السودان بلد مأزوم بالكوارث بفعل الطبيعة أو بفعل الإنسان، وتتعدد أسباب الكوارث والأزمات الإنسانية في السودان، منها موقع السودان الجغرافي في منطقة الساحل الأفريقي الكبير، وهو الحزام الطولي الممتد من إريتريا إلى السنغال، والذي يشهد موجات عنيفة من الجفاف ونقص الغذاء منذ سبعينيات القرن الماضي، فيما عُرف بالجفاف العظيم.

ومنها موارد السودان الكبيرة غير المستغلة التي تحفز التدخلات الأجنبية، ومنها سياسات الحكومات المتعاقبة التي تقاصرت عن تحقيق الأمن والاستقرار، واستغلال موارد البلاد الهائلة لرفاهية الإنسان.

فتحت الأزمات الإنسانية الباب واسعًا أمام المنظمات الإنسانية الدولية للدخول إلى السودان تحت مظلة العون الإنساني، ولكنها مع مرور الوقت انداحت على امتداد البلاد وعاثت فسادًا، وتجاوزت بشكل واضح تفويضها الممنوح لها، بل إنها ضربت عرض الحائط بمبادئ وقيم العمل الإنساني الدولي المعروفة.

وتعتبر عملية شريان الحياة النموذج الأشهر لتداخل العون الإنساني بالسياسة، ولاستباحة المنظمات الإنسانية – بما فيها منظمات الأمم المتحدة – سيادة السودان، مما أسهم في إطالة أمد الحرب على مختلف الجبهات.

إن دراسة تجربة عملية شريان الحياة ضرورية لمعرفة العلاقة بين العون الإنساني والسياسة، وكيف استخدمت المنظمات الإنسانية الدولية العون الإنساني في السودان لخدمة أجندة سياسية بامتياز ليس لها أية علاقة مباشرة بالتفويض الممنوح لهذه المنظمات.

ومن خلال دراسة هذه العملية الإنسانية المعقدة يمكن أن نفهم بشكل أفضل أسباب الخلاف الماثل بين السودان والمجتمع الدولي فيما يتعلق بالعون الإنساني الدولي للتخفيف من آثار الأزمة الراهنة في البلاد، سواء في منبر جنيف، أو مع الأمم المتحدة ومنظماتها الإنسانية.

عملية “شريان الحياة”

تعتبر عملية شريان الحياة واحدة من أكبر وأطول عمليات العون الإنساني التي نفذتها الأمم المتحدة على مستوى العالم، واستمرت عمليًا من العام 1989، وحتى العام 2010. هدفت العملية إلى إيصال الغذاء والمساعدات الإنسانية المختلفة إلى مناطق النزاع في جنوب السودان، وغيرها من المناطق المتضررة؛ بسبب الحرب أو الجفاف في بقية أنحاء السودان.

وقامت العملية على جملة من الترتيبات الإدارية والسياسية والتنظيمية التي وافقت عليها حكومة السودان في نهاية فترة الديمقراطية الثالثة، وتم تنفيذ العملية تحت مظلة الأمم المتحدة ومنظماتها الإنسانية، وصدر عدد من القرارات من المنظمة الدولية بشأن العملية.

بالرغم من أن العملية تمت تحت مظلة المنظمة الأممية، فإن المؤشرات تؤكد أنها كانت مبادرة أميركية كاملة، حيث مارست الولايات المتحدة وحلفاؤها ضغوطًا كبيرة على حكومة السودان للقبول بالعملية.

أشرفت الحكومة الأميركية على مراحل العملية المختلفة، وكانت هي المانحة الكبرى للعملية. نجح الضغط الدبلوماسي الأميركي في إرغام حكومة السودان على الجلوس مع حركة التمرد في جنوب السودان والتوقيع سويًا على الوثيقة الأساسية للعملية في مارس/ آذار 1989.

بذلك شكلت شريان الحياة سابقة دولية فريدة، إذ كانت المرة الأولى في تاريخ الدولة الوطنية الحديثة أن تسمح دولة ذات سيادة بإيصال المساعدات الإنسانية مباشرة للمتضررين في مناطق من ترابها الوطني تسيطر عليها حركات مسلحة خارجة عن الدولة. ورغم الهدف الإنساني السامي للعملية، فإنها شهدت تجاوزات خطيرة أضرت بسيادة السودان، وهددت وحدته الوطنية.

كان التجاوز الأول في العملية هو أن المنظمات الإنسانية استغلت الوثيقة التي وقع عليها الطرفان كذريعة للاعتراف بفصائل التمرد كجهات سياسية تسيطر وتدير شؤون الحياة في المناطق التي تسيطر عليها. باتت تتعامل مباشرة مع هذه الجهات دون الحاجة إلى الإذن أو التنسيق مع الحكومة المركزية، مما يعني أن المنظمات باتت تعامل حركات التمرد على قدم المساواة مع الحكومة السودانية.

تطور الأمر أبعد من ذلك، حيث وقعت حركة التمرد اتفاقية ثنائية مع عملية شريان الحياة دون مشاركة الحكومة السودانية في العام 1995، وكانت تلك سابقة أخرى تحدث لأول مرة، أن توقع الأمم المتحدة اتفاقية ثنائية مع حركة متمردة دون إشراك الحكومة المركزية. بتوقيع هذه الاتفاقية، أصبحت حركة التمرد في جنوب السودان تدير حركة العون الإنساني سواء من نيروبي أو من مواقع في داخل جنوب السودان بالتنسيق مع الأمم المتحدة مباشرة دون إذن أو تنسيق مع الحكومة السودانية.

تأكيدًا لسيطرة حركة التمرد على سير العملية الإنسانية في مناطق سيطرتها، فرضت الحركة قيودًا على المنظمات الإنسانية الدولية، بدأت بإلزامها بالحصول على الأذونات من حركة التمرد كشرط مسبق للعمل في المناطق التي تسيطر عليها الحركة، وانتهى الأمر بإلزام المنظمات بتوقيع مذكرات تفاهم منفصلة مع حركة التمرد تمامًا، مثل المذكرات التي وقعتها المنظمات مع حكومة السودان، مما يعني اعتراف هذه المنظمات بحركة التمرد كجهة سياسية حاكمة. وقامت الحركة بطرد كل المنظمات التي رفضت توقيع مذكرة تفاهم معها.

وهكذا، انفردت حركة التمرد بإدارة العون الإنساني في مناطق سيطرتها، وسخرت ذلك لخدمة أجندتها السياسية والعسكرية، وذلك بتوجيه الإغاثة مباشرة لتشوين قواتها المقاتلة على امتداد جنوب السودان، واستغلت طائرات الإغاثة لنقل الجنود وإسعاف الجرحى إلى نيروبي، ونقل الأسلحة والمؤن إلى قواتها في الحاميات النائية في الجنوب.

شارك في ذلك عدد من موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الإنسانية الغربية، بما فيها منظمة الصليب الأحمر الدولي التي تعتبر أكثر المنظمات التزامًا بمبادئ ومواثيق العمل الإنساني والقانون الدولي الإنساني.

ورغم أن الحكومة السودانية قد قبضت على عدد من طائرات وموظفي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الإنسانية متلبسين بجريمة نقل الذخائر والأسلحة لحركة التمرد؛ لإذكاء نار الحرب، ونقل قادة الحركة ومقاتليها على طيران الإغاثة، فإن ذلك العمل الشنيع لم يجد الاستنكار اللازم من دول المركز ومنظماتها.

بالمقابل، استمرّت قيادة عملية شريان الحياة في انتهاك سيادة السودان، والتحريض على الحكومة المركزية والسكوت عن تجاوزات ومخالفات فصائل التمرد، وتجاوزها المستمر للقواعد التنظيمية والإدارية التي قامت عليها عملية شريان الحياة، مما يعني دعمها المباشر أو غير المباشر لعملية توظيف العون الإنسانيّ لدعم حركة التمرّد في جنوب السودان.

دعم الحرب في دارفور

إن تعامل المنظمات الإنسانية المباشر مع حركة التمرد في الجنوب دفعها لمقاطعة الحكومة المركزية تمامًا والانسياق مع برامج وتوجهات حركة التمرد، لدرجة أن هذه المنظمات تبنت أطروحات الحركة وخطابها السياسي.

أصدر تحالف المنظمات العاملة في جنوب السودان، والذي يضم منظمات دولية مرموقة، مثل: أوكسفام وحماية الطفولة، بيانًا ناشد فيه المجتمع الدولي فرض السلام فرضًا في السودان باعتباره الوسيلة الوحيدة لإنهاء حالة الطوارئ الإنسانية المعقدة في البلاد.

تصاعد الطابع السياسي للعملية، حيث بدأ المسؤولون في عملية شريان الحياة في استخدام الخطاب السياسي لحركة التمرد الذي ينادي بحماية حقوق المهمشين اقتصاديًا وسياسيًا في شمال السودان، وينادون برفع الظلم عنهم، في تجاوز فاضح لدورهم الإنساني الذي حددته الوثيقة الأساسية الموقعة مع حكومة السودان، وتجاوزوا في ذات الوقت مبادئ العمل الإنساني القائمة على الحياد والنزاهة.

في وسط هذا المشهد الذي تنمرت فيه منظمات العون الإنساني الدولية وخرجت عن سلطان الحكومة السودانية وعن سيطرة الأمم المتحدة، جاءت أزمة إقليم دارفور في العام 2003، فقفزت منظمات المجتمع المدني الغربية عامة، واليهودية الأميركية خاصة، في مركب دارفور، وقادت حملة تشويه وتحريض ضخمة ضد السودان بشكل لم يسبق له مثيل.

قاد هذه الحملة الشعواء تحالف “أنقذوا دارفور” في أميركا الذي ضم عددًا كبيرًا من المنظمات، معظمها يهودية ودينية مسيحية، ولها مواقف مبدئية معادية لحكومة السودان. استغل تحالف “أنقذوا دارفور “حالة الفوضى التي خلقتها المنظمات الإنسانية العاملة في عملية شريان الحياة، ولم يوقع أي اتفاق مع حكومة السودان، ولم يطلب إذنها للعمل في دارفور أصلًا.

دشن تحالف “أنقذوا دارفور” مرحلة جديدة وغريبة في عمل المنظمات، وهي التعامل مع المانح والمستفيد مباشرة دون الحاجة للدولة، مما يؤكد توجه التحالف لانتقاص سيادة الدولة السودانية بغية توفير الدعم السياسي والدبلوماسي والإعلامي للحركات المسلحة في دارفور.

كما أن التحالف لم يلتزم بمبادئ العمل الإنساني الدولي المعروفة، وإنما أصبح تجمعًا سياسيًا بامتياز يعمل على التحريض ضد الحكومة السودانية وتشويه صورة السودان لدى الرأي العام الأميركي والعالمي.

قامت المنظمات اليهودية الأميركية التي قادت تحالف أنقذوا دارفور بتبني سياسات وإستراتيجيات تهدف لإعادة ترتيب الأوضاع في السودان وإعادة صياغة الواقع السياسي والاجتماعي في البلاد تحت مظلة العمل الإنساني.

وفي سبيل ذلك، استخدمت المساعدات الإنسانية كأداة لفرض نفوذها السياسي وبناء تحالفات خبيثة تخدم مصالح الدول المانحة. ومن جانب آخر، نجحت المنظمات في إحداث تغييرات سلبية عميقة في المجتمع، حيث تحول إنسان دارفور من إنسان منتج وعامل مجتهد إلى متلقٍّ للدعم، عاطل عن العمل، عاجز عن الإسهام في تنمية المجتمع.

وأخيرًا، فقد تحولت عملية شريان الحياة من عملية إنسانية إلى عملية سياسية ممتدة، بدءًا من الحوار بشأن الممرات الآمنة مرورًا بالحوار حول وقف العدائيات وانتهاءً بمفاوضات السلام السودانية التي كانت المنظمات عنصرًا رئيسيًا فيها.

لقد نُشر الكثير من الكتابات عن عملية شريان الحياة وتداعياتها على منظومة العمل الإنساني الدولية. ومن أهم ما كُتب عنها بالعربية كتاب الباحث السوداني محمد الفاتح مجذوب بعنوان: “تقاطع السياسة والعون الإنساني في السودان، عملية شريان الحياة نموذجًا”، الذي نشره مركز الجزيرة للدراسات.

إن استيعاب هذه التجربة مهم جدًا في وقت يواجه فيه السودان الآن أزمة إنسانية خطيرة يحتاج فيها بالضرورة لدعم العالم ومنظماته الإنسانية رغم مساوئها الجمة التي أشرنا إلى بعض منها.

بيدَ أن حاجة السودان الماسة للدعم الإنساني الدولي لا تبرر بأي حال استغلال العون الإنساني لفرض الأجندة السياسية للدول المانحة تحت أي ذريعة كانت.

ولا مشاحة أن يتعامل السودان – ولو على مضض – مع المنظمات الإنسانية الدولية إن التزمت بمبادئ العمل الإنساني الدولي ونظمه. وقديمًا قال الشاعر: “ومن نكد الدنيا على الحُر… أن يرى عدوًا له ما من صداقته بدّ”.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version