يتوجّه التونسيون اليوم الأحد السادس من أكتوبر/تشرين الأول إلى مكاتب الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في ثالث انتخابات رئاسية منذ ثورة الحرية والكرامة (2011)؛ لاختيار رئيسهم القادم من بين ثلاثة مترشحين؛ أحدهم قيس سعيد، الرئيس المنتهية ولايته، وزهير المغزاوي، الأمين العام لحركة الشعب الداعمة لقيس سعيد، والعياشي زمال الذي يقضي أحكامًا بالسجن؛ بسبب “مخالفات انتخابية”.
من المتوقع فوز قيس سعيد بولاية ثانية في انتخابات لم تعرف لها تونس مثيلًا حتى زمن استبداد الرئيسين الأسبقين: بورقيبة، وبن علي. فعل قيس سعيد وأذرعه المختلفة كل شيء من أجل ضمان إعادة انتخابه.
تجاوزت هيئة الانتخابات المعيّنة من قيس سعيد صلاحياتها، مما أدّى إلى إقصاء العديد من المترشحين، ومنهم الجدّيون، ورفض الهيئة تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية، الجهة المخوّلة بالبتّ في النزاع الانتخابي، بإعادة ثلاثة مترشحين من بين من أقصتهم إلى السباق الانتخابي.
من جهته، صادق مجلس نواب الشعب (المنتخب بـ 8% فقط من أصوات الناخبين في 2023) على تعديل القانون الانتخابي، بأيّام قليلة قبل يوم الاقتراع، تمّ بمقتضاه سحب اختصاص المحكمة الإدارية في النظر والبت في النزاعات الانتخابية، وتحويله إلى القضاء العدلي.
هذا إضافة إلى التضييق على حرية التعبير للمترشحين ولنشطاء الفضاءَين: السياسي والمدني، ولعموم التونسيين بفعل المرسوم 54 الذي يقبع بسببه ما لا يقل عن ألف وسبعمائة تونسية وتونسي في السجن.
كل هذه الإجراءات والخروقات وغيرها التي شابت المسار الانتخابي، جعلت من هذه الانتخابات، من منظور المتابعين ومعارضي قيس سعيد، فاقدة للحدّ الأدنى من شروط النزاهة والتعدّدية والشفافية بما جعلها أقرب إلى بيعة أو تزكية “قسرية” للرئيس المنتهية ولايته أكثر من كونها انتخاباتٍ حرّةً.
انتخابات صامتة
على خلاف كل الانتخابات السابقة التي انتظمت في عشرية الانتقال الديمقراطي (2011-2021)، لم تشهد الفترة المخصصة للحملات الانتخابية للمترشحين في هذه “الانتخابات”، حركية إعلامية وميدانية وتواصلية تعكس قيمة الاستحقاق الانتخابي ورهاناته. من أسباب ذلك:
- قلّة المترشحين المتنافسين، حيث لم يتجاوز عددهم الثلاثة، يقبع أحدُهم بالسجن، على خلاف انتخابات 2019 التي تنافس فيها ستة وعشرون مترشحًا يمثلون كل العائلات السياسية، إضافةً للعديد من المستقلين. تأتي قلّة المتنافسين من الإجراءات الإقصائية التي اعتمدتها هيئة الانتخابات، ومن أجواء الخوف التي فرضتها سلطة قيس سعيد على المترشحين، وعلى الناخبين على حدّ سواء.
- ضعف حجم الإنفاق الانتخابي الذي حدّد سقفه بطريقة أحادية المترشح قيس سعيد، بصفته الرئيس المنتهية ولايته، بمائة وخمسين ألف دينار في الدور الأول، وبمائة ألف دينار في الدور الثاني، وهي مبالغ ضعيفة لا تسمح بتنظيم حملات دعائية وتحركات ميدانية في مستوى الاستحقاق.
- ضعف التغطية الإعلامية؛ نتيجة وضع المؤسسات الإعلامية تحت ضغط المتابعات القضائية، والخطايا المالية بعد أن اغتصبت هيئة الانتخابات اختصاص الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا) في تحديد القواعد والشروط التي يتعيّن على وسائل الإعلام التقيّد بها خلال الحملة الانتخابية ويوم الاقتراع، استنادًا إلى أن لها (هيئة الانتخابات) الولاية العامة على الانتخابات وكل ما يتصل بها.
كما ساهم اعتقال عدد من الإعلاميين وإحالة عدد آخر منهم على القضاء بتهم مختلفة تتراوح بين التآمر على الأمن الداخلي والخارجي للدولة وبين مخالفة المرسوم 54 المقيّد لحرية التعبير، في إشاعة حالة من الحذر تصل إلى الخوف في أوساط القائمين على الإعلام العمومي، خاصة بعد أن تمّ تحويله تحت حكم قيس سعيد إلى إعلام رئاسي لا مكان فيه للمعارضة والرأي الآخر، وفي أوساط أصحاب المؤسسات الإعلامية الخاصة التي تمّ “تدجين” خطها التحريري، وإلغاء البرامج الحوارية السياسية، وطرد بعض الإعلاميين “المشاكسين”.
عزوف عموم الناخبين عن هذه الانتخابات هو جزء من عزوفهم عن الاهتمام بالشأن العام، عزوف يعكس حالة الإحباط التي يعيشها التونسيون بعد أن خاب أملهم في قيس سعيد الذي أخلف معهم كل وعوده، وفشل حتى في أن يضمن لهم مستوى عيشهم الذي كانوا عليه خلال عشرية الانتقال الديمقراطي.
الأرجح أن يؤثّر هذا العزوف في الاهتمام بالمسار الانتخابي الرئاسي على نسبة الاقتراع اليوم، لتكون مرة أخرى ضعيفة جدًّا، مثلما كانت في كلّ الانتخابات التي نظّمها قيس سعيد منذ انقلابه في 25 يوليو/تموز 2021، خاصة مع إيهام الناخبين بأن إعادة انتخاب قيس سعيد ستكون مضمونة من الدور الأول، حسب ما يروّجه أتباعه.
غياب العروض السياسية الجادة من طرف المترشحين باستثناء ما قدّمه المترشح السجين العياشي زمال في وثيقته السياسية “الميثاق” من روح إيجابية ومقاربات جريئة وصريحة بعيدًا عن التخوين والترذيل والوصم والإقصاء والتقسيم التي تطفح بها خطابات المترشحَين الآخرين: المغزاوي، وسعيد خاصة.
فقد نجح المترشح زمال في تقديم معادلة يحتاجها مستقبل تونس، طرفها الأول البناء على مكاسب المراحل السابقة، وطرفها الثاني اجتراح الحلول للمشاكل والمخاطر التي تواجهها تونس، وَفق ترتيب معيّن للأولويات ومقاربات واقعية قابلة للتنزيل، وتغيير الواقع في أفق زمن محدّد.
كما نجح زمال في أن يتحرّر من التاريخ السياسي القريب والبعيد بكل أثقاله وعاهاته، وأن ينخرط في مقابل ذلك في المستقبل، وهو ما عبّر عنه في شعار برنامجه الانتخابي “نقلبو الصفحة”، بما يعني أن نفتح صفحة جديدة لا أن نمزق الكتاب.
نهاية صورة
يمكن تكثيف كل ما يتعلق بهذه الانتخابات من مقدّماتها إلى أطوارها وحصائلها وصولًا إلى نتيجتها المتوقعة بأنها ستمثل منعرجًا في المشهد السياسي التونسي، ولحظة فاصلة بين زمنَين: زمن بدا فيه قيس سعيد رئيسًا شعبيًا جمع حوله حاضنة شعبية وسياسية واسعة جدًا وأيقونة للإصلاح ومقاومة الفساد وتحقيق ما يريده الشعب وهو جملة استحقاقات الثورة، ومنها خاصة الاقتصادية والاجتماعية، وزمن أصبح فيه قيس سعيد مستبدًا معزولًا بدون حزام سياسي، خصيمًا للثورة وهادمًا لمكاسب الانتقال الديمقراطي، وتهديدًا للسلم الاجتماعي والأمن القومي، ليستحيل في الأخير إلى عبء على الدولة والمجتمع، ومجرد ظاهرة صوتية لم تغيّر ولن تغيّر من واقع التونسيين شيئًا إلا نحو الأسوأ.
بداية حراك
في جانب آخر، مثّلت الانتخابات فرصة لإطلاق حراك مواطني وسياسي ومدني هامّ ومؤثر ساهم في جرّ قيس سعيد إلى مربع الانفعال وردّ الفعل، مما دفعه لارتكاب العديد من الأخطاء والتجاوزات والخطايا بميزان القانون والعقل والمزاج العام، وإظهاره في جلباب المستبد المستميت في التمسك بالكرسي والمتعدي على القانون والأخلاق والمغتصب لحق التونسيين في انتخابات حرة، تعددية، نزيهة وشفافة.
كما كان المسار الانتخابي الرئاسي الراهن كفيلًا بأن يُخرج العديد من نشطاء المجتمعَين: السياسي والمدني وشرائح غير قليلة من المواطنين، وخاصة من الشباب، من المنطقة الرمادية إلى حالة من اليقين في أن ما قام به قيس سعيد ليلة 25 يوليو/ تموز 2021 هو انقلاب كامل الأركان تجب مقاومته وإنهاؤه حتى لا يذهب أبعد مما ذهب في تغيير هيئة الدولة، وتمرير مشروعه الشخصيّ، وتقويض مكاسب التونسيين، وخاصة الحقوق والحريات.
- حقّقت ديناميكية الانتخابات مكاسب هامّة في المشهد السياسيّ العام، لم تنجح العملية السياسيّة بمختلف أطرافها في تحقيقها على الأقل بنفس القدر طيلة ثلاثية الانقلاب (2021-2024). فقد توسّع الحزام المعارض لنظام سعيد الذي قادته طيلة سنتين تقريبًا جبهةُ الخلاص الوطني (النهضة وحلفاؤها) إلى ما هو أوسع من السياسي بإعلان تكوين الشبكة التونسية للحقوق والحريات: (الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، وعدد من منظمات المجتمع المدني).
- المكسب الثاني الذي تحقق ضمن ديناميكية الانتخابات، هو مزيد اختراق حاجز الخوف بعد أن ظن قيس سعيد أنه نجح في فرضه على التونسيين. يبدو هذا الاختراق واضحًا في تعدّد التحركات الاحتجاجية وفي التطور النوعي، أولًا في الشعارات المرفوعة، ومنها شعار: “ارحل” الشهير، وثانيًا في رمزية أماكن الاحتجاج، مثل ساحة باردو المقابلة لمقر مجلس نواب الشعب يوم انعقاد الجلسة “الفضيحة” التي تمّ فيها تعديل القانون الانتخابي بتجريد المحكمة الإدارية من اختصاصها بالبتّ في النزاع الانتخابي، وإحالته إلى القضاء العدلي، بأيّام قليلة قبل يوم الاقتراع.
وجاءت خاتمة هذه التحركات الشعبية الهامّة يوم الجمعة 4 أكتوبر/تشرين الأول، عشية يوم الصمت الانتخابي بمظاهرة جابت أهمّ شوارع العاصمة تونس، شارك فيها الآلاف حسب بعض التقديرات، من مختلف الطيف السياسي والمدني، حيث رُفعت شعارات قويّة ضد قيس سعيد، منها: “الشعب يريد إسقاط النظام” و”حريات حريات لا رئاسة مدى الحياة” و”لا خوف لا رعب الشارع ملك الشعب”.
لا شك أن محطة الانتخابات الرئاسية مثّلت لمعارضي قيس سعيد لحظة فارقة ساهمت في تجلية الكثير من الغموض حول حقيقة المشروع السياسي التسلطي لسعيد ومخاطره على تونس والتونسيين، كما ساهمت في تأكيد الحاجة إلى تصليب مقاومته بالنضال السياسي السلمي والمدني، خاصة أن شعبيته، حسب العديد من استطلاعات الرأي غير المنشورة، قد تراجعت إلى أدنى مستوياتها، وأن حظوظه في تدارك ذلك تبدو معدومةً؛ لما أظهره من عدم كفاءة في إدارة الشأن العام، وخاصة أمام تعاظم التحديات والمخاطر.
ستكون الولاية الثانية لقيس سعيد مختلفة تمامًا عن الأولى. بينما جاءت الأولى من رحم بيئة ديمقراطيّة وانتخابات حرة ونزيهة وشفافة، جاءت الثانية من رحم بيئة انتخابية فاقدة لكل معايير الانتخابات الديمقراطية.
كان سعيد في الأولى في نظر التونسيين أيقونةً للإصلاح، وهو في الثانية مستبدٌ فاشلٌ وخطر على الدولة والمجتمع. كان سعيد في الأولى محلَّ إجماع التونسيين بمختلف توجهاتهم، وهو في الثانية معزولٌ سياسيًا ومرفوضٌ شعبيًا.
في مقابل تهافت صورة قيس سعيد ودخوله في ديناميكية سلبية، دخلت الساحة السياسية في ديناميكية إيجابية مع بداية تشكل حراك سياسي ومدني مهمّ نجح في تحقيق خطوات مهمّة، وبقي أمامه استكمالها بأخرى حتى تنضج حالة سياسية معارضة لقيس سعيد، قادرة على تعبئة الشارع، وتحقيق التغيير المطلوب.
بقي أمام هذا الحراك، بمختلف أطرافه السياسية والمدنية والمواطنية، بناء ثقافة سياسية بديلة عبر كسر كل الأقفاص والحلقات المفرغة التي انحبست فيها العملية السياسية في عشرية الانتقال الديمقراطي وبعدها، من ذلك المواقف الصفرية والإقصاء والتعفين والاحتراب الأيديولوجي.
بدا واضحًا أن تونس تحتاج عرضًا سياسيًا جديدًا بديلًا عن مشروع قيس سعيد ومتطوّرًا عما قبل 25 يوليو/ تموز 2021، يقوم على ثقافة سياسية جديدة أساسُها الديمقراطية، والاعتراف المتبادل بين الجميع، ويزاوج بين التنمية والديمقراطية.
سيكون حراك المعارضة هو الرابح، وإن نجح قيس سعيد في اختطاف ولاية ثانية، وسيكون قيس سعيد رئيسًا ضعيفًا منزوع الشرعية والمشروعية سياسيًا وأخلاقيًا وبدون أفق، ما سيدفعه إلى ارتكاب المزيد من الأخطاء والخطايا، وبالتالي إلى مزيدٍ من الفشل حتى ينفد رصيده بالكامل. أمام المعارضة أفق واسع وفرصة تاريخية لتحقيق التغيير المطلوب عبر البناء على ما تحقق من مكاسب خلال العملية الانتخابية وقبلها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.