لا يزال التونسيون، شعبيًا وسياسيًا، منقسمين في الموقف من الانتخابات الرئاسية، المزمع إجراؤها في السادس من أكتوبر/تشرين الأول القادم، بين المشاركة والمقاطعة.

لا يبدو هذا السؤال خاصًا بالحالة التونسية، رغم خصوصياتها الراهنة، بقدر ما يتأطّر ضمن سؤال عام قديم يتجدد طرحه عند كل انتخابات في منظومة حكم استبدادي، وهو: هل يمكن إسقاط الانقلابات وأنظمة الحكم الاستبدادية عبر الانتخابات؟

تفيد التجارب في أكثر من بلد، وفي أزمنة وسياقات مختلفة، أن أغلب البلدان التي تغيّر فيها الحكم عبر الانقلاب، قد استحكمت فيها سلطة الانقلاب، وفرضت نظامًا استبداديًا مغلقًا لا يمكن تغييره إلا بالانقلاب عليه.

غالبًا ما تتجه الأنظمة السياسية الوافدة عبر الانقلاب إلى تركيز نظام سياسي استبدادي، لا مجال فيه حتى لهامش ولو بسيطًا من الحريات والديمقراطية. وفي الحالات النادرة التي قبلت فيها الأنظمة الاستبدادية الانقلابية تحت إكراهات الواقع تنظيم انتخابات تشريعية أو رئاسية، فإنها لا تمضي فيها إلا إذا كانت متأكدة أن هذه الانتخابات ستكون تحت السيطرة، وأنها ستكون الرابحة من حيث النتائج والمستفيدة منها من حيث إضفاء مسحة من الديمقراطية “المسقّفة” أو “المضبوطة” تزيد في تثبيت حكمها.

كان ذلك نهج أغلب الأنظمة الانقلابية في أفريقيا وأميركا الجنوبية، وفي بعض البلدان العربية، ومنها قيس سعيد في تونس.

رغم تواتر هذا المشهد في أغلب الحالات الانقلابية، لا يخلو الواقع من استثناءات تاريخية نجحت فيها الانتخابات في إنهاء حكم جاء عبر انقلاب عسكري، وتحقيق التغيير السلمي للسلطة، وقيام حكم مدني. حصل هذا في نيجيريا حيث أنهت انتخابات 1999 سنوات من الحكم العسكري والانقلابات.

وحصل نفس الشيء في تشيلي سنة 1988، حيث أنهت الانتخابات حكم الجنرال أوغستو بينوشيه الذي انقلب عام 1973 ضد الرئيس المنتخب ديمقراطيًا سلفادور ألليندي. أما في بيرو، فقد اضطر ألبرتو فوجيموري بعد أن حكم البلاد بشكل استبدادي بعد انقلاب ذاتي في 1992، للاستقالة نتيجة ضغوط محلية ودولية بعد اتهامات بالتزوير في انتخابات 2000، لتتم الدعوة لانتخابات جديدة في 2001 فاز فيها أليخاندرو توليدو رئيسًا للبلاد. وحصل نفس الشيء تقريبًا في بوليفيا سنة 1982، وفي الفلبين سنة 1986، وفي غانا سنة 2000.

تؤكد هذه الحالات أن إسقاط الانقلابات وإنهاء حكم الأنظمة الاستبدادية عبر الانتخابات أمر ممكن الحدوث. تثير هذه الاستثناءات السؤال التالي: ما هي الشروط الضرورية التي تجعل من الانتخابات في ظل نظام انقلابي استبدادي آليةً لتغيير هذا النظام وتركيز نظام مدني؟

نحتاج أولًا إلى التذكير بأن إسقاط الانقلابات عبر الانتخابات ليس أمرًا سهلًا، بل هو أمر معقّد جدًّا يتوقف على توفر العديد من الشروط المحلية والدولية، خاصة إذا كانت الأنظمة الانقلابية تعتمد التسلط والقمع وتقييد الحريات نهجًا في إدارة الحكم.

  • أولًا: معارضة سياسية ومدنية قوية ومنظمة ومؤثرة في الرأي العام، جاهزة للمنافسة في الانتخابات والفوز بها. ويقتضي وجود هذه المعارضة بمثل هذه المواصفات، كلّها أو أغلبها، بناء ديناميكية إيجابية داخل المعارضات تبني المشتركات والتوافقات الكبرى، وترتّب الأولويات لتقدّم ذلك في إطار عرض سياسي يعبّر عن مشروع وطني بديل عن حكم الانقلاب.

كما تحتاج هذه المعارضة إلى بناء الثقة بينها وبين عموم الشعب، وخاصة قواه الحيّة التي تمثّل رافعات للتغيير. ويقتضي نجاح هذا المسار أن تجتمع المعارضات في إطار جبهة سياسية وانتخابية واحدة دون أن يعني ذلك إلغاء الاختلافات بينها.

كما يقتضي نجاح هذا التمشي في بناء معارضة قوية تقديم مرشح واحد، وخاصة في الدور الثاني، تتوفر فيه شروط القبول الشعبي والقدرة على المنافسة الانتخابية، والاتفاق أيضًا على رؤية لترتيب الحكم في صورة الفوز تجعل من تحقيق الوعود الانتخابية وإحداث نقلة إيجابية في حياة المواطنين، هدفها وغايتها.

  • ثانيًا: مزاج شعبي يطلب التغيير ليأسه من الحكم القائم في تحسين ظروف حياته، وخاصة المعيشية. قد تختزن الشعوب غضبها من حكامها لفترات قد تطول أحيانًا، ولكنها عندما يتوفر القادح تغادر مربع الصمت وتنطلق إلى مربع الاحتجاج والغضب “الهادر” للتعبير عن رفضها واقعها، ومطالبتها بالتغيير.

قد يعبّر الشعب الغاضب عن إرادته في التغيير عبر أحد الخطين التاليين: خطّ الاحتجاج المدني المتصاعد الذي قد يتحول إلى انتفاضة ثم إلى ثورة على النظام، أو خطّ المشاركة الواسعة في الانتخابات؛ لهزيمة مرشح النظام.

يعتبر الطلب الشعبي على التغيير، شرطًا مهمًّا وحاسمًا من شروط إسقاط الانقلابات والنظم الاستبدادية. وتتعاظم أهمية الطلب الشعبي للتغيير بقدر ما تنخرط فيه قوى التغيير، مثل: الشباب والعمال والنساء عبر منظماتهم وهيئاتهم، إضافة إلى القوى “المهمّشة” أو غير “المؤطرة” من العاطلين عن العمل، ومن غير المنتسبين لمنظمات المجتمع المدني والسياسي.

  • ثالثًا: توفر الحد المطلوب من الشروط الضامنة لنزاهة الانتخابات وشفافيتها، وهو أمر لا يتوفر إلا بأحد طرق ثلاثة. الأول؛ الضغط السياسي والمدني المتراكم عبر محطات مختلفة تفرض على النظام الانقلابي الاستبدادي الالتزام بتنظيم الانتخابات وفق المعايير الدولية لحرية الانتخابات ونزاهتها وشفافيتها، مثل: القانون الانتخابي، والهيئة المشرفة على الانتخابات، وتراتيب العملية الانتخابية، والرقابة على سيرها وعلى فرز الأصوات. هذا الطريق قد يفتح على فوز المعارضة وتحقيق التغيير السياسي عبر انتقال سلمي للسلطة.

الطريق الثاني؛ هو رغبة النظام الانقلابي في احتواء الضغوط عليه من الداخل والخارج بإجراء الانتخابات أولًا، وبتوفير الحد الأدنى الديمقراطي لإجرائها، دون أن يغامر الانقلاب بأن تنفلت منه المبادرة ويجد نفسه قد وقع في فخّ انتخابات قد تدفع به خارج السلطة مع ما يفتحه ذلك من محاسبة وملاحقة ومتاعب.

الطريق الثالث؛ هو حرص منظومة الانقلاب على ضمان ديمومة قبضتها على الحكم، وإن اقتضى الأمر تغيير رأس السلطة عبر انتخابات “مضبوطة” ومتحكم في نتائجها.

الطريقان الثاني والثالث قد يفتحان على استمرار النظام الانقلابي الاستبدادي في الحكم بمسحة ديمقراطية قابلة للزوال بسرعة اكتسبها من مشاركة المعارضة في الانتخابات تسد المنافذ أمام تغيير سياسي يفتح على حكم مدني ديمقراطي.

إلى جانب الشروط الداخلية الضرورية، يحتاج إسقاط الانقلابات إلى توفر بعض الشروط الخارجية المساعدة ومنها:

  • أولًا: دعم المجتمع الدولي المدني الحقوقي والعامل في مجال مراقبة الانتخابات، بما يحاصر نوازع النظم الانقلابية والاستبدادية من بسط يدها في انتهاك حقوق الإنسان، ويمنع سعيها إلى تزوير نتائج الانتخابات، وقبل ذلك إرغامها على توفير الحد المقبول من ضمانات نزاهة الانتخابات، وسلامة المسار الانتخابي.

فقد عرفت العديد من الحالات التي نجحت “المقاومة الانتخابية” في إسقاط الانقلابات، معاركَ ضارية بين المجتمع المدني المحلي والدولي، وبين الأنظمة الانقلابية انتهت بإذعان هذه الأنظمة بالتراجع عن الكثير من إجراءاتها القمعية والكفّ عن العديد من الخروقات والتجاوزات بما حسّن بالنتيجة من البيئة الانتخابية، وأعطى للشعوب الأمل في التغيير من خلال المشاركة المكثفة في الانتخابات.

  • ثانيًا: جوار إقليمي داعم أو على الأقل قابل بالتغيير وغير معادٍ له، إما لسابق خصومة مع النظام الانقلابي وإمكانية التعاون مع الحاكم الجديد، أو قبولًا بالأمر الواقع والحرص على التعامل معه وعدم معاداته لأسباب داخلية أو إقليمية ودولية. أيًّا كان الدافع، فإن وجود جوار إقليمي داعم أو غير معادٍ هو أمر مهمّ ومساعد على إسقاط الانقلاب عبر الانتخابات، كما أنه عامل من عوامل استقرار الحكم الجديد.

هذه الشروط بشقيها: المحلي والخارجي ليست وصفة جامعة لا يمكن إسقاط الانقلابات إلا بتوفرها كاملة غير منقوصة، فقد يتوفر بعضها في الأول، ثم تأتي بقيتها لاحقًا، وقد تتداخل شروط أخرى مساعدة نتيجة سياقات داخلية وخارجية. هذه الشروط هي دروس مستفادة من أغلب التجارب التي نجحت فيها الانتخابات، حتى وهي تجري تحت أنظمة انقلابية واستبدادية، في إحداث تغيير مدني سلمي نحو نظام ديمقراطي.

ويبقى إسقاط الانقلابات بالانتخابات مسارًا طويلًا تتراكم فيه النضالات والمكاسب من روافد متعددة تساهم في توفير شروط التغيير حتى تصبح واقعًا يلمسه المناضلون والمراقبون في تغير موازين القوة لصالح حركة التغيير. عندما تأتي الانتخابات في مثل هذا السياق، تكون لحظة حاسمة في التغيير بعد أن نجحت المعارضة في إنهاك الانقلاب بتسديد العديد من اللكمات (النقاط) الصائبة.

أخيرًا، لا يمكن حصر الموقف من الانتخابات في الحالة التونسية وشبيهاتها في ثنائية حادة بين المشاركة والمقاطعة، إذ العبرة في الموقف هي مدى قدرته على تحقيق الأهداف المرجوة.

المناسب في مثل الحالة التونسية المحكومة بالغموض والتقلب، أن يكون بناء الموقف بناءً على تقدير سياسي لميزان القوة، وعبر مسار تتحرك فيه قوى التغيير من موقع الفاعل المؤثر وليس الملاحظ الذي يقف على هامش المسار، بشكل يمنح هذه القوى المتابعة الدقيقة لمسار الانتخابات في كل مراحله بكل تعرجاته وتعقيداته، والتأثير فيه بالضغط من أجل تحسين البيئة الانتخابية وتعبئة الشارع الانتخابي المطالب بالتغيير للمشاركة بكثافة يوم الاقتراع، فلا يُسقِط انقلابًا بالضربة القاضية إلا انقلابٌ عليه، أما إسقاط الانقلاب بالانتخابات فلن يكون إلا عبر مسار من النضال السياسي السلمي والمدني، وعبر المشاركة الواسعة يوم الاقتراع.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version