مع دخول الحرب على غزة عامها الثاني، تزداد الأمور وضوحًا حول العقلية الاستعمارية التي يحركها بنيامين نتنياهو، ليس فقط من خلال تصريحاته الصاخبة، بل من خلال أفعاله على أرض الواقع. ومن بين تلك الأفعال وأهمها ما عرضه في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث قدّم خريطة جديدة للشرق الأوسط تكشف عن نيته إعادة تشكيل المنطقة بما يتماشى مع مصالح كيانه.
هذه الخريطة لم تكن مجرد رسم جغرافي، بل أظهرت رؤية نتنياهو لما وصفه بـ “محور النعمة”، الذي يضم الدول المطبّعة، في مقابل “محور النقمة”، الذي يشمل دول المقاومة.
بتنا نعرف كثيرًا عن عقل بنيامين نتنياهو وأفكاره خلال العام الأخير، ليس فقط من خلال تصريحاته وأقواله التي يرددها منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ولكن من خلال أفعاله الرهيبة التي ارتكبها وما يزال يهدد بارتكاب المزيد منها كلما أتيحت له الفرصة لذلك.
بتنا في العام الماضي نعرف أكثر عن الفكر الاستعماري التوسعي، فهو متطرف يستند إلى تقييمات جديدة لمعاني النعمة والنقمة والخير والشر والتنوير والظلامية ولا يُبالي بمصالح أو حقوق الآخرين، بل يربط كل ذلك بمصالحه ومصالح كيانه الذي يعتزم تشكيل المنطقة من جديد بما يناسبه.
فالخريطة التي حملها ليشرح بها أفكاره تُقسم الشرق الأوسط إلى قسمَين كبيرَين؛ الأخضر منهما هو ما يُسمى محور النعمة، ويشمل الكيان الصهيوني ومجموعة من الدول الإقليمية مما تسمى بمحور الاعتدال، وقد ظهر على الخريطة بلون داكن يغطي كل مساحة فلسطين التاريخية ولا يظهر فيه أي إشارة للضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر ولا شرقي القدس.
وهي المناطق التي يُفترض أن يقيم الشعب الفلسطيني عليها دولته العتيدة وفق اتفاقات أوسلو الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية في عام 1993 والتي أسس الرئيس الفلسطيني الأسبق ياسر عرفات بموجبها السلطة الفلسطينية، بدايةً من غزة وأريحا، ثم توسّعت لتغطي المدن الرئيسية في الضفة الغربية والتي أصبحت مدينة رام الله مقرًا مؤقتًا لها؛ أملًا أن تكون القدس هي المقر الدائم وعاصمة دولة فلسطين الموعودة.
ليس ذلك فحسب، بل أطلق نتنياهو على خريطته الشرق الأوسط الجديد، والذي لا يظهر فيه إلا الجزء الملوّن بالأخضر، ويختفي منه الجزء الملون بالأسود الذي يرمز لما أسماه باللعنة أو النقمة، ويشمل كلًا من إيران، والعراق، وسوريا، ولبنان وهي مجموعة الدول التي يوجد فيها محور المقاومة أو الممانعة، والتي تقف مساندة لغزة، وطوفان الأقصى، وجنوب لبنان، وتقاوم بقوة السلاح والموقف، العدوانَ الإسرائيلي، ومحاولته القضاء على حماس وسيطرتها على غزة، وكذلك إنهاء السلطة الفلسطينية والتخلص من اتفاقية أوسلو، وإنهاء سيطرة حزب الله على الجنوب اللبناني، وتهديده المحتمل (لإسرائيل) الكاملة.
وفي محاولة إقناع الحاضرين في قاعة الأمم المتحدة، الذين غادر معظمهم قبل أن يبدأ خطابه، رسم نتنياهو سهمًا أحمر يبدأ من منطقة خضراء أخرى في الشرق الأقصى، وهي الهند التي ترتبط هي الأخرى بعلاقات جيدة مع الكيان الإسرائيلي، ويمرّ عبر الإمارات والسعودية والأردن ثم (إسرائيل) نحو أوروبا. وهي إشارة إلى خط تجاري بحري وبري مُفترض سيربط الشرق الأقصى بأوروبا، ومنه ستستفيد بلدان النعمة التي أشار إليها.
لكنه لم يفسر كيف ستستفيد مصر والسودان من هذه النعمة، حيث لا يمر الخط من خلالهما، بل إنه يحرم مصر على الأقل من أفضل دخل أجنبي لها والمتمثل في عائدات قناة السويس التي كانت حتى وقت قريب أفضل خطوط النقل البحري، وتمرّ عبره السفن التجارية القادمة من الشرق الأقصى نحو أوروبا دون توقف، لكنه تضرر كثيرًا؛ بسبب هجمات أنصار الله الحوثيين من اليمن على السفن التي تتعامل مع الاحتلال، أو الشركات التي ترسل سفنها لموانئ الاحتلال.
وقد تضررت بفعل هذه الهجمات حركة التجارة العالمية وتعطل العمل بميناء إيلات الإسرائيلي، وكذلك تضررت قناة السويس وبعض الموانئ الإسرائيلية، مثل: حيفا، وأسدود.
على الأرجح هو يفترض أن هناك دولًا مأزومة اقتصاديًا – ومنها مصر مثلًا – ستستفيد من بقايا ما سيقدمه لها هو من مساعدات من أجل البقاء على قيد الحياة، وتكون سوقًا استهلاكية واسعة تحصل على أرزاقها من دولة قوية ومتطورة في التكنولوجيا الزراعية والصناعية والطاقة، وأن عليها أن تسمح لإسرائيل بالسيطرة على مواردها وتنميتها وتقديم ما تحتاجه للبقاء على قيد الحياة، بينما ينتفع الكيان بما سيفيض عن ذلك ويضخه نحو أوروبا عبر خط النعمة الجديد الذي يسعى لتفعيله بعدما يقضي على مجموعة اللعنة والنقمة ليخلو الشرق الأوسط من أي منافسين له ولكيانه ويصبح (الشرق الأوسط الإسرائيلي) الجديد.
أما السودان، الذي كان أخضر بطبيعته وموارده الزراعية قبل أن تمتد إليه أيدي المؤامرات الإسرائيلية، والتي خلقت الفوضى والصراعات الأهلية الطاحنة، وأتت على الأخضر واليابس، وزرعت بدلًا من محاصيله الخضراء أحوالًا بائسة من الفقر والعوز والجوع والنزوح والتدمير، فضلًا عن الموت والدماء الحمراء التي لم تتوقف منذ سنوات؛ بفعل الدسائس والمؤامرات الخارجية، والتي تتجه أصابع الاتهام فيها نحو الكيان الإسرائيلي وبعض دول (النعمة) بالمسؤولية عنها.
فمن غير الواضح ما هي النعمة التي سيحصل عليها السودان حال انضمامه إلى الخريطة الخضراء، وكيف سينهض من جديد! إلا إذا كان هو الآخر مصدرًا للموارد الطبيعية يقدمها بثمن زهيد للاحتلال ليطبق عليها ما يُطبق على موارد غيره ممن تربطه بالكيان علاقات تجارية أو تطبيعية أو جغرافية، ويُعيد ما يشاء لاستهلاك السودان، ويرسل الباقي نحو أوروبا التي ستستفيد هي الأخرى من هذه النعم الإسرائيلية.
الأهم من كل ذلك أن المنطقة السوداء كلها أمامها خياران في فكر نتنياهو، إما أن تُحيّد نفسها بنفسها وتتخلص من قوى المقاومة فيها، أو أنه سيقوم بتغييرها وتحييدها بنفسه. وقد عبّر عن ذلك في سياق تهديده لإيران بأنه ليس هناك مكان لا نستطيع الوصول إليه وضربه في إيران.
وتنفيذًا لهذا المخطط العظيم، فقد اتجه بعد خطابه مباشرة إلى غرفة من غرف الأمم المتحدة ليُعطي تعليمات بإسقاط ثمانين قنبلة ثقيلة على حارة حريك في ضاحية بيروت الجنوبية، حيث كان الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله يعقد اجتماعًا ربما كان على أجندته البحث في عرض أميركي فرنسي، وبيان دعمته 21 دولة لوقف إطلاق النار على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، وهي الجبهة التي بقيت مشتعلة منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول مساندةً لقطاع غزة الذي يتعرض لحرب الإبادة الإسرائيلية منذ ذلك التاريخ.
ولا يبدو أن نتنياهو كان منتظرًا لرد نصر الله على مقترح الهدنة ولا مباليًا برد الفعل المتوقع من حزب الله أو محور المقاومة على اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، فبالنسبة له تطغى فكرة الأخضر والأسود على خريطة تفكيره، ولا مانع لديه من تدمير الأسود كله كما فعل في غزة وتسويته بالأرض ما دامت القدرة العسكرية تتوفر لفعل ذلك، وما دام لا يجد شيئًا يردعه عن ذلك.
لا نحتاج لكثير من الخيال لنتوقع أي لون جديد سيكْسو الشرق الأوسط في الصراع المحتمل بين الاحتلال وداعميه وبين معسكر اللعنة والنقمة، وهو ما يُحذر منه المسؤولون في إدارة بايدن ويخافون حدوثه؛ لأن انعكاسه على مصالح الولايات المتحدة قد يكون مدمرًا، فضلًا عن تأثيراته المحتملة على الانتخابات الداخلية الأميركية التي سيستفيد منها أحد المتنافسين فيها وهو الرئيس السابق الجمهوري ترامب أكثر من منافسته الديمقراطية هاريس.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.