لا يوجد سوى سبيل واحد لوقف الإبادة الجماعية التي تستمر بلا هوادة في غزة، وليس ذلك عبر مفاوضات ثنائية عقيمة. فقد أثبتت إسرائيل بما لا يدع مجالًا للشك – وضمن ذلك اغتيال كبير المفاوضين من حركة حماس، إسماعيل هنية – أنها لا تبالي بتحقيق وقف دائم لإطلاق النار. السبيل الوحيد لإيقاف حملة إسرائيل الإبادية ضد الفلسطينيين، هو أن توقف الولايات المتحدة إمدادها بالأسلحة. والطريق إلى ذلك يمرّ عبر إرادة شعبية صارمة، إذ يجب أن يعلن الأميركيون بوضوح أنهم لن يدعموا أي مرشح رئاسي أو حزب سياسي يسهم في هذه الجريمة.

الحجج التي تُساق ضد مقاطعة الحزبين الرئيسيين معروفة، وتتلخص في أنها ستؤدي إلى فوز دونالد ترامب، وأن كامالا هاريس، على ما يبدو، أبدت تعاطفًا أكبر من جو بايدن، وأننا، على قلّتنا، لن نحدث تأثيرًا ملموسًا، وأنه يمكننا العمل داخل الحزب الديمقراطي، وأن اللوبي الإسرائيلي – ولا سيما لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (AIPAC) – يهيمن على غالبية أعضاء الكونغرس، وأن المفاوضات، في نهاية المطاف، ستؤدي إلى وقف المذبحة.

باختصار، نحن عاجزون، وعلينا أن نتخلّى عن أملنا في إيقاف هذا المشروع الوحشي. يجب علينا أن نقبل كأمر واقع، إرسال مئات الملايين من الدولارات كمساعدات عسكريّة لدولة تمارس الفصل العنصري، وأن نستخدم الفيتو في مجلس الأمن الدولي لحماية إسرائيل، وأن نعرقل أي جهود دولية لإنهاء القتل الجماعي. ليس لدينا خيار آخر.

الإبادة الجماعية، التي تعتبر جريمة الجرائم وفقًا للقانون الدولي، ليست مجرد مسألة سياسية، هي ليست كاتفاقيات التجارة أو مشاريع البنية التحتية أو المدارس المستقلة أو الهجرة، هي قضية أخلاقية تمسّ جوهر الإنسانية، إذ تعني القضاء على شعب بأسره. أي خضوع لهذا الفعل الشنيع يديننا كأمة وكنوع بشري. إنه يقرب المجتمع العالمي خطوة نحو البربرية، يمزّق سيادة القانون، ويهزأ بكل قيمة نؤكد احترامها.

الإبادة الجماعية تقع في فئة خاصة بها، وعدم مقاومتها بكل ما نملك هو مشاركة في “الشر الجذري”، ذلك الشر الذي يجعل الإنسان زائدًا عن الحاجة، كما وصفته حنة أرندت.

الدروس الأساسية من الهولوكوست التي يقدمها كُتّاب مثل بريمو ليفي هي أننا جميعًا قد نصبح جلادين طوعيين. الأمر لا يتطلب سوى القليل لنصبح متواطئين، حتى لو كان ذلك من خلال اللامبالاة أو التردد، في الشر.

“الوحوش موجودة”، كما كتب ليفي، الناجي من أوشفيتز، “لكنهم قليلون جدًا ليكونوا خطرين حقًا. الأكثر خطورة هم الرجال العاديون، الذين يكونون مستعدين للإيمان والعمل دون طرح أسئلة”.

مواجهة الشر، حتى عندما لا تكون هناك فرصة للنجاح، تحافظ على إنسانيتنا وكرامتنا. إنها تتيح لنا، كما كتب فاتسلاف هافل في “قوة العاجزين”، أن نعيش في تلك الحقيقة التي لا يرغب الأقوياء أن تقال ويسعون لقمعها. إنها توفر ضوءًا يهتدي به القادمون من بعدنا. تخبر الضحايا أنهم ليسوا وحدهم. إنها “ثورة الإنسانية ضد الظلم المفروض” و”محاولة لاستعادة الشعور بالمسؤولية”.

ماذا يقول عنا هافل إذا قبلنا عالمًا نسلح فيه ونموّل أمة تقتل وتجرح المئات من الأبرياء يوميًا؟

ماذا يقول عنا إذا دعمنا مجاعة مدبرة وتسميمًا لمصادر المياه، حيث اكتُشف فيروس شلل الأطفال، مما يعني أن عشرات الآلاف سيصابون بالمرض وسيموت العديد منهم؟

ماذا يقول عنا إذا سمحنا على مدى عشرة أشهر بقصف مخيمات اللاجئين والمستشفيات والقرى والمدن، بهدف القضاء على العائلات ودفع الناجين إلى التشرد في العراء أو الاحتماء بخيام بدائية؟

ماذا يقول عنا عندما نرضى بمقتل 16,456 طفلًا، مع العلم بأن هذا الرقم بالتأكيد أقل من الواقع؟

ماذا يقول عنا عندما نشاهد إسرائيل تصعد من هجماتها على منشآت الأمم المتحدة، والمدارس- بما في ذلك مدرسة تابعة لها في مدينة غزة، حيث قُتل أكثر من 100 فلسطيني أثناء أداء صلاة الفجر- وغيرها من الملاجئ الطارئة؟

ماذا يقول عنا عندما نسمح لإسرائيل باستخدام الفلسطينيين كدروع بشرية عبر إجبار المدنيين الموثقين، بمن فيهم الأطفال وكبار السن، على دخول الأنفاق والمباني التي قد تكون مفخخة، قبل القوات الإسرائيلية، وأحيانًا بارتداء زي الجيش الإسرائيلي؟

ماذا يقول عنا عندما ندعم السياسيين والجنود الذين يبررون اغتصاب وتعذيب الأسرى؟

هل هؤلاء هم الحلفاء الذين نريد تمكينهم؟ هل هذا هو السلوك الذي نرغب في تبنيه؟ ما هي الرسالة التي نوجهها إلى بقية العالم؟

إذا لم نتمسك بالضرورات الأخلاقية، فنحن محكومون بالفشل. الشر سينتصر. يعني ذلك أنه لا يوجد حق أو باطل. يعني أن أي شيء، بما في ذلك القتل الجماعي، مسموح به. المتظاهرون خارج المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي في مركز يونايتد في شيكاغو يطالبون بإنهاء الإبادة الجماعية والمساعدات الأميركية لإسرائيل، لكن في داخل أروقة المؤتمر نواجه امتثالًا مزعجًا. الأمل يكمن في الشوارع.

الموقف الأخلاقي دائمًا ما يأتي بتكلفة. إذا لم يكن هناك تكلفة، فهو ليس موقفًا أخلاقيًا. إنه مجرد رأي شائع.

“ولكن ماذا عن ثمن السلام؟” هكذا يسأل الكاهن الكاثوليكي الراديكالي دانيال بريجان، الذي سُجن لحرق سجلات التجنيد خلال حرب فيتنام، في كتابه “لا حواجز أمام الرجولة” ثم يمضي قائلًا:

“أفكر في الأشخاص الجيدين والمحترمين والمحبين للسلام الذين عرفتهم بالآلاف، وأتساءل: كم منهم يعانون من مرض النمطية درجة أنهم حتى وهم يعلنون عن السلام، تمتد أيديهم بتشنج غريزي نحو ممتلكاتهم، منازلهم، أمنهم، دخلهم، مستقبلهم، خططهم؛ تلك الخطة الخمسية للدراسات، تلك الخطة العشرية للمكانة المهنية، تلك الخطة العشرينية لنمو الأسرة ووحدتها، تلك الخطة الخمسينية لحياة كريمة ووفاة طبيعية مشرفة!”.

“بالطبع، نصرخ: (دعونا نحصل على السلام)، لكن في نفس الوقت دعونا لا نفقد شيئًا، دعونا نحافظ على حياتنا سليمة، دعونا لا نعرف لا السجن ولا السمعة السيئة ولا قطع الروابط”. ولأننا يجب أن نشمل هذا ونحمي ذلك، ولأننا بأي ثمن يجب أن تسير آمالنا حسب جدولها المقرر، ولأن من غير المعتاد أن يسقط السيف باسم السلام، فيفكك الشبكة الجميلة والدقيقة التي نسجتها حياتنا، ولأن من غير المعتاد أن يعاني الرجال الصالحون من الظلم أو تنفصل الأسر أو تفقد السمعة الطيبة، بسبب كل هذا فإننا نصرخ للسلام، ثم نصرخ للسلام، ولا يوجد سلام!”.

“لا يوجد سلام لأنه لا يوجد صانعو سلام. لا يوجد صانعو سلام لأن صنع السلام مكلف على الأقل مثل صنع الحرب. هو على الأقل مستعجل، على الأقل مسبب للفوضى، على الأقل عرضة لجلب العار والسجن والموت في أعقابه”.

السؤال ليس ما إذا كانت المقاومة خيارًا عمليًا. السؤال هو ما إذا كانت المقاومة صحيحة؟

نحن مأمورون أن نحب جارنا، وليس قبيلتنا. يجب أن نؤمن بأن الخير يجذب إليه الخير، حتى لو كانت الأدلة الملموسة من حولنا قاتمة. الخير دائمًا يتجسد في الفعل. يجب رؤيته. لا يهم إذا كان المجتمع الأوسع قاسيًا. نحن مدعوون للتحدي من خلال أعمال العصيان المدني، وعدم الامتثال لقوانين الدولة، عندما تتعارض هذه القوانين، كما يحدث غالبًا، مع القانون الأخلاقي.

يجب علينا أن نقف، مهما كانت التكلفة، مع المظلومين والمقهورين على هذه الأرض. إذا فشلنا في اتخاذ هذا الموقف، سواء ضد إساءة استخدام الشرطة العسكرية، أو اللاإنسانية في نظام السجون الواسع لدينا، أو الإبادة الجماعية في غزة، فنحن نصبح بذلك متواطئين في جريمة أخلاقية عظيمة، نصبح شركاء في هذا الشر الذي يهدد بنزع الإنسانية عن عالمنا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version