أثار إفراج العاهل المغربي عن مجموعة من الصحفيين والنشطاء والمدونين استحسان الرأي العام وعددٍ من المراقبين داخل المغرب وخارجه، خاصة أن من شملهم العفو الملكي كانت محاكماتهم محط أنظار المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية.

وقد تأثرت صورة المغرب بسبب الشكوك التي رافقت محاكمة صحفيين شغلوا مهمة رئاسة التحرير في يومية “أخبار اليوم” المغربية، مثل توفيق بوعشرين، وسليمان الريسوني، والذين تعكس مقالاتهم بعدًا سياسيًا نقديًا يرتبط بأسئلة الحرية والديمقراطية والحوكمة.

كانت هذه المحاكمات مؤشرًا على تراجعات حقوقية وسياسية شهدها المغرب بالتزامن مع حراك 2011. ولكن خطوة الإفراج الأخيرة تحمل عددًا من الرسائل المهمة والإيجابية داخل المغرب، وتعتبر نقطة ضوء يمكن أن تستلهمها الدول العربية الأخرى، وإن اختلفت التجارب والأنساق السياسية؛ لأن المصالحة السياسية والمجتمعية أصبحت ضرورة في اللحظة الراهنة من أجل مستقبل أكثر استقرارًا وتقدمًا للمنطقة.

أولًا: سياقات ودوافع الاعتقال والإفراج

لا يمكن إغفال طبيعة المرحلة السياسية التي تم فيها اعتقال الصحفيين والنشطاء المفرج عنهم، إذ كانت مؤشرًا على انتكاسة للمسار الديمقراطي وآفاق الحرية التي انفتحت بالتزامن مع أحداث “الربيع العربي” سنة 2011.

التراجع الذي خيّم على المشهد السياسي بشكل عنيف في عدد من الدول العربية، تم بطريقة ناعمة في المغرب. فقد جرى إعداد قوى حزبية قريبة من السلطة/الإدارة لتملأ المجال السياسي، وهي ما تسمى “الأحزاب الإدارية” في العرف السياسي المغربي. وانعكس التراجع سلبًا على المجال الإعلامي، حيث انتهت تجربة “أخبار اليوم” المغربية التي كان خطها التحريري داعمًا لمسار الانتقال الديمقراطي والأفق السياسي الذي فتحه المغرب في التصالح مع مقتضيات العصر السياسيّة.

وبهذا، انفتح الباب على إعلام لا يمارس دوره كسلطة مضادة تمارس الرقابة، وتقوّم الاختلالات السياسية، بل أصبح جزء من الخطاب الإعلامي أداةً للتشهير ومعولًا للإضرار بصورة المغرب وبالتراكمات التي حققها في مجال حرية الرأي والتعبير، وفي الآن ذاته وسيلة فعالة لإشغال الرأي العام بقضايا هامشية وثانوية.

كان مشهد محاكمات الصحفيين والنشطاء الحقوقيين والمدونين، مؤشرًا على التراجع عن الحقبة التي افتتحها المغرب سنة 2011، والتي كان عنوانها العريض إقرار دستور جديد استوعب الاحتجاجات الشعبية والديناميات السياسية التي عمت المنطقة.

هذا الدستور فتح الطريق فعليًا نحو ديمقراطية حقيقية، لولا التغيرات التي حصلت وأفرزت إستراتيجيات جديدة اقتضت إعادة تشكيل الحقل السياسي والخطاب المواكب له. وانعكس ذلك في المجالات الإعلامية والحقوقية، وكذلك الحركات الاحتجاجية، خاصةً حراك الريف.

ومن هنا، شهد المغرب منذ سنة 2011 انتعاشًا للسياسة والانشغال بها، واهتمامًا مكثفًا بأسئلة التحديث والدمقرطة. وفي صلب ذلك كان الفعل السياسي والمدني والإعلامي أحد العناصر الفاعلة في الديناميات الجديدة، لكنها انتهت أو ضمرت في سياق الارتدادات، لتعوضها هواجس تنموية خالية من الروح السياسية، أو من رهانات الديمقراطية والحرية، رغم اختلاف المغرب من حيث خصوصيته عن باقي الأنماط العربية.

ورغم ما شاب الواقع السياسي والحقوقي، فإن المغرب يبقى نموذجًا مختلفًا في تدبير الحياة السياسية، وعلاقة الدولة بالفاعلين في المشهد السياسي من حيث مساحة الحرية للفاعلين ومجال النقد المحفوظ. فالتراجع الذي حصل كان بأدوات سياسية دون الحاجة إلى التدخل الفجّ للسلطة، كما تم في عدد من الدول.

ثانيًا: الدوافع وراء الإفراج

حمل الإفراج عن المعتقلين الذين تنوّعت مشاربهم بين الطيف الإعلامي والحقوقي، ونشطاء ينتسبون إلى جماعة العدل والإحسان التي تعتبر مكونًا سياسيًا معارضًا، عدة رسائل تفيد في مجملها طي صفحة من التجاوزات عرفها المغرب في السنوات الأخيرة. إذ تشكل مبادرة العفو الملكي منفذًا لتصحيح الاختلالات الحاصلة، لكنها في الآن نفسه قد تكون محكومة بجملة من الدوافع، منها:

  • الرغبة في تجاوز الجمود السياسي وحالة الاحتقان الاجتماعي، ذلك أن إضعاف القوى السياسية أو الارتهان لخيارات خالية من السياسة، قد يفرز انعدام الثقة بين الدولة والمجتمع، مما يشكل تهديدًا للاستقرار السياسي والاجتماعي.

وقد يكون الإفراج الملكي عن المعتقلين خطوة نحو انفتاح سياسي أكبر وعودة الروح للسياسة، ويستحيل ذلك إلا في ظل تعددية الرأي والموقف وتنوع القراءات. فقوة الدولة تكمن في استيعابها للتعددية السياسية وللقراءات النقدية لجملة من الاختيارات تحت ظل الدولة/الملكية، مما يزكّي مصالحة الدولة مع المجتمع والفاعلين.

وتشير الخطوات الأخيرة إلى انفراج أوسع مع رموز حراك الريف وباقي المعتقلين. وهذا سيخدم صورة الدولة داخليًا في العلاقة بالمجتمع في سياق يعيش حالة احتقان اجتماعي، ثم لدى الرأي العام الدولي الذي تؤثر تصنيفاته المتعددة على موقع المغرب حقوقيًا وسياسيًا.

  • الضغط الخارجي والأضرار التي لحقت بصورة المغرب لدى المجتمع الدولي الحقوقي كانت سببًا إضافيًا، فقد كانت تكلفة تلك الإجراءات مرتفعة من ناحية تراجع تصنيف المغرب في مجال حرية الرأي والتعبير لدى المؤسسات المنشغلة بتقييم الوضع الحقوقي. إضافة إلى ذلك، يأتي الإفراج في سياق استعداد المغرب لكأس العالم 2030، حيث يتطلب هذا الاستعداد جبهة داخلية موحدة خالية من التوترات، وإعلامًا يتمتع بالاستقلالية للقيام بدوره الرقابي، وهذه الخطوة تفتح الباب لاستعادة الثقة، وسيكون من المهم أن تعقبها خطوات أخرى، تؤدي لإطلاق ديناميات سياسية جديدة، لتوحيد الجبهة الوطنية.

وهنا نشير إلى أن المغرب، في أكثر اللحظات اضطرابًا منذ الاستقلال إلى الآن، لم تكن هناك قطيعة بين الدولة والفاعلين والنخب، بل كانت توجد باستمرار مساحات واسعة لتعدد الرأي والنقاش المثمر، كما لم تنهج الدولة خيارات عنيفة في حق القوى والفاعلين، باستثناء بعض لحظات التوتر والاضطراب في عقود مضت وفي أحداث معزولة. وبخلاف ذلك بقيت جسور التواصل وميكانيزمات المراجعة والمصالحة فاعلة. وهذا ما يحتاج الواقع العربي للاستفادة منه، إذ تعيش المجتمعات العربية نفس الإكراهات وتجمعها المصائر نفسها.

ثالثًا: في الحاجة إلى المصالحة السياسية عربيًا

تأتي هذه الخطوات في المغرب لتتيح نوعًا من التصالح يقوي المجتمع والدولة معًا، في وقت يخيم الحزن في عدد من الدول العربية التي تحتفظ سجونها بآلاف من سجناء الرأي والسياسيين. لكن الرسالة التي تحملها عملية الإفراج تغذّي الأمل في إمكانية استفادة العقل السياسي العربي الرسمي من الأخطاء، وإبداع ميكانيزمات خاصة بالمصالحة الوطنية والسياسية، التي تفرضها الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياقات المتقلبة في الإقليم.

إن الانغلاق السياسي الواقع في عدد من الدول العربية، أو توظيف أدوات الإكراه المادي التي تحوزها الدولة، أو مؤسسات العدالة والقضاء في الصراع السياسي، يؤدي ذلك في المديَين المتوسط والبعيد إلى إضعاف الدول ويبدد رصيد المجتمع الغني في الإسهام في التنمية والتقدم. ذلك أن انشغال الدولة بالصراع الداخلي يقوض مؤسساتها وينشر الخوف في المجتمع، ويهدم عنصر الثقة بين الدولة والمجتمع، فيتعمق الانقسام، ويهدر الزمن السياسي والحضاري.

فالتقدم والنهوض عربيًا، يقتضي قدرًا معقولًا من الحرية والتعددية السياسية والثقافية. إذ العقلنة والتنظيم على مستوى الشكل، وقيم الحرية والعدالة والمساواة وسلطة القانون، هي أهم العناصر الشكلانية والقيم والمبادئ التي تمنح الدولة والمؤسسات فاعلية في النهوض بالمجتمع. وفي المقابل، فإن مناخًا يسوده الخوف والإكراه لا ينتج إلا أعطابًا وتشوهات، ونخبًا وفاعلين توجههم الولاءات والمصالح الذاتية، وليس الكفاءة أو المصالح الوطنية.

لقد انقضى عقد في صراع حاد تبددت معه الطاقات والجهود والقدرات. وما ينبغي استثماره من دروس التاريخ واللحظة الراهنة بتعقيداتها، هو أهمية المصالحة السياسية والاجتماعية والتوافق الوطني بين مختلف القوى والفاعلين. فالانقسام السياسي والمجتمعي لا ينتج إلا الضعف والتفكك.

الدول تكبر وتتقدم بالتنوع والحرية والاختيارات العقلانية والتوافقات السياسية والمجتمعية؛ عموديًا بين الدولة والفاعلين، وأفقيًا بين مكونات المجتمع الفاعلة من مختلف مرجعياتها. وهي تضمر وتضعف بالصراعات الحدية، والرغبة في الإقصاء والانتقام.

ختامًا: ستكون بادرة الإفراجات الأخيرة أكثر فاعلية وقوة للمغرب بالإفراج عن باقي معتقلي الرأي. ذلك أن النزوع التصالحي يوثق العلاقة بين المجتمع والدولة، ويؤسّس للثقة التي تعد مدخلًا ضروريًا لكسب التحديات الراهنة، فهي تجعل جميع الفاعلين عنصرًا فاعلًا في التنمية والتقدم. ولا تنمية بدون حرية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version