تشهد المنطقة اليوم تحولات جذرية تكشف عن طموحات إسرائيل في سوريا، حيث تتجاوز أهدافها المعلنة حدود الأمن القومي لتتلبس ثوبًا استعماريًا معاصرًا، يتستّر خلف ذرائع متعددة تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الإقليمي في ظل تنافس دولي محموم.

في خطابه أمام الكنيست بتاريخ 3 مارس/ آذار 2025، أعلن بنيامين نتنياهو أن إسرائيل تواجه حربًا على سبع جبهات، مؤكدًا أن “النصر الكامل” يظل الهدف الأسمى، متمثلًا في استعادة جميع الأسرى، وتدمير قدرات حماس العسكرية والسلطوية، وضمان ألا تشكل غزة تهديدًا مستقبليًا.

لكن هذه التصريحات، التي تبدو دفاعية في ظاهرها، تتجاوزها الأفعال في سوريا، حيث تتكشف إستراتيجية طويلة الأمد تستعير أدوات الاستعمار الكلاسيكي لفرض هيمنة شاملة، مستغلةً الفوضى لمواجهة خصومها – وعلى رأسهم تركيا- ولدفع سوريا نحو مصيرين لا ثالث لهما: حرب أهلية مديدة، أو ترويضها بالقوة العسكرية.

جذور الإستراتيجية وأدواتها الاستعمارية

منذ انهيار نظام بشار الأسد في ديسمبر/ كانون الأول 2024، كثفت إسرائيل عملياتها العسكرية في سوريا، معلنةً نيتها إقامة منطقة نفوذ تمتد ستين كيلومترًا داخل الأراضي السورية، تحت ذريعة منع انتقال ترسانة الأسلحة الثقيلة إلى فصائل مثل هيئة تحرير الشام أو حزب الله.

لكن هذا الهدف الأمني ليس سوى ستار يخفي طموحًا استعماريًا أعمق، يعتمد على أساليب تاريخية أثبتت فاعليتها في كسر إرادة الشعوب.

فإسرائيل تسعى لتقسيم الشعب السوري عبر تعزيز الانقسامات الطائفية والقبلية التي تفاقمت بعد سقوط النظام، مستلهمةً تجارب القوى الاستعمارية مثل بريطانيا في الهند، حيث فرقت بين الهندوس والمسلمين؛ لضمان استمرار سيطرتها.

كما تعمل على قطع موارده الأساسية بالسيطرة على الأراضي الزراعية، ومصادر المياه، والمواقع الإستراتيجية، لتجعل السكان في حالة اعتمادٍ دائمٍ  شبيهٍ بما فعلته فرنسا في شمال أفريقيا لإضعاف الاقتصادات المحلية.

في الوقت ذاته، تتبنى إسرائيل سياسة تجهيل ممنهجة، حيث تشوه صورة الشعب السوري أمام العالم كمجتمع فوضوي غير قادر على الحكم الذاتي، مبررةً تدخلها كـ”قوة متحضرة”، في تكرار للخطاب الاستعماري الذي استخدمته أوروبا لتبرير احتلالها الشرق الأوسط وأفريقيا في القرن التاسع عشر.

هذا التشويه يترافق مع نشر قوة عسكرية ضخمة، تشمل قواعد دائمة ونقاط تفتيش، لإخضاع المنطقة بالقوة الغاشمة، بينما تسعى لخلق عملاء محليين عبر تقديم امتيازات لأفراد أو جماعات تقبل التعاون، ليكونوا أداة نفوذها داخل المجتمع السوري، كما فعلت بريطانيا مع النخب المحلية في مستعمراتها.

تركيا كتهديد وجودي وسوريا كذريعة

ما يضيف بُعدًا معقدًا لهذه الإستراتيجية هو خوف إسرائيل من تركيا، التي برزت كقوة رئيسية في سوريا بدعمها الصريح للنظام الجديد بقيادة أحمد الشرع.

فسوريا، التي تحوَّلت إلى حلبة صراع دولي تشارك فيها قوى عظمى كالولايات المتحدة وروسيا، أصبحت بالنسبة لنتنياهو ذريعة لمواجهة طموحات أنقرة الإقليمية، التي تهدد بإعادة تشكيل المنطقة لصالحها.

تركيا، التي تعزز نفوذها عبر دعم الفصائل الموالية لها في الشمال السوري، وتسعى لفرض نموذجها السياسي والاقتصادي، يُنظر إليها في تل أبيب كتهديد وجودي قد يفوق في خطورته النفوذ الإيراني المتضعضع حاليًا.

هذا الخوف يدفع إسرائيل لتثبيت وجودها في سوريا، ليس فقط لردع حزب الله أو إيران، بل لخلق توازن قوى يحدّ من هيمنة تركيا، التي قد تستغلّ الفراغ السوري لتعزيز مكانتها كقوة إقليمية عظمى.

حرب أهلية أو ترويض: مصير سوريا المحتوم

لكن طموح إسرائيل يتجاوز المواجهة مع تركيا إلى محاولة دفع سوريا نحو مصيرَين متوقعَين، يخدمان أهدافها الإستراتيجية على المدى البعيد.

  • الأول، هو إشعال حرب أهلية طويلة الأمد، على غرار ما شهده لبنان بين 1975 و1990، حيث تستمر الانقسامات الداخلية والصراعات المسلحة لسنوات، مفككةً سوريا كدولة موحدة ومبددةً قدرتها على تشكيل تهديد لإسرائيل.

هذا السيناريو يتغذَّى على الفوضى الحالية، حيث تتعمد إسرائيل تعزيز التناقضات بين الفصائل السورية – كالنظام الجديد والمعارضات المسلحة- عبر ضربات تستهدف إضعاف الجميع تحت ذريعة تبني الدروز، مما يضمن استمرار النزيف الداخلي.

  • الثاني، هو ترويض سوريا عبر رفع سقف الاعتداءات العسكرية على أراضيها، بضربات جوية وبرية مكثفة تدمر بنيتها التحتية العسكرية والمدنية، وتحولها إلى كيان مشلول أو خاضع، شبيهٍ بما حاولت فرنسا فرضه على الجزائر في القرن التاسع عشر قبل أن تواجه مقاومة شعبية عنيفة.

قولًا واحدًا، يؤكد نتنياهو تصميمه على تحقيق أهدافه، مهاجمًا حتى معارضيه الداخليين بأنهم يزرعون الفتنة، ويحطمون أهداف إسرائيل الإقليمية، في محاولة لتعزيز تماسكه السياسي أمام الضغوط الداخلية والخارجية.

فالصراع الداخليّ الذي يواجهه نتنياهو قد يدفعه لتصعيد أفعاله، ليس فقط لردع التهديدات، بل لتعزيز مكانته السياسية أمام منتقديه داخل إسرائيل.

وفعلًا، قد تتجاوز إسرائيل حدود الدفاع إلى فرض منطقة عازلة في جنوب سوريا، مدعومة بعمليات عسكرية واسعة، لخلق واقع جديد يحقق أهدافها الاستعمارية.

هذا التصعيد لا يقتصر على ردع الأعداء التقليديين، بل يهدف إما لتفكيك سوريا بحرب أهلية تضمن استنزافها، أو لإخضاعها بالقوة عبر ضربات مستمرة تجعلها عاجزة عن المقاومة، في إستراتيجية تجمع بين التدمير الممنهج والسيطرة المطلقة.

السياق الدولي والمخاطر المحتملة

تتذرع إسرائيل بضعف الموقف الغربي، الذي يصفه المسؤولون الإسرائيليون بـ”العمى” تجاه النظام السوري الجديد، بينما يتجاهلون هم أنفسهم الضغوط الدولية، حيث أُبلغت واشنطن بخططهم دون انتظار موافقتها، معتمدين على القوة العسكرية كأداة أساسية في ظل تراجع الدبلوماسية.
لكن هذه الإستراتيجية قد تنقلب على صانعيها، فرغم طموح إسرائيل العالي، فهي تحمل تناقضات قد تهدد استقرار المنطقة برمتها. فإشعال حرب أهلية في سوريا قد يتجاوز حدودها ليطال لبنان والأردن، مما يخلق أزمة إقليمية أوسع، بينما محاولة ترويض سوريا بالقوة قد تثير مقاومة شعبية عنيفة، كما حدث في تجارب سابقة.

كما أن المواجهة مع تركيا، التي تمتلك طموحات إقليمية مدعومة بقوة عسكرية واقتصادية متنامية، قد تؤدي إلى تصعيد مباشر بين الطرفين، يضع إسرائيل أمام خيارات أكثر تعقيدًا مما تتصور.

خاتمة: لحظة مفصلية وتداعيات طويلة الأمد

في المحصلة، تتجاوز نوايا إسرائيل في سوريا حدود الردع إلى طموح استعماري يستغل الفوضى لفرض واقع جديد، مستعيرًا أدوات القوة والتفرقة لتحقيق أهداف مزدوجة: مواجهة النفوذ التركي كتهديد وجودي، وإما تفكيك سوريا بحرب أهلية مدمرة، أو ترويضها باعتداءات عسكرية مكثفة تحوّلها إلى كيان مشلول.

إننا أمام لحظة تاريخية تتطلب تحليلًا معمّقًا ورؤية استشرافية، فالتداعيات لن تقتصر على سوريا وحدها، بل ستمتد لتعيد صياغة التوازنات الإقليمية لعقود قادمة.

لكن السؤال الأكبر يبقى: هل تستطيع إسرائيل، بكل قوّتها العسكرية، أن تحقق الهدف الذي تسعى إليه عبر هذه الإستراتيجية، أم أنها تزرع بذور صراع أعمق قد ينقلب عليها في نهاية المطاف؟

التاريخ وحده كفيل بالإجابة، لكن المؤشرات الحالية تنذر بمستقبل مليء بالتحديات لجميع الأطراف.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version