كانت تعوم في الفضاء بصمتٍ مطبق بعيدة عن الأنظار، متخفية في جنح الظلام الحالك لا تدركها الأبصار، تتربّص بفريستها بتمهل وترقب، حتّى إذا ما وقعت بين مخالبها، فكأنها حكمت على نفسها بالفناء المحتّم. تلك الوحوش الصامتة المتسترة التي تملأ الكون تعيش على التهام كلّ ما تصادفه، مهما كبر حجمه أو صغر، تلك الثقوب الكونية بلا نهايات، لا تمتلئ ولا تشبع.

الثقوب السوداء

ويعزى اكتشاف تلك الأجرام السماوية المفترسة إلى الصدفة المطلقة، فقد بدأ بطباشير وسبّورة مهترئة، ومعادلات رياضية معقّدة تنتظر من يفك لغزها. ومع أن العالم الألماني “ألبرت أينشتاين” متفق على عبقريته، فإنه لم يكن قادرا على إيجاد حلول دقيقة للمعادلات الرياضية التي افترضها في نظريته الشهيرة، نظرية “النسبية العامة” التي أعلن عنها في عام 1915.

فكلّ ما أراده “أينشتاين” هو إقحام الجاذبية ضمن نظريته السابقة “النسبية الخاصة”، ليصف تفاعل المادة مع النسيج الكوني، أو الزمكان كما أطلق عليه. وبعد أن صاغ الإطار الرياضي للنسبية العامة، وجد “أينشتاين” صعوبة بالغة في إيجاد حلول لبعض السيناريوهات المعقدة التي تختلف باختلاف المعطيات.

“كارل شفارتسشيلد”.. جندي على الجبهة يكشف انحناءات الزمكان

بعد مضي عام على إعلان نظرية النسبية العامة، كان الرياضي الألماني “كارل شفارتسشيلد” يعمل خفية لإيجاد الحل الرياضي الدقيق الأوّل لمعادلات حقل “أينشتاين”، وقد وصف فيه الشكل الهندسي لنسيج الزمكان المحيط بالأجسام السماوية الضخمة كالنجوم والكواكب. وما كان مثيرا للاهتمام أنّ “شفارتسشيلد” توصّل إلى إنجازه في ظل ظروف إعجازية، فقد كان مجنّدا على الجبهة الأمامية في مواجهة الروس خلال الحرب العالمية الأولى، وأصيب يومئذ بمرض الفقاع، ومات على أثره بعد عام.

على بعد 58 مليون كم من الشمس يقع كوكب عطارد، وهو نفس قطر الثقب الأسود في مركز مجرتنا

لقد كشف الحلُّ الدقيق الذي توصل إليه “شفارتسشيلد” أنّ الأجسام تحدث انحناءات في الزمكان تتناسب مع كتلتها، فكلما كانت الكتلة أكبر كان الانحناء أشد. ثمّ ذهب الحل إلى ما هو أبعد من ذلك بالقول إن أي كتلةٍ تعرّضت لضغط بمقدار معيّن، فإنّ كثافتها وجاذبيتها سيصبحان غير نهائيين، ونتيجة لذلك سيحدث تشوه وانحناء كبير في الزمكان يمنع كل شيء من الإفلات، حتى الضوء.

ولأن الضوء لا يستطيع الإفلات من تلك البقعة، فيستحيل على أحد رؤية ما يجري هناك، لذا أطلق العلماء على هذا النوع من الأجرام السماوية الغامضة “النجوم المظلمة”. كما تنص النسبية على أنّ الزمن نسبي، وبسبب الجاذبية الشديدة فإنّ الزمن سيتوقف عند حافة هذه النجوم المظلمة، فأطلِق عليها اسم آخر وهو “النجوم المتجمّدة”.

 

وبما أن الفيزيائي الأمريكي “جون أرشيبالد ويلر” كان ذا دهاء تسويقي عالٍ يضاهي دهاءه في الفيزياء، فقد شرع في الترويج لتسمية هذه الأجرام السماوية بـ”الثقوب السوداء” ضمن المجتمع العلمي، حتى تحقق اعتماد هذا الاسم الذي بات الأكثر شهرة في الفيزياء اليوم.1

مبدأ الثقوب السوداء.. ضغط مخيف يبلغ أرقاما جنونية

لقد كانت رياضيات معادلات النسبية العامة عصية الفهم حتى على أدهى العقول، ولم يكتمل استيعاب نظرية الثقوب السوداء إلا بعد عدّة عقود، كما أنّ “أينشتاين” نفسه رفض إمكانية حدوث تشوّه بالنسيج الكوني بهذه الصورة، ووصف مثل هذه الفرضيات بأنّها ترهات الرياضيات ولا تحمل معنى فيزيائيا. وليست تلك هي المرّة الأولى التي يرفض فيها شيئا ما في بادئ الأمر ثمّ يتراجع عنه لاحقا، كما حدث مع مسألة توسّع الكون.2

الثقوب السوداء حالات فيزيائية لا تفسير لها، تمنع حتى الضوء من الخروج منها إذا دخل

قياسا على ما تنص عليه معادلات النسبية العامة، فإنّ كلّ شيء قابل لأن يصبح ثقبا أسود ذا جاذبية غير نهائية، ويُستخدم “نصف قُطر شفارتسشيلد” لوصف حد الحجم المطلوب الذي يجب ضغط الجسم إليه لكي يصبح ثقبا أسود.

فعلى سبيل المثال، لكي يتحول نجم ضخم مثل الشمس إلى ثقب أسود، يجب ضغطه إلى كرة يبلغ قطرها حوالي 6 كيلومترات، أما إذا أردنا فعل ذلك بكوكب الأرض، فينبغي أن يُضغط إلى حجم حبّة كرز ذات قطر 1,8 سم فقط.3

إنّ ما توحيه هذه الأرقام يبدو جنونيا وغير معقول، بل قد يكون مادة للتهكم، لكن الاكتشافات التي انهالت في العقود التالية جمعت أدلة دامغة على أنّ الثقوب السوداء حقيقية، ولها أنماط مختلفة.

صورة الثقب الأسود.. عملاق هائل في قلب مجرة درب التبانة

يؤمن بعض العلماء بأنّ هناك كثيرا من الثقوب السوداء المنتشرة في الكون، كما يوجد في مركز كلّ مجرة ثقب أسود فائق الكتلة، وتعد هذه الثقوب السوداء هي “المحرّكات” التي تزوّد الكوازارات بالطاقة. والكوازارات، أو ما يسمى أشباه النجوم هي مجرات نشطة جدا، وهي مناطق غازية ساخنة تحيط مباشرة بالثقب الأسود الفائق، وتعد مصدرا راديويا فلكيا مهما.

موقع الثقب الأسود في مركز مجرتنا بالقرب من النجم “الرامي أ*

وقد شهد العام الماضي الإعلان عن التقاط صورة للثقب الأسود الهائل الذي يتمركز في قلب مجرة درب التبانة، ويُطلق عليه “الرامي أ*” (إيه ستار)، وتبلغ كتلته حوالي 4 ملايين ضعف كتلة الشمس. وفي حقيقة الأمر، فإنّ الصور الملتقطة بواسطة “تلسكوب أفق الحدث” (Event Horizon Telescope) لا تظهر الثقب الأسود نفسه مباشرة، بل تصوّر أثره الذي يظهر على هيئة انحناء الضوء حوله، لأنّ الثقوب السوداء كما أسلفنا لا ينبعث منها الضوء، ولذلك فهي مظلمة تماما.4

وبعيدا عن الجدل الحاصل حول إمكانية تكوين ثقوب سوداء مجهرية مخبريا بواسطة معجلات الجسيمات مثل “مصادم الهدرونات الكبير” (LHC)، فإنّ علماء الفلك يقسّمون الثقوب السوداء إلى 3 أقسام رئيسة وفقا لكتلتها، ويضعون احتمالا لوجود نوع رابع نشأ مع خلق الكون ويُطلق عليه “الثقوب السوداء البدائية”، وهذه الأنواع هي على النحو الآتي:

الثقوب السوداء النجمية.. آخر ما بقي من أطلال النجوم

ربّما تعد الثقوب السوداء النجمية هي الأكثر شيوعا في الكون، وتتكوّن من بقايا النجوم مباشرة كما يتضح من اسمها. ويحدث ذلك حينما ينفد وقود النجم، فيختل التوازن الموجود بين الضغط الخارجي الناتج عن التفاعلات النووية وقوّة الجاذبية، فينهار النجم على نفسه، ثم ينفجر على هيئة مستعر أعظم.

وما يبقى من النجم يعتمد على كتلته قبل الانفجار، فإن كانت كتلته تتراوح بين 8-20 ضعفا لكتلة الشمس، فإنّه يتحوّل إلى نجم نيتروني فائق الكثافة، أما إذا كان النجم أكبر من ذلك، فإنّه يتحوّل إلى ثقب أسود نجمي. وأما شمسنا التي انقضى نصف عمرها تقريبا، فبسبب كتلتها الصغيرة نسبيا، فلن ينتج عنها انفجار مستعر أعظم، بل ستتحوّل إلى قزم أبيض.

الثقب الأسود العملاق في مركز مجرة M87

وقد تنشأ الثقوب السوداء النجمية من نجوم ضخمة تتراوح كتلتها من عشرات إلى مئات الأضعاف لكتلة الشمس، وتزداد كتلتها بابتلاع النجوم والثقوب السوداء الأخرى المجاورة في أثناء رحلتها الطويلة عبر الكون.

ويعود فضل اكتشاف أغلب الثقوب السوداء النجمية إلى كونها تقع ضمن أنظمة نجمية ثنائية، وما يتضح في مثل هذه الحالات أنّ النجم الأكبر يتحوّل إلى ثقب أسود، في حين يبقى النجم الأصغر على حاله، وهو ذو عمر أطول بطبيعة الحال، ويتشكّل نظام ثنائي بين الثقب الأسود والنجم، فيدوران حول مركز الجاذبية.

وفي حالات معيّنة، يؤثر الثقب الأسود بقوّة جاذبيته العالية على النجم المجاور له، أو قرينه إن صح التعبير، فيجرّد النجم من الغازات التي على سطحه، فتنجذب هذه الغازات مشكّلة قرصا حول الثقب الأسود، ومع مرور الوقت ترتفع درجة حرارة جزيئات الغاز إلى مستويات عالية، فتنبعث منها أشعة سينية.

وقد وجد الفلكيون حوالي 50 ثقبا أسود نجميا في مجرّة درب التبانة، وهم يرون أنّ ثمّة ما يصل إلى 100 مليون ثقب أسود آخر في مجرتنا وحدها.5

الثقوب السوداء الفائقة.. ضابطة إيقاع المجرّات

يرى جلّ علماء الفلك أن أغلب المجرات الضخمة تحتوي في مركزها على ثقب أسود فائق، يعمل على ضبط إيقاع المجرة ويحافظ على هيكلها. وقد تبلغ كتلة هذه الثقوب السوداء الفائقة مئات الآلاف إلى مليارات المرّات من ضعف كتلة الشمس، في حين يرى بعض العلماء بأنّ الحد الأدنى من الثقوب السوداء الفائقة قد تقدّر كتلتها بعشرات الآلاف من ضعف كتلة الشمس.

مجرّة “هولمبرغ 15-أ تحتوي على ثقب أسود ذي كتلة لا تقلّ عن 40 مليار ضعف كتلة شمسنا

وتبلغ كتلة الثقب الأسود الفائق الذي يتمركز في مجرة درب التبانة، الرامي أ*، حوالي 4 ملايين ضعف كتلة الشمس، وهو صغير نسبيا مقارنة بتلك الثقوب السوداء الموجودة في مجرات أخرى أضخم، كمجرّة “هولمبرغ 15-أ” (Holmberg 15A) التي تحتوي على ثقب أسود ذي كتلة لا تقلّ عن 40 مليار ضعف لكتلة الشمس، وهو فارق شاسع ومهيب.

ولا يدري العلماء على وجه التحديد الآلية التي تتشكّل بها هذه الثقوب السوداء الفائقة، حتى تصل إلى هذه الضخامة المرعبة. وتظهر الملاحظات الفلكية أنّ المجرات البعيدة بها ثقوب سوداء فائقة تشكّلت في المليار سنة الأولى من خلق الكون، وقد يكون تشكلها ناتجا عن انهيار نجوم فائقة الكتلة في العصور الأولى.

وتظهر إحدى التفسيرات على تشكل ونمو الثقوب السوداء الفائقة في ابتلاعها للأجسام الأصغر حجما، مثل النجوم المحيطة بها، أو حتى حدوث اندماج بين ثقبين أسودين فائقين عندما تصطدم مجرتان.6

الثقوب السوداء المتوسطة.. بقايا اصطدامات الثقوب الفائقة

بسبب الفجوة المحيّرة التي تفصل بين الثقوب السوداء النجمية والثقوب السوداء الفائقة، اضطر الفلكيون إلى إدراج صنف جديد، وأطلقوا عليه الثقوب السوداء المتوسطة.

تلسكوب جيمس ويب الفضائي يكشف عن أقدم ثقب أسود، يزيد عمره عن 13 مليار سنة

ويعزى وجود الثقوب السوداء المتوسطة إلى أنّ الاصطدامات التي تحدث بين الثقوب السوداء الفائقة تنتج عنها ثقوب سوداء متوسطة الكتلة، تترواح كتلتها من حوالي 100 إلى مئات الآلاف من كتلة الشمس.

ومع أن تحديد سمات الثقوب السوداء المتوسطة يبدو بسيطا، تبقى عملية العثور عليها صعبة وغير مؤكدة. وخلال السنوات الماضية توصل العلماء إلى 10 منها فقط من ضمن 305 اختيارات مرشحة لتكون ثقبا أسود متوسطا، وذلك باستخدام تقنية مسح “سلون الرقمي” للسماء.7

الثقوب السوداء البدائية.. مواليد اللحظات الأولى من خلق الكون

وأخيرا يفترض العلماء بأنّ ثمة نوعا آخر ثانويا، وهي ثقوب سوداء بدائية تشكّلت في اللحظات الأولى من بعد خلق الكون، حين كان الكون يتسم بدرجات حرارة وكثافة عاليتين جدا. وربّما كانت الكثافة العالية آنذاك محفزة لتكوين ثقوب سوداء.

ويتفاوت كتل الثقوب السوداء البدائية تفاوتا بيّنا، وتمتد على نطاق واسع، فتكون مجهرية أقل بـ100 ألف مرّة من مشبك الورق، أو كبيرة بأكثر من 100 ألف مرّة من كتلة الشمس، وهذا التفاوت الكبير دليل على الظروف المختلفة التي كانت موجودة خلال تطور الكون المبكر. ومع توسع الكون بسرعة وخضوعه لعملية تبريد شاملة، تبددت هذه الظروف لتكوين الثقوب السوداء البدائية.

واليوم بعد مرور 13.8 مليار سنة، لم يجد العلماء دليلا قاطعا بعدُ، يثبت ادعاءهم وجود هذا النوع من الثقوب السوداء. ومع ذلك، فربّما تعرضت هذه الثقوب السوداء البدائية للتبخر، لا سيما أن الحجم الصغير منها يكون عرضة لخسارة كتلته على نحو أسرع من تلك الثقوب السوداء الكبيرة، وربّما يكون هذا دليلا على أنها تبددت كلها، ولم يعد لها أثر في الوجود.

 

المصادر:

[1] جرين، براين (2011). الحقيقة المخفية. ألفريد أ. كنوبف. نيويورك. ص278

[2] محررو الموقع (2014). تحول أينشتاين من الإيمان بالكون الساكن إلى الكون المتوسع. الاسترداد من: https://www.sciencedaily.com/releases/2014/02/140217102545.htm

[3] جرين، براين (2011). الحقيقة المخفية. ألفريد أ. كنوبف. نيويورك. ص279

[4] محررو الموقع (2022). علماء الفلك يكشفون عن الصورة الأولى للثقب الأسود في قلب مجرتنا. الاسترداد من: https://eventhorizontelescope.org/blog/astronomers-reveal-first-image-black-hole-heart-our-galaxy

[5] إميكا-أوكافور، فانيسا (2021). ما هي الثقوب السوداء ذات الكتلة النجمية؟. الاسترداد من: https://www.astronomy.com/science/what-are-stellar-mass-black-holes/

[6] تشوي، تشارلز (2023). تشكل هذا الثقب الأسود الفائق عندما كان الكون في بداية عمره. الاسترداد من: https://www.nationalgeographic.com/premium/article/supermassive-black-hole-was-formed-when-the-universe-was-a-toddler

[7] تشيلينجاري، ايجور، وآخرون (2018). ورقة بحثية: مجموعة من الثقوب السوداء متوسطة الكتلة تم تحديدها على أنها نوى مجرية نشطة منخفضة السطوع. الاسترداد من: https://iopscience.iop.org/article/10.3847/1538-4357/aad184/pdf

[8] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). أنواع الثقوب السوداء. الاسترداد من: https://science.nasa.gov/universe/black-holes/types/

شاركها.
Exit mobile version