بعد أن نال مسعود بزشكيان موافقة مجلس النواب الإيراني على تشكيل حكومته، جاء اختيار عباس عراقجي وزيرًا للخارجية ليعكس تلك التوازنات الدقيقة التي جمعت بين أطياف الإصلاحيين والمحافظين في حكومة واحدة. وفي تقريره المعنون بـ”السياسة الخارجية”، والممتد على 36 صفحة، أسهب عراقجي في رسم معالم السياسة الخارجية التي ستنتهجها إيران تحت إدارة هذه الحكومة.
كان واضحًا أن بزشكيان، في تشكيله حكومته، قد لجأ إلى استقطاب أسماء عملت مع رؤساء سابقين، مثل: محمد خاتمي، وحسن روحاني، وإبراهيم رئيسي، ليُشكل بذلك مجلس وزراء يجمع بين تيارَي الإصلاحيين والمحافظين.
ولعلّ هذه الرؤية التوافقية تجلّت بوضوح في السياسات الخارجية، حيث وجدنا في تقرير عراقجي تأكيدًا على استمراريّة بعض سياسات الحكومات الإصلاحية في بعض الملفّات، فيما تمسّك ببعض مبادئ الحكومات المحافظة في ملفات أخرى.
هذا المزيج بين الإصلاحي والمحافظ، في السياسة الخارجية على وجه الخصوص، يجعل التنبؤ بخطوات الحكومة الإيرانية الجديدة مهمة شاقة على المحللين. بل إنه قد يفتح أمام بزشكيان وحكومته مجالات أوسع للمناورة على الساحة الدولية، في ظل القدرة على تبنّي نهج مزدوج يجمع بين المرونة والحزم.
الدبلوماسيّة الاقتصادية أولًا
حين قرّر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، أطلق العنان لما سمّاه “سياسة الضغط الأقصى”، لتكون بداية حقبة من الضغوط الاقتصادية الخانقة على الاقتصاد الإيراني.
اضطرّت إيران حينها إلى بيع نفطها للصين بسعر بخس، مقارنة بالأسعار العالمية، لتبقى على قيد الحياة الاقتصادية. حتى إن حكومة إبراهيم رئيسي، التي كانت تتخذ موقفًا متحفظًا من التفاوض مع الولايات المتحدة، لم تجد بدًا من العودة إلى طاولة المفاوضات.
في هذا السياق، أفصح تقرير عراقجي عن نية طهران في إعطاء الأولوية للتجارة مع الدول المجاورة والأوروبية، مشيرًا إلى أن “الوضع الاقتصادي لإيران جعل من الدبلوماسية الاقتصادية ضرورة لا غنى عنها”.
وفي ذات التقرير، أكّد عراقجي أن إيران تسعى إلى علاقات قائمة على مبدأ تكافؤ الفرص مع الدول الأوروبية، بينما تركز في تعاملها مع الولايات المتحدة على “إدارة الصراع ومواجهة السياسات العدائية لأميركا وإسرائيل”.
ويبدو أنّ بزشكيان، باتباعه هذه السياسات، يميل إلى تبنّي نهج الجناح الإصلاحي فيما يتعلق بمواصلة المفاوضات مع الولايات المتحدة، وهو ما يشير إلى أن المرشد الأعلى، آية الله خامنئي، قد أضفى نوعًا من الموافقة الضمنية على هذا التوجّه.
وفي ظلّ تدهور الأوضاع الاقتصادية، الذي كان له أثر بالغ في إشعال الأحداث الاجتماعية الداخلية في إيران، برزت أصوات من داخل البلاد تنتقد الدعم الاقتصادي السخي الذي تقدمه طهران لحلفائها في الخارج، مثل: حزب الله اللبناني، والحشد الشعبي في العراق.
وفي تصريح لقناة الجزيرة، كشف مسؤول إيراني سابق، فضل عدم الكشف عن هويته، أن الدعم المالي السنوي لحزب الله قد تم إيقافه منذ فترة؛ بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها البلاد. يُقدر هذا الدعم بنحو 700 مليون دولار سنويًا، وهي مبالغ كان لها وقعها في السياسة الإيرانية، لكنها اليوم تبدو عبئًا على اقتصادها.
المفاوضات بأسلوب جديد
وفي هذا السياق، أكَّد عباس عراقجي في تقريره أن سياسة التفاوض مع الولايات المتحدة ستظلّ قائمة، ولكن مع بعض التعديلات الجوهرية. فقد صرّح خلال ظهوره في أحد البرامج على التلفزيون الرسمي الإيراني بأنه لا يرغب في العودة إلى الاتفاق النووي بصورته القديمة التي وُقعت خلال فترة حكم الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
وأوضح أن “إحياء المفاوضات لن يكون سهلًا كما كان في الماضي”، مشيرًا إلى أن الاتفاق النووي الحالي بحاجة إلى إعادة نظر وتعديل بعض بنوده، وأن التجارب السابقة يمكن أن تكون مرشدًا للفترة التفاوضية الجديدة.
تتفق هذه السياسة إلى حد ما مع نهج دونالد ترامب، الذي انسحب من الاتفاق النووي في مايو/ أيار 2018، واصفًا إياه بأنه “أسوأ اتفاق في تاريخ أميركا”. ولم يكن ذلك التصريح بمعزل عن ساحة النقاش في إيران؛ فقد كشف تسريب تصريح لرئيس الاستخبارات السابق في الحرس الثوري الإيراني، حسين طائب، أثناء فترة الانتخابات الرئاسية الأميركية التي تنافس فيها ترامب وجو بايدن، عن وجود فريق داخل إيران كان يفضّل فوز ترامب في تلك الانتخابات، مما أثار جدلًا واسعًا في الصحافة الإيرانية.
ورغم أنّ تصريحات عراقجي بشأن المفاوضات النووية لم تحظَ باهتمام كبير في ظلّ الأحداث الجارية، مثل: المذابح المستمرّة في غزة والصراعات الإقليمية، إلى جانب الانتخابات الرئاسية الأميركية، فإنه من المؤكد أن هذه التصريحات ستعود إلى الواجهة، وتصبح محور النقاش بعد تولي الرئيس الأميركي الجديد منصبه.
العلاقات مع الجوار ودول المنطقة
في تقريره، يضع عباس عراقجي التعاون مع الدول المجاورة ودول المنطقة في مجالات: الاقتصاد، والمياه، والقضايا البيئية، والهجرة غير الشرعية على رأس الأولويات، بينما يظهر تفضيله للتحرك بشكل منفرد فيما يتعلق بالقضايا الأمنية. كما لم يتطرّق إلى أي إشارة حول التعاون مع الدول المجاورة في حلّ الأزمات، مثل: الأزمة السورية، أو القضايا الأمنية في العراق، واليمن، أو غيرها من القضايا الإقليمية الشائكة.
علاوة على ذلك، يبدو أنّ الحرس الثوري الإيراني، سيواصل تنسيق أنشطته الميدانية في اليمن، والعراق، وسوريا، ولبنان مع الدبلوماسية الإيرانية، مما يعكس أولوية الأنشطة الميدانية على الدبلوماسية التقليدية في هذه الحكومة، على عكس حكومة حسن روحاني السابقة التي كانت ترى أن الدبلوماسية يجب أن تقود التحركات الميدانيّة.
وفي مقابلة مسرّبة لمحمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني السابق، أشار إلى أن وزارة الخارجية لم يكن لها أي تأثير يذكر على أنشطة الحرس الثوري الميدانية، بل كان مضطرًا للدفاع عن تصرفات قاسم سليماني وغيره من القادة في الاجتماعات الدولية.
من هنا، يبدو جليًا أن إيران لن تسعى إلى توافق واسع مع جيرانها في القضايا الأمنية الإقليمية، وفق ما ورد في تقرير “السياسة الخارجية” لعراقجي.
وفي هذا الصدد، عبّر وزير الدفاع التركي يشار غولر مؤخرًا عن استيائه من عدم تحرك إيران لمنع تسلل أعضاء حزب العمال الكردستاني من تركيا والعراق إلى أراضيها، رغم إبلاغها بذلك مسبقًا. تعزز هذه التصريحات الانطباع بأن إيران تفضل التعامل بحذر مع القضايا الأمنية، بما يضمن عدم التصعيد، ولكن دون التورط في شراكات أمنية معقدة.
ويؤكد التقرير في قسم “الأمن الوطني وتعزيز القوة” أن إيران ليست بصدد تبني سياسة تعاون وثيق في القضايا الأمنية الإقليمية والأزمات الأخرى، بل تسعى إلى “تنسيق القوة المادية والمعنوية لضمان الحفاظ على قوة الردع الإيرانية وتعزيزها في المنطقة”. وذلك مع التشديد على ضرورة “تعزيز الحكومات والجماعات والحركات التي تتماشى مع مصالح إيران، والتركيز على توسيع وتعزيز العمق الجيوسياسي للبلاد في محور المقاومة”. ويضيف: “بينما نسعى نحو منطقة قوية وموحدة عبر الحوار والتعاون مع الدول المجاورة، سنستخدم كافة الأدوات السياسية والدبلوماسية لدعم أهداف المقاومة المشروعة، والحصول على دعم دول المنطقة”.
الدبلوماسية الثقافية
لا يُمكن إغفال دور إيران في استخدام الدبلوماسية الثقافية كأداة فعّالة على مدى عقود، سواء في فترة ما قبل الثورة عام 1979 أو بعدها، خلال عهد الشاه، أو بعد قيام الجمهورية الإسلامية. فقد حرصت إيران على إعطاء الأولوية للدبلوماسية الثقافية في العديد من المناطق الحيوية، بدءًا من جغرافيا الهند، وصولًا إلى الشرق الأوسط وأفريقيا.
وفي إطار الدبلوماسيّة الثقافية، تستمرّ إيران في استخدام أدواتها التقليدية بقوّة، بدءًا من اللغة الفارسية، مرورًا بأعمال كبار الأدباء، مثل: حافظ الشيرازي، وسعدي الشيرازي، وصولًا إلى الحسينيات والمراكز الثقافية التي تعمل كأدوات لنشر الثقافة الفارسية.
وفي تقريره، خصص عباس عراقجي فصلًا كاملًا للدبلوماسية الثقافية، موضحًا الخطوات التي ستتخذها الحكومة لتعزيز هذا الجانب. وأشار إلى أن مناطق واسعة تمتدّ حتى حدود جغرافيا الهند، وكذلك مناطق آسيا والقوقاز، والعراق، وسوريا، ولبنان، تندرج ضمن ما يسمّى بـ”الجغرافيا الثقافية الإيرانية”.
كما بيّن أهمية مواجهة “مشروع الخوف من إيران”، أو ما يعرف بـ”إيرانوفوبيا”، عبر استغلال القوة الناعمة للبلاد المتمثلة في العقيدة، والهوية، والثقافة، والحضارة، والخطاب، والتقاليد. وسيتم توظيف هذه الإمكانات بشكل فعّال في تعزيز الدبلوماسية الثقافية. كما أن الدبلوماسية غير الرسمية، والتي تشمل رجال الدين، والمثقفين، والأكاديميين، بالإضافة إلى الدبلوماسية العامة، والدبلوماسية الإعلامية، والدبلوماسية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ستُستخدم جميعها بشكل نشط لخدمة المصالح الوطنية.
وفي هذا الإطار، تعتزم الحكومة أيضًا الاستفادة من القدرات الاقتصادية والعلمية والسياسية للمواطنين الإيرانيين المقيمين في الخارج؛ لتعزيز مواقف إيران على الساحة الدوليّة.
ومع مواجهة إيران تحديات عديدة تحول دون إيصال رسالتها بوضوح إلى المجتمع الدوليّ والشعوب الإقليميّة، يبدو أنّ حكومة بزشكيان ستولي الدبلوماسية الثقافية اهتمامًا أكبر مما كان في عهدَي حسن روحاني، وإبراهيم رئيسي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.