبها التي تحمل بداخلها سحرا خاصا، مثل علاقة حب غير متوقعة تنقذ البطل من إدمانه، والبطلة من خوائها العاطفي.

الملصق الدعائي للفيلم الفنلندي “أوراق متساقطة” (الجزيرة)

2- طعم الأشياء (The Taste of Things)- فرنسا

ومن الحياة الاعتيادية الفنلندية التي يبحث أبطالها عن بعض الدفء في الحب مقابل برودة الطقس، ننتقل إلى فرنسا نهاية القرن الـ19 وعلاقة آسرة بين طاهية طعام وذواق محترف، يعملان جنبا إلى جنب لمدة 20 عاما، يتذوقان طعم الحياة في كل شيء حولهما، في الخضراوات القادمة مباشرة من الحديقة إلى المأكولات البحرية الطازجة، ويخترع هو الوصفات وتطهيها هي كما لو أنها جنية تحقق أحلامه، وعندما تمرض يطبخ لها لأول مرة قائمة طويلة من أشهى الأطباق التي أتقناها سويا من قبل.

“طعم الأشياء” دراما تاريخية فرنسية من إخراج وتأليف آن هانج تران، وقد عُرض خلال المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي، وفيه فاز بجائزة أفضل مخرج، وقام بدور الطاهية يوجين الحائزة على الأوسكار جوليت بينوش، بينما أدى بينواه ماجيميل دور الذواق دودين الفائز بجائزة أفضل ممثل من مهرجان كان عام 2001، ويمثل الفيلم فرنسا في أوسكار أفضل فيلم دولي.

ويصطحب “طعم الأشياء” المشاهد إلى ماضي أكثر هدوءا ورقة باستخدام التصوير والإضاءة الطبيعية أغلب اللقطات، مما يبرز جماليات الحياة التي يعيشها كل من يوجين ودودين. ومثل “الأوراق المتساقطة” لا يقدم الفيلم إلا قصة حب بسيطة للغاية ولكن ما يحتاجه المتفرج في عصرنا الحالي شديد السرعة لدرجة تحرمنا من متعة التذوق.

3- حياة سيئة (Bad Living)- البرتغال

وبينما يستمتع أبطال “طعم الأشياء” بتذوق الحياة تعاني بطلة فيلم “حياة سيئة” انعدام إحساسها بأي شئ سوى حزن مستمر لا تعرف سببه. فيلم “حياة سيئة” البرتغالي من إخراج جواو كانيجو وبطولة آنابيل موريرا وريتا بلانكو، وعُرض خلال فعاليات مهرجان برلين السينمائي، وحصل على جائزة لجنة التحكيم، ويمثل بلاده في أوسكار أفضل فيلم دولي.

وتجري أحداث “حياة سيئة” في فندق على ساحل البرتغال، تديره وتعيش فيه عدة أجيال من نساء نفس العائلة، وينكشف مدى تدهور العلاقات التي تجمعهن عندما تصل الحفيدة التي فقدت والدها مؤخرًا. وتعاني الأم بيادين من اكتئاب مزمن، وقد توقفت عن محاولة مداواته منذ عقود، فتعيش مستسلمة لموات مستمر، ويبرز التصوير هذه العزلة بتصويرها على الدوام من مسافة بعيدة وحيدة وسط كادرات واسعة، أو يفصل بينها وبين المشاهد وباقي الشخصيات فواصل من الزجاج أو جدران وأبواب.

مرة أخرى، لا يرصد سيناريو “حياة سيئة” سوى الحياة الاعتيادية لنساء يشبهن غيرهن من ملايين الأمهات والحفيدات والجدات اللواتي تضغط عليهن الظروف الشخصية والاقتصادية والاجتماعية.

4- أنا كابتن (Io Capitano)- إيطاليا

تبدأ قصة فيلم “أنا كابتن” في أفريقيا على الرغم من جنسيته الإيطالية، فهو يتناول قصة شابين من السنغال يحاولان الهرب من الفقر في بلادهما عبر رحلة ملحمية إلى إيطاليا، يتنقلان خلالها بين عدد من دول القارة، ويختطف قطاع الطرق أحدهما قبل أن يجتمع شملهما، ويصيح البطل “أنا كابتن” معلنا إمساكه بزمام حياته لأول مرة.

وجاء العرض الأول لفيلم “أنا كابتن” بالمسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي، وفاز عنه المخرج ماتيو غاروني بجائزة أفضل مخرج والأسد الفضي، وبطله سيدو سار بجائزة أفضل ممثل شاب، ووصل إلى القائمة القصيرة لأوسكار أفضل فيلم دولي.

وتوحي قصة “أنا كابتن” بمغامرة كبيرة يخوضها البطلان، لكنه في حقيقته فيلم بسيط عن الصداقة والتضحية في أكثر صورها براءة بين اثنين من الشباب اللذين لم يتجاوزا بعد سن المراهقة وتلوثهما المصالح الشخصية وقيم المنفعة والنزعات الفردية، وأبرز ما ميزه تصوير مشاهد الصحراء على قسوة الأحداث التي دارت خلالها، وتمثيل البطلين سيدو ساو ومصطفى فال.

فيلم "تشريح السقوط" (الجزيرة)
فيلم “تشريح السقوط” (الجزيرة)

5- تشريح سقوط (Anatomy of a Fall)- فرنسا

كيف تحول قصة البحث عن قاتل إلى درس مطول في تعقيدات علاقة الزواج؟ تلك كانت المعضلة التي واجهتها المخرجة والمؤلفة جاستين تريت في “تشريح سقوط”. ولأنها استطاعت حبك فيلمها لتصل به إلى هذه النتيجة، فقد فازت عنه بالسعفة الذهبية لمهرجان كان، ووصلت إلى القائمة القصيرة لأوسكار أفضل فيلم دولي.

يبدأ فيلم “تشريح سقوط” بعائلة صغيرة منعزلة في إحدى القرى الفرنسية، الأم كاتبة ناجحة بينما الأب يعلم في إحدى المدارس وقد هجر طموحه ككاتب بعد فقدان ابنه بصره نتيجة لإهماله.

لا يرى المشاهد من الأب إلا جثة ملقاة على الثلج بعدما سقط من الشرفة العلوية للشاليه والتي كان يرممها، وتبدأ الشكوك تحوم حول الزوجة التي تصبح المتهمة الرئيسية، وللدفاع عن نفسها تضطر إلى تشريح علاقة الزواج المعقدة التي جمعتها بالراحل، ومعاناته من الاكتئاب وغيرته من نجاحها من ناحية، وخياناتها واستغلال موهبته من ناحية أخرى.

ويتأرجح المشاهد في البداية بين إدانة البطلة وتبرئتها، قبل أن يكتشف أن تلك ليست خدعة من المخرجة لجذبه للفيلم، فلا يحمل القاتل أي أهمية، بل الأهم تلك النظرة الثاقبة لحياة البرجوازية الأوروبية المثقفة.

ومثل الكثير من الأفلام التي تدور أحداثها في قاعات المحاكم، فإن البطل الحقيقي للعمل هو الحوار، لكن هنا انضم إليه كذلك التصوير الذي قدم أبطال القصة بين الفضاءات الثلجية الواسعة، في إشارة إلى العزلة التي يعيشها الإنسان المعاصر.

وتمثل أفلام هذه القائمة جزءا من موجة أفلام أوروبية عُرضت عام 2023 تحاول إبطاء ليس فقط إيقاع السينما، لكن حياة المشاهدين وتجعلهم يتأملون في حياة هؤلاء الأبطال الذين قد يمثل بعضهم إسقاطا على حياتهم الشخصية.

شاركها.
Exit mobile version