في سابقة تهزّ أركان المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، وجّهت الولايات المتحدة ضربة غير معهودة لاستقلالية منظومة حقوق الإنسان الأممية، بفرضها عقوبات مباشرة على المقررة الخاصة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيزي؛ بسبب تقاريرها التي اتهمت إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة.
لم يكن الأمر مجرد خلاف دبلوماسي، بل تحوّل إلى مواجهة قانونية وسياسية تهدد حيادية الأمم المتحدة ذاتها. فحين تصبح مهمة حقوقية أممية محفوفة بالعقوبات والمنع من السفر، فإننا أمام منعطف خطير يُعيد تعريف حدود مساءلة الدول الكبرى في العصر الحديث.
في هذا المقال، نحلل أبعاد هذا التطور غير المسبوق، ونرصد الأسس القانونية التي تم انتهاكها، والرسائل السياسية الكامنة وراء العقوبات، مستعرضين حالة ألبانيزي كنموذج حي لصراع بين الضمير الحقوقي وسيف القوة، ومقترحين سبلًا لحماية منظومة الأمم المتحدة من هذا النوع من التهديدات المستترة.
لماذا فرانشيسكا حصرًا؟
استُهدفت فرانشيسكا ألبانيزي لأنها تجاوزت الخطوط الحمراء بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل، من خلال تقارير صريحة اتهمت فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، ودعت إلى محاسبة قادتها أمام المحكمة الجنائية الدولية.
كما اتهمت أكثر من 60 شركة، بينها شركات أميركية كبرى، بالتربح من العدوان والمساهمة فيه، وهو ما اعتبرته واشنطن تهديدًا مباشرًا لمصالحها السياسية والاقتصادية.
جاءت العقوبات الأميركية يوليو/ تموز 2025، ضمن أمر تنفيذي يسمح بمعاقبة من يدعم جهودًا قانونية ضد الولايات المتحدة أو إسرائيل في المحافل الدولية، لتتحول ألبانيزي إلى أول مقررة أممية تُدرج رسميًا على لوائح العقوبات.
ورغم الهجمة، واجهت ألبانيزي القرار بثبات، وواصلت مهمتها الحقوقية، مؤكدة أن الضغط لن يثنيها عن قول الحقيقة. وقد أثار هذا الاستهداف ردود فعل أممية وحقوقية غاضبة، واعتُبر تهديدًا لاستقلالية نظام المقررين، ولسيادة القانون الدولي، ولحق الضحايا في العدالة.
ردود الفعل الأممية والحقوقية: إجماع أخلاقي في مقابل غياب أدوات الردع
أثارت العقوبات الأميركية على فرانشيسكا ألبانيزي ردود فعل واسعة؛ إذ أعرب مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان عن “قلقه العميق”، مؤكّدًا أن العقوبات تمسّ استقلالية منظومة المقررين الأمميين.
كما عبّر مجلس حقوق الإنسان عن رفضه المساس بخبرائه، داعيًا إلى احترام حصاناتهم. أما منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، فوصفتا الخطوة بأنها “سابقة خطيرة” تهدف إلى إسكات الأصوات الحقوقية الناقدة. وأكد المتحدث باسم الأمين العام أن العقوبات “غير مقبولة على الإطلاق”، وتمثل تهديدًا جوهريًا لعمل المنظومة الحقوقية.
تعكس هذه المواقف إجماعًا دوليًا أخلاقيًا على رفض استهداف المقررين، لكنها تبقى في إطار الإدانة الرمزية دون أدوات تنفيذية تلزم الدولة المعتدية بالتراجع. ورغم أهميتها المعنوية، لا تملك الأمم المتحدة أو منظماتها الحقوقية وسائل قسرية لإلغاء العقوبات، ما يجعل الحماية الفعلية مرهونة بتكثيف الضغط السياسي والإعلامي.
العقوبات المفروضة على مقرري الأمم المتحدة: الطبيعة والدلالة القانونية
مقررو الأمم المتحدة الخاصون هم خبراء مستقلون تعيّنهم منظمة الأمم المتحدة – عادة عبر مجلس حقوق الإنسان – لتولي ولايات محددة تتعلق برصد حالة حقوق الإنسان في بلد معين أو بشأن قضية موضوعية محددة.
لا يعتبر المقررون موظفين تقليديين لدى الأمم المتحدة ولا يتلقون تعليماتهم من الدول؛ بل يقومون بعملهم بصفة تطوعية ومستقلة لضمان الموضوعية والحياد.
ورغم استقلاليتهم، فإنهم يعملون تحت مظلة الأمم المتحدة ويتمتعون بدعمها الأدبي والقانوني. ومن المهم التأكيد أن آراء المقررين الخاصين لا تعبر بالضرورة عن رأي الأمم المتحدة كمنظمة، بل تعكس اجتهاداتهم المبنية على المعايير الدولية.
تقارير المقررين وتوصياتهم لا تملك قوة إلزام قانونية مباشرة، لكنها تكتسب أهمية معنوية وأخلاقية كبيرة، حيث تسلّط الضغط على الدول المعنية، وتوجّه أنظار المجتمع الدولي إلى الانتهاكات أو القضايا المثارة.
فرض عقوبات على مقرري الأمم المتحدة يعني أن تقوم دولة ما باتخاذ إجراءات عقابية ضد شخص يشغل منصب المقرر الخاص بسبب عمله ضمن ولايته الأممية.
عادة تتخذ العقوبات شكل إدراج الاسم على قوائم سوداء وطنية، وما يترتب على ذلك من تجميد أصول مالية- إن وجدت- وحظر السفر إلى تلك الدولة، وربما أيضًا منع المواطنين والشركات من التعامل معه.
هذه الأدوات كثيرًا ما تستعملها الدول ضد منتهكي حقوق الإنسان أو خصومها السياسيين؛ غير أن استخدامها ضد خبير حقوقي تابع للأمم المتحدة يمثل خرقًا للأعراف الدبلوماسية والقانونية المستقرة.
فعلى المستوى القانوني، يتمتع مقررو الأمم المتحدة بحصانات وامتيازات تهدف إلى حمايتهم من أية مضايقات أو تبعات قانونية نتيجة قيامهم بمهامهم.
اتفاقية امتيازات وحصانات الأمم المتحدة لعام 1946 تنص صراحةً على منح الخبراء الموفدين في مهام أممية ما يلزم من حصانة لضمان استقلالهم، بما في ذلك الحصانة من أي شكل من أشكال الإجراءات القانونية أو المضايقات؛ بسبب ما يصدر عنهم من أقوال أو كتابات أو أفعال أثناء تأدية مهامهم.
وبناء عليه، فإن فرض عقوبة على مقرر خاص بسبب تقرير رفعه أو تصريح أدلى به يعدّ مساسًا مباشرًا بتلك الحصانة القضائية التامة المكفولة له، ويثير التساؤل حول مدى احترام الدولة المعنية لالتزاماتها الدولية.
الدلالة القانونية لمثل هذا الإجراء خطيرة ومتعددة الأوجه. فمن جهة، يعني ذلك أن الدولة الفارضة للعقوبات لا تعترف ضمنيًا باستقلالية المقرر الخاص وتعامله كخصم سياسي أو أمني، وليس كخبير محايد تعمل تقاريره ضمن الأطر الأممية.
ومن جهة أخرى، يهدد هذا الإجراء مبدأ التعاون الدولي المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة. فالمادة 105 من الميثاق- مع اتفاقية 1946- أقرّت بوجوب تمتع مسؤولي الأمم المتحدة وخبرائها بالامتيازات الضرورية لأداء وظائفهم باستقلالية.
تنص اتفاقية امتيازات وحصانات الوكالات المتخصصة لعام 1947 على تمتع خبراء المنظمات التابعة للأمم المتحدة، كمجلس حقوق الإنسان، بالحصانة من الإجراءات القانونية أثناء تأدية مهامهم الدولية.
إن تحدي هذه الضمانات القانونية عبر عقوبات أحادية يبعث برسالة مفادها أن الدولة مستعدة لتجاوز القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية إذا تعارضت آراء الخبير الأممي مع سياساتها.
وعليه، يعدّ فرض العقوبات هنا انتهاكًا لمبدأ أساسي في القانون الدولي يتمثل بضرورة احترام الدول لالتزاماتها التعاقدية تجاه المنظمة الدولية وخبرائها، ويشكل أيضًا طعنًا في منظومة سيادة القانون على المستوى العالمي.
سابقة تهز الثوابت: هل كُسرت حصانة المقررين الأمميين؟
يصف كثير من المحللين واقعة فرض عقوبات أميركية على المقررة الأممية بأنها غير مسبوقة. فخلال العقود الماضية، لم تُسجّل حالات معروفة عمدت فيها دولة إلى إدراج مقرر خاص أممي في قائمة عقوبات رسمية.
وقد أكدت الأمم المتحدة نفسها أن هذا الإجراء يمثل سابقة خطيرة يجب ألا تتكرر. ومع ذلك، يمكن الإشارة إلى بعض الحوادث ذات الصلة التي تعكس توترًا بين دول ومقرري الأمم المتحدة، حتى لو لم تصل حد العقوبات المالية المباشرة.
على سبيل المثال، كثيرًا ما رفضت بعض الدول السماح لمقرري الأمم المتحدة بدخول أراضيها أو التعاون معهم، كنوع من الإعاقة غير المباشرة لعملهم.
إسرائيل- على سبيل المثال- كثيرًا ما اتهمت المقررين المكلفين بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية بالانحياز، ورفضت استقبالهم أو التعاون معهم.
وفي حالة فرانشيسكا ألبانيزي نفسها قبل فرض العقوبات الأميركية، أعلنت إسرائيل في مطلع 2024 حظر دخولها إلى الأراضي المحتلة، بل ودعت علنًا إلى إنهاء ولايتها عقب تصريحات لها اعتُبرت غير مقبولة من جانب الحكومة الإسرائيلية.
مثل هذا الحظر مثّل محاولة لعزل المقررة وشل قدرتها على جمع المعلومات ميدانيًا، ولكنه بقي ضمن نطاق الإجراءات الدبلوماسية الاعتيادية (كعدم إصدار تأشيرة دخول) ولم يصل إلى تجريمها أو معاقبتها ماليًا.
من السوابق الأخرى الجديرة بالذكر رفض روسيا التعاون مع المقررة الخاصة بحالة حقوق الإنسان في روسيا. فعندما عيّن مجلس حقوق الإنسان الخبيرة ماريانا كاتزاروفا لمتابعة الانتهاكات في روسيا، أعلنت موسكو عدم اعترافها بالولاية ومنعتها من زيارة البلاد.
ورغم حدة هذا الموقف، امتنعت روسيا حتى الآن عن اتخاذ خطوة إضافية بمعاقبة المقررة بشكل مباشر. ولكنّ مراقبين حذروا من أن الخطوة الأميركية قد “تفتح الأبواب” أمام دول أخرى لتحذو حذوها، ما ينذر بتفاقم ظاهرة الانتقام من المقررين الخاصين على مستوى عالمي.
ويعتبر خبراء في الأمم المتحدة أن إقدام أي دولة على معاقبة خبير أممي مستقل هو هجوم على منظومة الأمم المتحدة ككل، لأنه يقوّض الآلية التي أرستها الدول ذاتها لمساءلة بعضها البعض في مجال حقوق الإنسان.
وربما يمكن إيجاد شبيه جزئي لهذه الواقعة في سياسة الإدارة الأميركية السابقة (خلال ولاية الرئيس ترامب الأولى 2020) حين فرضت عقوبات على مسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية (مثل المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا)؛ بسبب تحقيقاتهم في جرائم حرب مزعومة، إذ جُمّدت أصولهم ومُنعوا من دخول الولايات المتحدة آنذاك.
وقد رأى كثيرون في تلك الخطوة استهدافًا لاستقلال القضاء الدولي. وفي السيناريو الحالي (عودة إدارة ترامب للسلطة 2025)، توسعت تلك السياسة لتشمل معاقبة خبراء أمميين مثل ألبانيزي.
وتشير التقارير إلى أن الإدارة الأميركية ذاتها التي عاقبت ألبانيزي كانت قد فرضت قبلها بشهر عقوبات على عدد من قضاة المحكمة الجنائية الدولية إثر إصدار المحكمة مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ومسؤولين آخرين.
هذه الخطوات تعكس نهجًا متصاعدًا يعتبره المنتقدون “حربًا قانونية” أو Lawfare تستخدمها دولة قوية لحماية حلفائها من المحاسبة، عبر تجريم من يسعى لتحقيق تلك المحاسبة دوليًا.
وعلى الرغم من الاختلاف البنيوي بين محكمة دولية ومقرري الأمم المتحدة، فإن الفلسفة واحدة: استخدام العقوبات الوطنية سلاحًا لعرقلة أدوات العدالة الدولية.
ورغم وجود أمثلة سابقة على محاولات تعطيل عمل المقررين أو تهديدهم من قبل دول منزعجة من تقاريرهم، فإن تحويل هذا الرفض أو الإحباط إلى عقوبات اقتصادية وقانونية رسمية ضد خبير أممي يمارس مهامه ضمن ولايته هو تطور جديد ومقلق.
إنه تجاوز واضح لحدود الاحتجاج الدبلوماسي التقليدي إلى مستوى الإجراء العقابي الانتقامي المباشر. ولهذا السبب، اعتُبرت العقوبات المفروضة على ألبانيزي سابقة غير معهودة في تاريخ الأمم المتحدة، وحذّرت المنظمة الدولية من خطورتها وانعكاساتها السلبية على استقلالية نظامها الحقوقي.
يتضح أن فاعلية النظام الأممي في حماية المقررين مرهونة بتعاون الدول واحترامها للقانون. فعندما تنتهك إحدى الدول- خصوصًا إن كانت كبرى وذات نفوذ- تلك الضوابط، لا تستطيع الأمم المتحدة إجبارها بالقوة على التراجع، بل تعتمد على الضغط الدبلوماسي والإعلامي ومكانة الدولة المعنوية.
في حالة ألبانيزي، أحدثت الإدانة الأممية والإحراج الدولي بعض التأثير؛ فقد وجدت واشنطن نفسها معزولة في هذا الموقف وتحت وابل من الانتقادات من الحلفاء والخصوم على حد سواء.
وهذا بحد ذاته جزء من الحماية المعنوية التي يوفرها النظام الأممي لمقرريه: أي جعل ثمن استهدافهم سياسيًا ومعنويًا عاليًا بما يكفي لردع الدول الأخرى عن تكرار الأمر.
في ضوء هذه السابقة الخطيرة، تبرز حاجة ملحّة لتحصين منظومة المقررين الأمميين من التسييس والانتقام، من خلال إنشاء آليات حماية مؤسسية أكثر صلابة، وضمان تضامن دولي فاعل يجرّم استهداف الخبراء الحقوقيين بسبب مواقفهم.
كما ينبغي على مجلس حقوق الإنسان تطوير بروتوكول طارئ للرد على مثل هذه الحالات، بما يشمل تفعيل المساءلة المعنوية للدول المنتهكة. فاستمرار الصمت أو الاكتفاء بالإدانة اللفظية يهدّد بانهيار جدار الحماية الأخير لمنظومة حقوق الإنسان، ويُغري دولًا أخرى بتكرار الفعل، ما يضع النظام الدولي برمّته أمام مفترق وجودي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.