تركّز العديد من البلدان على جذب الاستثمارات الأجنبية الكبيرة التي تقوم بها الشركات متعددة الجنسيات أو رجال الأعمال الكبار. تهدف هذه الاستثمارات إلى زيادة معدلات النمو، وإنعاش الناتج القومي الإجمالي لتحقيق التنمية المستدامة. ومع ذلك، هناك نوع آخر من الاستثمارات الأجنبية الأصغر حجمًا التي لا يمكن الاستغناء عنها لتحقيق فوائض ربحية عالية. ورغم أنها صغيرة الحجم وتعمل في مجالات متعددة، فإنها قد تُحدث طفرة كبرى في اقتصادات البلدان المضيفة.
ينطبق هذا الأمر على الاستثمارات التي جلبها المهاجرون السوريون منذ بدء الأزمة الداخلية في سوريا إلى الاقتصادين المصري والتركي. تساهم هذه الاستثمارات في مواجهة البطالة وخلق الوظائف، وسد الفجوة التمويلية، وتحسين الكفاءة الإنتاجية عبر دعم التنافسية وتوسيع الأسواق. كما تقدم رأس المال والتكنولوجيا والخبرات الفنية، مما يزيد من إنتاجية العمل. تساهم هذه الاستثمارات أيضًا في تطوير المؤسسات والمهارات وتحسين هياكل الإنتاج والقيمة المضافة، وجذب المزيد من الاستثمارات وتحسين التجارة الدولية.
لم يكن لهذه الاستثمارات أهمية كبيرة قبل الأحداث التي وقعت في سوريا بداية من عام 2011. حيث تسببت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في هجرة ملايين السوريين إلى الخارج. تحملت لبنان ومصر وتركيا والأردن العبء الأكبر من هذه الهجرة، وأصبح تركيز الهجرة نحو مصر وتركيا بمرور الوقت. يتميز اقتصادا البلدين باتساع السوق المحلي، وزيادة حركة التجارة الخارجية. كما تتميز تركيا بمشاركة سوريا الحدود الجغرافية، بينما تتميز مصر بوحدة اللغة والثقافة وحالة الوئام التاريخي بين الشعبين.
في مصر، يعيش نحو 1.5 مليون سوري. لا يواجه هؤلاء مصاعب كبيرة في العيش على عكس تركيا، حيث يعيش السوريون تحت بند “الحماية المؤقتة”. ووفقًا لدائرة الهجرة التركية، يبلغ عدد السوريين في تركيا 3,112,683 نسمة، وهم يواجهون أحيانًا موجات عنصرية طاردة، رغم أنهم لا يزاحمون الأتراك في مجالات العمل بشكل ظاهر. التعقيدات البيروقراطية تبدو أكثر وطأة في تركيا، التي تعرف سياسة الترحيل المنظم. وتشير بعض التقديرات إلى أن السلطات التركية تنوي ترحيل 200 ألف سوري خلال عام 2024.
في مصر، يتواجد السوريون بتأشيرة سياحية مؤقتة، أو بصفة لاجئ، أو دارس، أو برخصة عمل. لا يستطيع حاملو التأشيرة السياحية أو اللاجئون فتح حساب بنكي أو الحصول على رقم هاتف جوال، بينما يواجه من يرغب في الحصول على رخصة عمل إجراءات أمنية وإدارية معقدة.
الإجراءات الإدارية ليست موجهة لجنسية محددة، لأن المصريين أنفسهم يعانون تاريخيًا من البيروقراطية الحكومية. يشترط على حامل رخصة العمل ألا يزاول مهنة الإرشاد السياحي أو يمارس التجارة الخارجية، ويشترط القانون ألا يعمل أكثر من 10% من العمال الأجانب في أي مؤسسة. ولهذا يلجأ بعض السوريين المسجلين كلاجئين، للعمل من الباطن وراء ستار سوريين آخرين نجحوا في تخطي العقبات الإدارية، مما يجعل قطاع العمل الأجنبي غير الرسمي كبيرًا.
في تركيا كذلك، يصعب إصدار رخص عمل للمستثمرين السوريين؛ بسبب التعقيدات البيروقراطية والأمنية، ويعمل السوريون بكثافة عند بعضهم البعض؛ نتيجة لمشكلات التواصل اللغوي. أصبح القطاع الاستثماري الأجنبي غير الرسمي متضخمًا في تركيا أكثر من مصر؛ بسبب زيادة أعداد المهاجرين.
ولكن تركيا لا تحظر على السوريين العمل في قطاع التجارة الخارجية كما هو الحال في مصر، حيث يقدر مركز حرمون السوري للدراسات أن 55% من أعمال السوريين في تركيا مركزة في قطاع التصدير، أو تستهدف مجتمع السوريين هناك.
وقد ذكر رجل الأعمال السوري عبد الغفور عصفور أن السوريين في تركيا يصدرون إلى 50 بلدًا أجنبيًا، وأن قيمة صادراتهم بلغت 500 مليار دولار. ولكن، وعلى عكس مصر، تقوم السلطات التركية مؤخرًا بحملات منظمة مستمرة لترحيل السوريين، بمن في ذلك المستثمرون؛ بسبب مشكلات الإقامة.
يتركز المستثمرون السوريون في مصر في القاهرة والجيزة والإسكندرية، بينما تتركز غالبيتهم في تركيا في ولايات إسطنبول، وغازي عنتاب وأورفا الحدوديتين.
أقدم السوريون في مصر وتركيا على الاستثمار في مجالي المشروعات الصغيرة والمتوسطة، حيث أسسوا آلاف المطاعم وعملوا في الصناعات التحويلية الخاصة بالنسيج والملابس والمفروشات والمعجنات ومنتجات الألبان وتقديم الخدمات. وقد بلغ حجم استثماراتهم الرسمية في مصر 800 مليون دولار، وَفقًا لتقرير صادر عن هيئة الاستثمار المصرية. ويتوقع أن يكون حجم الاستثمار الحقيقي أكبر بكثير.
أمّا في تركيا، فقدرت غرفة تجارة إسطنبول حجم أعمالهم عام 2017 بنحو 1.96% من الناتج القومي الإجمالي، وتوقعت أن يصل إلى 4.05% بحلول عام 2028. واليوم، يبلغ حجم استثماراتهم نحو 10 مليارات دولار، حسب تقديرات مركز حرمون للدراسات الذي توقع أن يكون السوريون قد ساهموا في توفير نحو 700 ألف فرصة عمل في تركيا.
تشهد الاستثمارات السورية في تركيا ومصر نموًا مطردًا رغم المصاعب، ويسعى مجتمع الأعمال في البلدين لحماية وتسهيل هذه الاستثمارات من خلال تنظيم أنفسهم في مؤسسات مجتمع مدني لرجال الأعمال السوريين.
في مصر، هناك “تجمع رجال الأعمال السوريين” منذ 2013 برئاسة خلدون الموقع، و”جمعية الصداقة المصرية السورية” برئاسة طلال العطار، وتتعاون الجمعيتان مع غرفة التجارة بالقاهرة والسلطات المصرية.
وفي تركيا، توجد “جمعية رجال الأعمال والصناعيين العرب” (أسياد) برئاسة عبد الغفور عصفور، و”جمعية سياد” برئاسة زياد شمعون، و”تجمع رجال الأعمال السوريين بتركيا” (سورياد) في غازي عنتاب.
خلاصة القول؛ الاستثمارات السورية فاعلة بشكل كبير، وهي واحدة من أكبر الاستثمارات الأجنبية المتوسطة والصغيرة في مصر، كما تشكل نحو 14% من حجم الاستثمار الأجنبي في تركيا. وتواجه هذه الاستثمارات تحديات في تركيا؛ بسبب موجة العنصرية الأخيرة. وهي في مصر، الأولى من حيث حجم الاستثمار الفردي الأجنبي، وتنمو بسرعة نتيجة العقلية التجارية للمواطن السوري. وشيئًا فشيئًا، نقل عديد من التجار ورجال الأعمال أهلهم إلى مصر، وأودعوا في البنوك المصرية نحو 20 مليار دولار.
الوضع الآمن للسوريين في مصر يجعلها بيئة أفضل للأعمال السورية، مقارنة بالوضع الحالي في تركيا، حيث تزداد الموجة العنصرية، ومعها تتزايد عمليات الترحيل، وترفض البنوك تمويل مشروعاتهم التجارية، ورغم كل ذلك، يظل وضع السوريين في هذين البلدين أفضل منه في بلدان عربية أخرى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.