عندما يصرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأنه يريد شراء غرينلاند، ويقول إنه سيستولي على قناة بنما، ويبني جدارًا على حدود المكسيك، ويرفع الرسوم الجمركية، ويتمنى أن تصبح كندا ولاية أميركية، وأخيرًا يعلن أنه سيستولي على غزة، ويبني مساكن يبيعها للعالم، كتاجر عقارات، يدرك السامع أو القارئ مباشرةً أننا أمام أزمة سياسية خطيرة، وتقلبات اقتصادية، وإمكانية نشوب حرب.

لكن يجب أن نحلل تصريحاته بعناية، فقد يكون الوضع مختلفًا.

أسلوب مواقع التواصل وليس خطاب رجل دولة

في العلاقات الدبلوماسية بين الدول، هناك مستوى معيّن من الاحترام واللياقة. بغض النظر عن حدّة الخلافات، لا يتخلى القادة عن اللغة الدبلوماسية ولا يتجاوزون حدود اللياقة. حتى في أوقات الحرب، يستخدم الرؤساء والوزراء لغة رسمية.

لكن ترامب دمّر هذه اللغة الدبلوماسية، يتحدث وكأنه وحده في العالم، دون التفكير في عواقب كلماته.

أسلوبه بسيط، ساخر، واستفزازي، يشبه أسلوب وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا يعود إلى أهمية وسائل التواصل الاجتماعي بالنسبة له.

بهذا الأسلوب، يصيب الطرف المستهدَف من أفراد أو دول بالذهول، مما يسهل عليه تحقيق ما يريد. البعض ينتقد ترامب واصفًا إيه بـ “االمتعجرف وغير المتوازن”. لكنني لا أتفق بتاتًا مع هذا الرأي.

الجنون كإستراتيجية للربح

قبل الانتخابات الأميركية، نشر 200 خبير صحة نفسية تقارير في الصحف تتعلق بتحليل شخصية ونفسية ترامب المثيرة للجدل. قد يكون ترامب أي نوع من الشخصيات، لكن من غير الصائب التشكيك في ذكائه ومكره وتركيزه على المصالح. هل يعقل أن شخصًا من أكبر أثرياء العالم حقق كل هذه النجاحات التجارية وهو “على هذه الحال”؟

ترامب تاجر يركز على الربح، وكل تحركاته تهدف إلى حماية مصالحه. كل تصريحاته وتصرفاته التي تبدو ضربًا من الجنون هي في الحقيقة جزء من خطة مدروسة.

عندما هدد بالاستيلاء على قناة بنما، كان يعلم أن ذلك غير ممكن، لكنه كان يعرف أن اتفاقية المرور بين الصين وبنما كانت على وشك التجديد. بسبب تهديده بضم القناة، لم تمنح بنما الصين امتيازات إضافية.

تصرفاته التي تبدو غير متوازنة هي في الحقيقة خطوات تكتيكية. يضحك الناس من تصريحاته، لكنهم يأخذونها على محمل الجد؛ لأن المتحدث ليس تاجر عقارات، بل رئيس الولايات المتحدة.

عندما تتغير مصالح ترامب، يمكنه بسهولة التراجع عن تصريحاته، أو أن يقول العكس. إذا مدح اليوم شخصًا ما، ثم انتقده في الغد، فهذا ليس بسبب عدم التوازن، بل لأن ذلك الشخص لم يعد يخدم مصالحه.

أعتقد أن أكثر تصريحاته إثارة للصدمة كان حديثه عن غزة. قال إنه سيرسل جميع الفلسطينيين من غزة إلى الأردن ومصر، ثم سيبني فنادق فاخرة ومساكن يبيعها للناس من مختلف أنحاء العالم. حتى إنّ الفلسطينيين يمكنهم شراؤها!

هذه الأفكار “المجنونة” أثارت استغراب الناس وضحكهم، لكنني فوجئت عندما رأيت على التلفزيون تحليلًا يعرض تصاميم الشقق التي يريد ترامب بناءَها في غزة، وعندها استوعبت الأمر.

ما يريده ترامب تحديدًا هو أن يتحدث الناس عن “ترامب تاجر العقارات”، وليس عن ترامب رئيس أميركا التي دمّرت غزة وشاركت في قتل نحو 50 ألف إنسان بالتعاون مع إسرائيل. لسان حاله يقول “ناقشوا هذه الفكرة المجنونة، لكن لا تناقشوا الوحشية الأميركية- الإسرائيلية، واحتفظوا بفكرة ترحيل الفلسطينيين في أذهانكم، واعتادوا على الحديث عنها”.
كتبت الصحفية منى حوا على منصة إكس، واصفة الوضع بأنه “السيطرة عن طريق الفوضى”.

تصريحات ترامب عن غزة يمكن تفسيرها بطريقة أخرى. في تركيا، نقول “أخافه بالموت ليرضى بالحمى”. أي إذا كنت لا توافق على ترحيل جميع الفلسطينيين، فقد تقبل بتسليم جزء من غزة أو الضفة الغربية لإسرائيل.
ترامب ونتنياهو يعرفان أن خطة إخلاء غزة لن تُقبل، لكنهما أعدا بالفعل اقتراحًا آخر يخدم مصالحهما، وسنسمع عنه قريبًا.

لا تنخدعوا بسحر الجنون

في مدنكم، هناك بالتأكيد أشخاص يطرحون أفكارًا غريبة. يلفت الناس الانتباه إلى تصرفاتهم لأنها غير عادية، فالاستثنائية سلوك جذاب.
لكن ماذا لو كان أحدهم “يتظاهر بالغرابة” لتحقيق مصلحته أو لجذبكم إلى حيث يريد؟ ترامب يريد أن تنخدعوا ليقودكم إلى حيث يشاء.

يريد منكم أن تناقشوا بناء الأبراج في غزة، أو ما الذي سيحدث إذا أصبحت كندا ولاية أميركية، أو كيف سيتغير العالم إذا أصبحت غرينلاند تابعة للولايات المتحدة. كلما ناقشتم هذه الأفكار، أصبح قبولها أسهل.
سنرى قريبًا كيف يبدأ المعلقون والصحفيون والسياسيون المدعومون من إسرائيل وأميركا بالقول “غزة ستصبح مثل مدينة كان الفرنسية، هذه ليست فكرة سيئة”.

لا تنخدعوا بسحر غرابة خطابات ترامب. يجب ألا نناقش هذه الأفكار أصلاً أو نجعلها جزءًا من أجندتنا.
لا تتخلوا عن قناعاتكم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version