شكل وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل نقطة تحول محورية في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، فقد أعاد تعريف السياسات الإستراتيجية لإيران في لبنان من الدعم إلى إعادة التسليح، وهو تحول يربط تعافي حزب الله مباشرة مع الهدف الأوسع لإيران المتمثل في موازنة النفوذ الأميركي والإسرائيلي في بلاد الشام.

ويعتمد نفوذ طهران في لبنان على ركيزتين أساسيتين: الأولى هي قدرة إيران الاقتصادية وإمكانية بنائها طرق إمداد لوجستية جديدة لإعادة ترميم القدرة العسكرية والاجتماعية والاقتصادية لحزب الله بعد خسارة سوريا لصالح المعارضة، والثانية هي قدرتها على الصمود في “مواجهة” الأجندة الدولية التي تقودها إسرائيل وحلفاؤها الذين يسعون لتحويل حزب الله إلى كيان سياسي منزوع السلاح.

وعن هذه القضية، نشر مركز الجزيرة للدراسات ورقة تحليلية للباحث المتخصص في الشؤون الإيرانية محمود البازي، حملت عنوان “الدور الإيراني في لبنان: الحفاظ على حزب الله وإعادة رسم النفوذ”، بحث فيها دور إيران في المنطقة من خلال البعد اللبناني، والعلاقة التاريخية بين حزب الله وطهران، وركز على مكانة ودور الحزب في إستراتيجية الأمن القومي الإيرانية بعد طوفان الأقصى، والعوامل والضغوط المحتملة التي تؤثر على نفوذ إيران في لبنان، خاصة بعد فقدان سوريا وتراجع نفوذ طهران إقليميا بعد ذلك.

تباين المواقف بين انهزام حزب الله واستئناف قوته للحرب ضد إسرائيل

حزب الله والامتداد الإيراني

يقول مستشار المرشد الإيراني العميد يحيى رحيم صفوي عن تشكيل حزب الله والوجود الإيراني في لبنان: “إنها المرة الثالثة منذ عهد الإمبراطورية الأخمينية التي نصل فيها إلى شواطئ البحر المتوسط”، ويشرح عقيدة طهران في الردع المتقدم والعمق الإستراتيجي بالقول إن “علينا توسعة العمق الإستراتيجي لإيران لمدى خمسة آلاف كيلومتر، حتى إذا هاجمتنا الولايات المتحدة من جانب، استطعنا ملاحقتها من الجانب الآخر”.

وعلى ضوء هذا التصريح، يُفهم أن الدور الذي لعبته إيران في إنشاء حزب الله وتطويره كان عملية متعددة الأوجه تاريخيا وأيديولوجيا وجيوسياسيا، وقد ساعد التقارب بين ديناميكيات لبنان الداخلية وتطلعات إيران الثورية في ظهور حزب الله بوصفه كيانا سياسيا وعسكريا مهما.

فمنذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، تأثرت المجتمعات الشيعية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط -ومنها لبنان- بنجاح الثورة التي أصبحت مصدر إلهام لرجال الدين والناشطين الشيعة اللبنانيين لبناء نموذج إقليمي للحكم الإسلامي، وكان من أبرزهم مؤسس حركة “أمل” موسى الصدر الذي تلقى دعما من القيادي الإيراني مصطفى شمران.

لاحقا، ساهم الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 في تحفيز تشكيل حزب الله، حين أرسلت إيران ما يقرب من 1500 عضو من الحرس الثوري الإيراني إلى البقاع، بهدف تنظيم وتدريب “الجماعات الشيعية” المحلية التي توحدت لاحقا تحت مظلة “حزب الله”، وتزايد معها الدعم الإيراني إلى ما هو أبعد من التدريب العسكري.

بحلول عام 2006، بنى الأمين العام السابق لحزب الله حسن نصر الله حزبا أكثر ارتباطا بالبيئة المحلية اللبنانية، وأوثق صلة بإيران وأيديولوجيتها وأهدافها في الإقليم. وبعد السمعة التي حظي بها الحزب في حرب يوليو/تموز 2006، أصبح “حليف” طهران في عدة مهام إقليمية، منها الحفاظ على حكومة الأسد بعد ثورة 2011 في سوريا، وتدريب جماعة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن، وإسناد المقاومة الفلسطينية بعد طوفان الأقصى.

اغتيال حسن نصر الله كان له وقع كبير على حزب الله (رويترز)

إسناد غزة أم المحور؟

تفاجأت إيران كغيرها من الدول بعملية طوفان الأقصى التي شنتها حماس على إسرائيل في السابع أكتوبر/تشرين الأول 2023، لكنها أبدت رضاها وتفاؤلها بنتائج العملية رغم اختلاف أسلوب حماس في ضرب إسرائيل عن الأسلوب الإيراني.

لم يستفد محور المقاومة عسكريا من عنصر المفاجأة الذي خلقه “طوفان الأقصى”، وقرر دعم حماس عبر “جبهات إسناد”، دون اللجوء إلى معادلة “التصعيد لخفض التصعيد”، وذلك رغبة من إيران في الحفاظ على مقدرات الحزب في لبنان، واعتمادها على الإيحاءات الإسرائيلية بالانخراط الجدي في المفاوضات مع حماس وقرب وقف إطلاق النار.

عملت إسرائيل بالمقابل على تنفيذ هجوم تصاعدي على إيران وحزب الله، بدءا باغتيال القيادي في حركة المقاومة الإسلامية (حماس) صالح العاروري، وانتهاء بفتح جبهة عالية التصعيد في جنوب لبنان، بعد استكشاف قدرات الحزب وما تملكه إيران من أوراق.

ما يحكم توجهات السياسة الخارجية الإيرانية في الحرب الإسرائيلية على حماس وحزب الله هو نظريتها في البقاء، فالنظام الإيراني يفضل براغماتية البقاء بمنسوب مقبول من المبادئ الثورية، كما أنه قادر على خلق معادلة ردع إقليمية تمنع الآخرين من الوصول إلى حدود إيران، وهو ما يتفوق على أيديولوجيا تحرير القدس أو مواجهة إسرائيل.

لم تكن عمليات الوعد الصادق 1 و2 التي أطلقتها إيران ضد إسرائيل دفاعا عن حزب الله أو حماس إذن، بل إعادة رسم لخطوط الردع مرة أخرى، وذلك بعد الضربات الإسرائيلية المتعددة على القوات الإيرانية في سوريا، و”عمليات تخريب” المفاعلات النووية واغتيال علماء نوويين، واجهتها إيران كلها بالامتناع عن الرد من الأراضي الإيرانية مباشرة على مدى سنوات.

ولم تكن قيادة الحزب الجديدة ممثلة بنعيم قاسم قادرة على اتخاذ قرار بخصوص جبهة الجنوب والقبول بوقف إطلاق النار، تنفيذا لوعود نصر الله بإسناد غزة ما دامت الحرب عليها مستمرة. لكن لإيران قراءة أخرى، تجسدت بإرسال المرشد الإيراني كبير مستشاريه علي لاريجاني إلى كل من سوريا ولبنان، أولا لإبلاغ قيادة الحزب بتأييدها موقف الحكومة اللبنانية لخلق وضع مشابه لظروف ما بعد حرب 2006، وإعادة مقدرات الحزب، وثانيا للحصول على ضوء أخضر من الأسد للإبقاء على خطوط الإمداد مفتوحة.

هذا ما يفسر حرص إيران على إبقاء الأسد في محورها بوصفه جسر إمداد إلى لبنان، رغم أنه ليس جزءا من إستراتيجية “وحدة الساحات” بعد طوفان الأقصى، وهو ما لم يعد ممكنا بعد انتصار المعارضة السورية المسلحة على نظام الأسد.

رأت إيران في وقف إطلاق النار انتصارا للمقاومة وحزب الله، فقد جاء نتيجة للضربات الإسرائيلية من الحزب بعد اغتيال نصر الله، وفشل إسرائيل في تفكيك بنيته العسكرية وتحقيق النصر الحاسم.

كسر العظم لا يعني الموت

توالت التصريحات الصادرة عن القيادة الإيرانية بأن الحرب على حزب الله وإسقاط نظام بشار الأسد كان مؤامرة أميركية إسرائيلية، تهدف إلى إضعاف العمق الإستراتيجي لإيران.

ولا يبدو أن طهران ستنحرف عن إستراتيجيتها على ضوء هذه التطورات لفرض “الردع المتقدم” وتقديم دعم ثابت لحليفها في المنطقة، وهي تقوم بذلك عبر دعامتين: المحافظة على الشيعية السياسية في لبنان، والالتزام بترميم قوة حزب الله.

وقد أثبتت التجارب أن لدى إيران القدرة على التكيف مع التغيرات الإقليمية، فهي تقدم مساعدات اقتصادية وتنفذ مناورات سياسية وإستراتيجية لصالح حزب الله في مواجهة الحملة الدولية المنسقة لتقويضه مجتمعيا وعملياتيا، محاولة في الآن ذاته التغلب على انهيار نظام بشار الأسد، والبحث عن طرق بديلة لإعادة تسليح الحزب رغم التحديات القائمة.

ما كاد وقف إطلاق النار في لبنان يبدأ، حتى سقط نظام الأسد في سوريا، وهي تطورات سعى المسؤولون الإيرانيون لاحتوائها عبر إلقاء اللوم على فشل القوات النظامية السورية، ووضع مجرد بقاء حزب الله ضمن إطار النصر الإستراتيجي، وهو ما يعكس إستراتيجيتها الأوسع في الحفاظ على نفوذها وشبكة الردع التي تديرها خلال الحرب غير المتكافئة، كما أنه يرسل رسالة مفادها أن طهران لم تتخل عن طموحاتها ولا عن إطارها العملياتي المتصل بحزب الله.

 

[يمكنكم قراءة الورقة التحليلية كاملة من هذا الرابط]

 

شاركها.
Exit mobile version