في حين تظلُ أغلبُ الأنظار متجهةً نحو غزة، فإن الهجمات العسكرية الإسرائيلية على الضفة الغربية أسفرت عن مقتل أكثر من 594 شخصًا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بمن في ذلك 115 طفلًا قتلوا بالذخيرة الحية، و1411 طفلًا أصيبوا، وفقًا للأمم المتحدة، فيما سُجلت اثنتا عشرة حالة وفاة؛ بسبب العنف الذي يمارسه المستوطنون الإسرائيليون المتطرّفون.

في هذا الأسبوع، وسّعت إسرائيلُ حملتَها العسكرية في الضفة الغربية بشنّ غارات وضربات جوية على مدنِ: طولكرم وجنين وطوباس، في أكبر هجوم لها في الأراضي المحتلة منذ عام 2002 أثناء الانتفاضة الثانية.

بيدَ أنَّ الضفة الغربية قد قررت ـ بالتراكم بطبيعة الحال ـ وبشجاعةٍ الدخولَ إلى منعطف التحدي العسكري ورفض الإذعان للواقع الذي ما انفك الاحتلال الإسرائيلي، يقوم بهندسته لها، مُحاولًا إحالتها إلى “منطقةٍ رخوة”، يمكن استباحتُها متى يشاء، فيما يشبه “النزهة” مجانيًا بدونِ أي مقابلٍ مؤلمٍ في صفوفه، حتى قال رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي ـ خلال زيارة لجنين يوم السبت ـ إن القوات الإسرائيلية “لن تسمح للضفة الغربية بأن ترفع رأسها”!

استمرت المستوطناتُ في التوسع في العقود التي تلت ذلك، وبحلول عام 1993 كان هناك أكثر من 280 ألف شخص يعيشون في المستوطنات (130 ألفًا إذا تم استبعاد القدس الشرقية)، وفي نفس العام، وافقت إسرائيلُ ومنظمةُ التحرير الفلسطينية على تنفيذ حل الدولتين

اليوم حملت قرى ومخيماتٌ ومدنٌ فلسطينية بالضفة الغربية السلاحَ في وجه هذه الغطرسة الإسرائيلية، ورفعت رأسَهَا، وأربكت حساباته بعمليات نوعية على غير مثال سابق في تاريخ المواجهات في الضفة، وذلك بعد سلسلة طويلة من الانتهاكات الفجة وأخطرها تلك التي كانت تنهشُ في جسد أراضيها بهدوءٍ بعيدًا عن أية تغطية إعلامية تنقلها إلى متن اهتمامات المؤسسات الحقوقية في العالم، وذلك بالتعاطي الإسرائيلي معها ـ رسميًا أو بالسكوت والتغاضي ـ بوصف من فيها “ليسوا بشرًا” يستحقون الحياة، وإحالة أراضي الضفة إلى محضِ “مكب نفايات” لأكثر من نصف مليون مستوطن متطرف وعدواني، وفي حصانة من المُساءلة ـ أيًا كان نوعُها ومستواها ـ محليًا أو إقليميًا أو دوليًا.

لم  يرتبطْ هذا المنحى، فقط، بحزمةِ الضغوط المُعلنة والخفية، لإحالة الضفة إلى منطقةٍ طاردةٍ لسكانها، وإعادة هندسة الفراغ، ليتمدد فيه المستوطنون بلا أي عائق سكاني عرقي غريب، وإنما أيضًا يرتبط بنوع “المستوطنات/مجتمعات أيديولوجية” تعتقدُ بأنها حاصلة على شهادة “استعلاء سماوية” لا تُنزل مَنْ حولَهم منزلةَ البشر الذين يتعين الوفاء بحقوقهم.

حتى اليوم.. تشيرُ إسرائيل إلى الضفة الغربية باسمها التوراتي “يهودا والسامرة”، وتعتبرها القلبَ التاريخيَّ للشعب اليهودي، وعلى مدى 56 عامًا، بنت إسرائيل أكثرَ من 100 مستوطنة متناثرة في مختلفِ أنحاء الضفة الغربية، كما بنى المستوطنون عشرات البؤر الاستيطانية الصغيرة غير المرخصة التي تتسامح معها الحكومة بل وتشجّعها، وقد تم إضفاء الشرعية على بعضها في وقت لاحق.

وأقيمت المستوطنات الإسرائيلية لأسباب متنوعة: ففي بعض الحالات، سعى الإسرائيليون إلى استعادة  ما يزعمون أنها “الممتلكات المفقودة” في حرب عام 1948، مثل المستوطنات الأساسية في جوش عتصيون بين القدس والخليل، وفي الوقت نفسه، حفَّزت المؤسسات السياسيةُ والدفاعيةُ الإسرائيلية – مستوحاةً جزئيًا من خطة السلام التي وضعها بجال آلون نائب رئيس الوزراء (1967-1977) – تطوير المستوطنات في مواقع إستراتيجية مثل وادي الأردن، والتي رأى أن من شأنها “تعزز أمن إسرائيل وتقوي يدها في المفاوضات” فيما أقام المستوطنون الأيديولوجيون ـ الذين يسعون إلى تعظيم حيازة اليهود للأراضي التوراتية ـ مستوطنات مثل كريات أربع بالقرب من الخليل.

واستمرت المستوطناتُ في التوسع في العقود التي تلت ذلك، وبحلول عام 1993 كان هناك أكثر من 280 ألف شخص يعيشون في المستوطنات (130 ألفًا إذا تم استبعاد القدس الشرقية)، وفي نفس العام، وافقت إسرائيلُ ومنظمةُ التحرير الفلسطينية على تنفيذ حل الدولتين، والذي يتطلب من الطرفين التوصل إلى اتفاق بشأن الأمور التي سيكون لها عواقبُ مباشرة على حدود وتواصل الدولة الفلسطينية المستقبلية، بما في ذلك الوضع النهائي للمستوطنات الإسرائيلية.

وعلى الرغم من الاتفاق، انتشر بناء المستوطنات، وخاصة في الضفة الغربية، وفي عام 2019 وصل عدد المستوطنين إلى ما يقرب من 630 ألفًا (413 ألفًا إذا تم استبعاد القدس الشرقية). ومع ذلك، فإنَّ معظم هؤلاء المستوطنين الجدد كانوا مدفوعين بأسباب أيديولوجية “مجتمعات متشددة”، حيث يعتقدُ المستوطنون بها ـ  وفقًا لتفسير التوراة ـ أن الله أعطاهم الحق في الاستيطان هناك، وتقول بعض الإحصائيات إن المتدينين المتشددين يشكلون ثلث المجتمعات الاستيطانية.

ومؤخرًا وافقت إسرائيلُ على أكبر عملية مصادرة للأراضي في الضفة الغربية المحتلة منذ أكثر من ثلاثة عقود، وتقدمت بخططٍ لبناء آلاف المنازل الاستيطانية الجديدة، وذلك وفقًا لمنظمة السلام الآن، وهي مجموعة مراقبة إسرائيلية مناهضة للاستيطان، وهي الخطوة الأخيرة التي اتخذتها الحكومةُ الإسرائيلية اليمينية المتطرفة بهدفِ ترسيخ سيطرة إسرائيل على المنطقة ومنعِ إنشاء دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلة.

هذا “الحقُّ الإلهيُّ” المزعوم في أراضي الضفة الغربية (الأرض التوراتية) بحسب الهوس الديني المتنامي في إسرائيل، تم إسالته في العقل الإسرائيلي الاستيطاني إلى نظرة “احتقار” شديدة الغلو والتطرف إلى كل مَنْ هو فلسطيني، واستخدام سلاح “الصرف الصحي” كأداة “ناعمة” أو كاتمة للصوت ـ غير مصحوبة بضجيج المدافع ـ لإخلاء الضفة من سكانها الفلسطينيين، وهي الممارسة التي ما زالت تتخفى خلف تغطيةٍ إعلاميةٍ هشة وباهتة، غير مؤثرة في لفتِ انتباهِ العالم إليها.

وتشكل مياهُ الصرف الصحيِّ والنفاياتُ الصلبة الناتجة عن المستوطنات اليهودية  والمناطق الصناعية مثل عمانوئيل في الضفة الغربية المحتلة تهديدًا مزدوجًا، حيث تُعرض الصحة العامة للخطر وتجعل الأراضي الزراعية غير صالحة للاستخدام.

ووفقًا لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإنَّ المستوطنات اليهودية غير القانونية في الضفة الغربية، التي تفتقر إلى مرافق المعالجة المناسبة، تنتج حوالي 40 مليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي سنويًا.

وكشفت الدراساتُ التي أجرتها الهيئة عام 2018، أنَّ نحو 90% من هذه النفايات، أي ما يقارب 35 مليون متر مكعب، يتم تصريفُها دون معالجة في الأراضي الفلسطينية.

وفي الأثناء أظهرت الأبحاثُ التي أجرتها منظمة Cesvi الإنسانية الإيطالية في عام 2019 أن المستوطنين ينتجون نفاياتٍ صلبة أكثر للفرد مقارنة بالفلسطينيين، ففي حين أنتج الفلسطينيون عام 2019 في الضفة الغربية ما متوسطه 0.9 كيلوغرام (1.98 رطل) من النفايات الصلبة للشخص الواحد يوميًا، أنتج المستوطنون الإسرائيليون 1.9 كيلوغرام، وبناءً على هذه البيانات، تشيرُ التقديراتُ إلى أنَّ المستوطنات غير القانونية،  تولد حوالي 1200 طن من النفايات الصلبة يوميًا.

وفي تقريرٍ حديثٍ صادر عن المجلس النرويجي للاجئين، تم تحليل الأثر البيئي لمياه الصرف الصحي غير المعالجة من مستوطنات الضفة الغربية باستخدام طرق مختلفة، بما في ذلك نظم المعلومات الجغرافية، والتحليلات الكيميائية والبيولوجية، والبحوث الاجتماعية والاقتصادية التي أجراها مركز أبحاث الأراضيLRC من 1 مايو/أيار إلى 31 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.

واكتشفت الدراسة البكتيريا القولونية، التي توجد عادة في مياه الصرف الصحي والنفايات الحيوانية، في عينات المياه من المناطق الزراعية في وادي شخيت والمنطقة الصناعية في عمانوئيل التي تضم المصانع ومحطات إعادة التدوير، كما وُجدت مستويات عالية من النترات، مما قد يسبب تلوث المياه الجوفية.

وكانت بكتيريا الإشريكية القولونية، المرتبطة بالإسهال والأمراض الخطيرة الأخرى، موجودةً في عينات التربة والمياه، مما يشيرُ إلى تلوثِها بمياه الصرف الصحي وفضلاتِ الحيوانات.

بالإضافة إلى ذلك، تم العثور على آثار للمعادن الثقيلة مثل النحاس والمنغنيز والكروم والنيكل، إلى جانب ارتفاع مستويات الصوديوم التي تعطل بنية التربة وامتصاص العناصر الغذائية، مما يعيق نمو المحاصيل، ولقد تجاوزت مستويات الملوثات العضوية معايير الاتحاد الأوروبي، حيث وصل الطلبُ على الأكسجين الكيميائي إلى 312 مليغرامًا لكل لتر في وادي شخيت و557 مليغرامًا لكل لترٍ في عمانوئيل، كما بلغت نسبة المواد الصلبة العالقة الكلية في وادي شخيت 960 مليغرامًا لكلِّ لتر، و8809 مليغرامات لكل لترٍ في عمانوئيل، متجاوزة القيمة الطبيعية البالغة 35 إلى 60 مليغراما لكل لتر.

وتؤدي المياهُ العادمة التي يتم تصريفها من منطقة وادي شخيت وعمانوئيل الصناعية إلى إتلاف الغطاء النباتي وجعل الأراضي الزراعية غير صالحة للاستخدام.

وتواترت تحذيرات “خجولة” من خبراء من أنَّ التلوث، الذي يهدد الصحة العامة والبيئة، يؤدي إلى تفاقم الضغوط على الفلسطينيين الذين يتعاملون بالفعل مع الآثار المكثفة لتغيّر المناخ.

وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، من المتوقع أنْ يرتفع متوسط ​​درجة حرارة الهواء في الضفة الغربية بمقدار 4.4 درجات مئوية (39.92 درجة فهرنهايت) بحلول نهاية القرن الحادي والعشرين، مع توقع أن يكون حوالي 60٪ من الأيام حارًا، وقد يؤدي الانخفاض المحتمل بنسبة 30% في إجمالي هطول الأمطار السنوي في المنطقة إلى أيام أكثر حرارة وجفافًا.

الضفة الغربية ، إذن، كانت أمامَ خيارين: إما الإنفجار وإما الاختفاء.. هو الخيار الذي لم يكن بالتزامن مع العدوان الوحشي والإجرامي على غزة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول.. بل كان حاضرًا طوالَ الوقت، ولم يتركْ لها الإسرائيليون خيارًا ثالثًا، والذي بدت بشائره تتصاعد بوتيرة شديدة الخطورة، ستفضى حتمًا إلى اختلاط جميع الأوراق، وإضافة المزيد من الأسباب المؤدية إلى فوضى منفلتة، لا تتمناها جميع الأطراف التي باتت على وشْك التورط في حريق كبير وهائل في منطقة الشرق الأوسط.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version