كييف- لن ينسى سكان العاصمة الأوكرانية ليلة 4 يوليو/تموز الجاري، قريبا على ما يبدو، فقد أجمعوا بعدها أن أحدا منهم لم ينم حتى الصباح بسبب أزيز المُسيَّرات وصفير الصواريخ ودوي الانفجارات، وإمكانية تكرار ما حدث لا تزال حديث الساعة، وهاجسا رئيسيا يشغلهم ليل نهار.

وخلال تلك الليلة، أيقن الكثيرون أهمية الملاجئ حتى وإن بعدت، بعد سنين من ترف نسبي فرضته الدفاعات الجوية المتطورة في العاصمة كييف، وباتت محطات المترو وجهة رئيسة للاحتماء، رغم فرض حظر التجول.

وعلى مدار يومين بعدها، بقي الدخان ورائحته في كل مكان تقريبا، وتحولت مواقع كثيرة داخل المدينة إلى أطلال يأتيها العامة للتحسُّر أو التعبير عن مشاعر التضامن مع المتضررين.

شهر دموي

ما حدث قبل أيام كان آخر حلقة في سلسلة الضربات الروسية المكثفة التي طالت كييف مؤخرا، وأسقطت العشرات بين قتيل وجريح خلال الشهر الماضي فقط، ليكون الأكثر دموية بالنسبة للمدينة منذ بداية الحرب.

ولم تكن كييف وحيدة في مواجهة هذا التصعيد، بل شاركتها مدن رئيسية أخرى: سومي (في الشمال) وبولتافا وكريميتشوك وكريفي ريه (في الوسط) وزاباروجيا وكراماتورسك (جنوب شرق البلاد) وخيرسون وميكولايف وأوديسا (جنوبا) إضافة إلى خميلنيتسكي (غربا).

والنصيب الأكبر من الضربات نالته مدينة خاركيف الشرقية، التي تقصف بصورة شبه يومية، وسقط فيها وحدها نحو 70 شخصا بين قتيل وجريح جراء القصف الروسي أمس الاثنين.

ومنذ بداية العام، دوت صافرات الإنذار 1034 مرة، واستمرت حالة الخطر فيها ما يصل مجموعه إلى 109 أيام متواصلة. وفرض هذا التصعيد الروسي ضد المدن البعيدة عن الجبهات مخاوف غير مسبوقة، وأجواء تذكر -إلى حد كبير- بما كان عليه الحال أولى أيام الحرب.

سيرهي أحد سكان حي سولومينسكي في كييف، والذي قصف مرارا خلال الأسابيع الماضية، قال للجزيرة نت “عندما نخلد للنوم يوميا بتنا نضع حقيبة قرب مدخل الشقة، والتي تحوي كل الوثائق الثبوتية، وما نحتاجه حال اضطررنا للخروج فترة طويلة لا سمح الله، فالخطر في كييف غير مسبوق، لم نشعر به حتى عندما كان الروس على بعد بضعة كيلومترات من هنا”.

تضرر مركبة في حي سولومينسكي بكييف جراء القصف الروسي (الجزيرة)

اللجوء تحت القصف

لهذا، ولأسباب أخرى، تراود الكثيرين فكرة اللجوء مجددا إلى الدول الأوروبية، بعد أن عادت منها نسبة لا بأس منها من الأوكرانيين خلال السنوات الماضية.

ويقول أندري الذي يقطن في ذات الحي “أرسلت زوجتي وأولادي لمنزل الجدة في القرية بعيدا عن هنا، فكل صوت غريب أو مرتفع بات يرعبهم ليلا، سواء كان هناك قصف أم لا”.

ويضيف “لا أتحمل رؤية تعابير الخوف في وجوههم كما الحال أولى أيام الحرب، وآمل أن تكون موجة تصعيد عابرة، تنتهي قبل بداية العام الدراسي، ولا تجبرنا على الفراق في رحلة لجوء جديدة إلى أوروبا”.

وتزيد من مخاوف الفراق عملية التعبئة المستمرة بالجيش الأوكراني، وحولها يقول أندري “بالنسبة للكثيرين، التعبئة اليوم تعني فقدان المعيل، والاضطرار للجوء للحصول على المساعدات”.

لحظة سماع دوي انفجار أثناء اختباء سكان كييف في الملاجئ

ولا يقتصر هذا التصعيد على المدن فقط، فالجبهات مستعرة بشكل غير مسبوق، وتدل على ذلك الأرقام الرسمية المعلنة، والتقارير الصادرة عن جهات مختصة.

وبحسب بيانات هيئة الأركان الأوكرانية، فإن الجبهات تشهد متوسط نحو 175 اشتباكا مباشرا يوميا، بينما تشن روسيا نحو 60 غارة يوميا، بما يقارب 150 قنبلة جوية موجهة، إضافة لأكثر من 5 آلاف قصف مدفعي بمختلف أنواع الأسلحة، وهذا ضعف ما كان عليه الحال بداية العام الجاري.

وتوسَّعت الجبهات لتشمل أجزاء من مقاطعة سومي، ولم تعد القوات الروسية تبعد سوى 20 كيلومترا عن عاصمتها، وتحاول جاهدة الحصول على موطئ قدم ثابت بمقاطعة دنيبروبيتروفسك (وسط البلاد).

ووفق موقع “ديب ستيت” الأوكراني لخرائط الحرب، فإن روسيا سيطرت خلال يونيو/حزيران الماضي على 556 كيلومترا مربعا من الأراضي الأوكرانية، وهو أعلى رقم يسجل لصالحها منذ بداية 2025.

محاولة للضغط

ويرى مراقبون أن هدف الروس من هذا التصعيد، الذي يتزامن مع دعوات التفاوض والوصول إلى حل، هو ممارسة أكبر ضغط ممكن على كييف، ودفعها للموافقة على الشروط الروسية.

ويقول الخبير العسكري ميكولا بيليسكوف للجزيرة نت إن القصف الروسي تضاعف منذ تولي الرئيس الأميركي دونالد ترامب الحكم ثانية، حيث كانت روسيا تستهدف أوكرانيا بنحو ألفي طائرة مسيرة شهريا عام 2024، واليوم وصلت 4 آلاف مما زاد عدد الضحايا “وشكل تهديدا كبيرا لقدرات الدفاع الجوي المحدودة أصلا”.

وأضاف “التصعيد الروسي ليس جديدا، لكنه توسع ليشمل المباني السكنية والبنية التحتية وحتى مراكز التجنيد، فالكرملين يعتمد مبدأ (اجعلوا حياتهم لا تطاق) حتى يزيد الضغط على القيادة السياسية، ويدفعها عمليا للاستسلام”.

وفي الأثناء، يتوعد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الروس قائلا “لن ينعموا بالهدوء” ويؤكد الجيش الأوكراني أن لديه حلا قريبا وفعالا لمعضلة المسيرات الهجومية الروسية.

لكن الخبير بيليسكوف يرى أن “الحل الأكثر فاعلية هو استهداف وتدمير الطائرات الروسية المسيرة قبل إطلاقها، إما في مواقع الإنتاج أو المستودعات، لأن أثر الهجمات على منصات الإطلاق محدود، وهذا ما يحدث حاليا بسبب عدم القدرة على استهداف مواقع بعيدة بكثافة نارية”.

ومن جهته، يقول إيفان ستوباك المستشار السابق لشؤون الأمن العسكري بالبرلمان الأوكراني إن بلاده عادت لاستهداف مصانع المواد الكيميائية التي تزود الترسانة الروسية بالذخائر، واليوم تضغط بقوة على الروس عبر شل حركة المطارات الرئيسية.

ويضيف للجزيرة نت “نحن في مرحلة كسر عظم مع الروس، وأعتقد أن أوكرانيا قادرة على جعل حياتهم لا تطاق أيضا للضغط على قيادة الكرملين، بما يخفف حجم وتداعيات القصف على المدن الأوكرانية”.

شاركها.
Exit mobile version