أسفرت انتخابات البرلمان الأوروبي (6-9 يونيو/حزيران الحالي) عن تقدّم الأحزاب اليمينية المتطرفة، وفي فرنسا كان تصدّر التجمع الوطني (اليميني) تلك الانتخابات هزّة كبرى في المشهد السياسي، اتخذ الرئيس الفرنسي، بمقتضاها، قرارًا خطيرًا بحلّ الجمعية الوطنية (البرلمان)، والمناداة بانتخابات عامة سابقة لأوانها في الشهر المقبل.

وأعقب هذا القرار تنظيم مظاهرات للحيلولة دون تصدّر التجمع الوطني، في مشهد يذكر بسابقة الانتخابات الرئاسية لسنة 2002، حين مرّ المرشح اليميني جان ماري لوبان، والد الزعيمة الحالية للتجمع الوطني مارين لوبان، إلى الدور الثاني مع جاك شيراك، مزيحًا المرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان. فتجندت حينها كافة القوى السياسية لقطع الطريق أمام مرشح اليمين المتطرف.

لكن السياق الحالي مختلف؛ لأن الأحزاب اليمينية المتطرفة كانت حينها، حسب عالم السياسة الأميركي من أصل هولندي كاس مود، في حالة مرضية عادية، وتحوّلت إلى اعتياد مَرضي، أي أنها لم تعد نشازًا، وبلغت سدّة الحكم في أرجاء عدة من أوروبا: (النمسا، هنغاريا، جمهورية التشيك، بولندا، سلوفينيا، السويد، إيطاليا)، وتجري على ريح مواتية، أو هي موج يحملها. وتثبت كافة الاستحقاقات الانتخابية تقدمها، منها الانتخابات التشريعية الهولندية في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.

لا يمكن تجاهل سؤال جوهري عن تداعيات تقدم الأحزاب اليمينية المتطرفة، أولًا بداخل مجتمعاتها، إذ هي تقوم على رفض الآخر بالمناداة بما تسمّيه “أوروبا بيضاء ومسيحية”، وثانيًا حول مآل الاتحاد الأوروبي، لأن الاتجاهات اليمينية المتطرفة كانت تقوم على النزوع السيادي، أو ما يُعبّر عنه اتجاه التشكيك في أوروبا من خلال التلويح بالخروج من منطقة الأورو لصالح العملات الوطنية، والانتفاض ضد ما يسمّى “ديكتات بروكسل” (أي إملاء المفوضية الأوروبية).

كان يُعتقد أن الاتجاهات اليمينية المتطرفة سوف تتراجع غداة الحرب الروسية – الأوكرانية؛ لارتباط هذه الأحزاب بروسيا، ولكن ما وقع فنّد هذا التوقع، إذ أسفرت الانتخابات في هنغاريا، وفرنسا، والسويد، وإيطاليا، وهولندا، عن تصدر الأحزاب اليمينية المتطرفة، فضلًا عن تقدم حزب البديل من أجل ألمانيا، وبوكس (الصوت) في إسبانيا.

لا يمكن تجاهل التداعيات الاجتماعية والسياسية بداخل الدول الأوروبية الناجمة عن اختراق الأحزاب اليمينية المتطرفة، فهي تقوم على الحمائية الاجتماعية (ضد الهجرة) والثقافية، بالتركيز على الدين، واللغة، وقراءة معينة للتاريخ، ومن ثم على رفض الآخر. ومن شأن الحمائية الثقافية والاجتماعية أن تؤثر على سكينة تلك المجتمعات، أو ما يسمّى في فرنسا بالعيش المشترك.

الأمر الثاني المثير للجدل والباعث على المخاوف، هو أن الأحزاب اليمينية المتطرفة تشكّك في النزوع الأوروبي، وتجعل الاتحاد الأوروبي، أهمّ هندسة أوروبية غداة الحرب العالمية الثانية، موضعَ سؤال. نعم، تغيّر خطاب الاتجاهات اليمينية المتطرّفة حيال الاتحاد الأوروبي، فلم تعد تقول بالخروج (المغادرة)، ولكن بإصلاح الاتحاد من الداخل، كما يدفع بذلك فيكتور أوربان عن هنغاريا، وجورجيا ميلوني عن إيطاليا. وفي جميع الحالات، سوف يؤثر تصدّرها المشهدَ السياسي على هندسة الاتحاد الأوروبي.

إلى جانب ذلك، يمكن أن يكون لاختراق الأحزاب اليمينية المتطرفة تداعيات خارج أوروبا، إذ تدعم الأنظمة السلطوية في الضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط، أو تلك التي تنفذ سياساتها في التصدي للهجرة. يمكن هنا أن نستشهد بعلاقات إيطاليا مع تونس، ودعمها لها مادامت أنها تتصدّى للهجرة غير الشرعية. وفي جانب آخر، تدعم الاتجاهاتُ اليمينية المتطرفة إسرائيلَ، وترتبط بعلاقات وثيقة مع حزب الليكود الحاكم.

نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة ليست – إذن – شأنًا أوروبيًا صرفًا، والحال أننا أمام موجة عميقة، كما يقول علماء السياسة. مرد هذه الموجة ما يسمى بالاختلال Disruption، والذي يعود إلى الأزمة المالية لسنة 2008، وأزمة الهجرة سنة 2015، وتداعياتهما على المستوى الاجتماعي من خلال تنامي خطاب الكراهية، والكزينوفوبيا، وصورتها الفارقة الإسلاموفوبيا.

بيدَ أن اختراق الأحزاب اليمينية المتطرفة ليس أمرًا فجائيًا، إذ يعود إلى ما يسميه البعض بالهيمنة الثقافية، أو توظيف وصفة غرامشي ولكن في اتجاه يميني. أي أنه لا يكفي وضع اليد على المؤسسات، ولكن ينبغي التأثير في الوجدان، أو ما يسميه المنظر الفرنسي ألان دو بونوا بالهيمنة الثقافية، أو الغرامشية اليمينية.

ولذلك اعتمدت الأحزاب اليمينية إستراتيجية التأثير في الثقافة عمومًا، والسياسة خصوصًا، عبر أدوات منها التلفزة، والصحف، بل ودور النشر، واختراق مجرة الجامعة، فضلًا عن الوسائل الجديدة التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي، والثورة الرقْمية، أو ما يسميه عالم الاجتماع الإيطالي، جوليانو دامبولي، بمهندسي الخراب، أي القوة التقنية التي تقبع في الخلف وتؤثر في الرأي العام، أو تستقطب توجهه.

ما بعد الشعبوية

عرفت الاتجاهات الشعبوية تطورًا ينعته بعض علماء السياسة بما بعد الشعبوية، أو الزمن الثاني للشعبوية، ويحيلون إلى فترة تولّي جورجيا ميلوني عن حزب إخوة إيطاليا (25 سبتمبر/أيلول 2022) مقاليد الحكومة، إذ تؤثر على كل الأحزاب اليمينية الأوروبية المتطرفة، لأسباب تدخل ضمن ما يسمى بالثقافة السياسية الأوروبية، على اعتبار أن إيطاليا كانت دومًا مختبرَ أوروبا السياسيَّ، حيث تبرز الاتجاهات العميقة وأدواتها.

تقوم وصفة ميلوني، كما تُنعت، على تشكيل تحالف يضمن جبهة يمينية، أي تآلف اليمين المتطرف مع اليمين، والحال أن اليمين كان دومًا متوجسًا من اليمين المتطرف. كما أن شعبوية التحالف (لا ليكا) اليمينية لم ترَ ضيرًا في التحالف مع “خمسة نجوم اليسارية”، وهو الأسلوب الذي ترفضه ميلوني. تقوم الوصفة ثانيًا على الدعوة إلى أممية شعبوية، وهو ما بادرت به ميلوني فور انتخابها، بتاريخ 10 أكتوبر/تشرين الأول 2022، في مدريد، بإنشاء تنظيم (مواطنو أوروبا)، لتجاوز ما أسمته بطوباوية اليسار، مع التركيز على الطابع الهوياتي من أجل “أوروبا بيضاء ومسيحية”.

بيدَ أن اللافت، أثناء مزاولة ميلوني السلطة، هو نزوعها البراغماتي، أو ما ينعته المراقبون بالتعقل، وهو ما برهنت عليه ميلوني من خلال العمل بداخل الاتحاد الأوروبي، والتعبير عن نزوعها الأطلسي، نأيًا عن التوجهات السابقة التي كانت سيادية وقريبة من روسيا. ومن جهة أخرى، يقوم أسلوبها على عدم معاداة البنية التقنية، أو ما يسمى في إيطاليا بالتكنوقراطية السيادية. وتتأثر مارين لوبان في فرنسا بوصفة ميلوني، من خلال تنائيها ظاهريًا عن حزب التجمع الوطني، وتسليم قيادته إلى الشاب جوردان بارديلا.

ولئن اختارت أسبوعية ذي إيكونوميست (البريطانية) صورة ثلاث نساء على غلافها، واعتبرتهنّ من يحدد مصير الاتحاد الأوروبي، وهنّ: جورجيا ميلوني، ومارين لوبان، ورئيسة المفوضية أورسولا فان دير لاين، فإن دفة السفينة تظل بيد ميلوني التي تؤشّر على الزمن الثاني للشعبوية، أو ما بعد الشعبوية، بعد قوة الدفع الأولى مع البريكست، وانتخاب ترامب في الولايات المتحدة.

بدأ الزمن الثاني للشعبوية، أو ما يُنعت بما بعد الشعبوية، وهو متحوّر عن الشعبوية في صيغتها الهوجاء، ولا شيءَ يشي أنه سيتوارى قريبًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version