بإعلان حسن عبد الغني، الناطق باسم إدارة العمليات العسكرية السورية، تولي أحمد الشرع “رئاسة البلاد في المرحلة الانتقالية” والقيام بـ “مهام رئاسة الجمهورية العربية السورية، وتمثيلها في المحافل الدولية” وتفويضه “بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية، يتولى مهامه إلى حين إقرار دستور دائم للبلاد ودخوله حيز التنفيذ” تكون الثورة السورية قد خطت خطوة كبيرة ومهمة صوب إعادة مأسسة البلاد عقب سقوط نظام بشار الأسد.
تنصيب الشرع رئيسًا لسوريا، جاء خلال احتفالية شهدها قادة الفصائل العسكرية، الذين شكلوا الجبهة العريضة للثورة على مدار قرابة 13 عامًا، إذ مثل هذا الحضور العسكري المكثف لمشهد التنصيب، رمزية لا تخطِئها العين، في كون القرار معبرًا عن تلك الفصائل.
أما ثاني أهم القرارات التي تم الإعلان عنها فهو حلّ “جميع الفصائل العسكرية، والأجسام الثورية السياسية والمدنية، ودمجها في مؤسسات الدولة”، فيما لم تكن بقية بنود الإعلان سوى تعبير عما تقرر بالفعل على أرض الواقع منذ دخول قوات الثورة في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024 – الذي تقرر أن يكون يومًا وطنيًا من كل عام – مثل إلغاء العمل بدستور 2012، وحل مجلس الشعب المشكل في زمن بشار، وحل الجيش وجميع المؤسسات الأمنية، إضافة إلى حل حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية… إلخ.
إعلان الشرع رئيسًا لسوريا، لم يكن فقط عنوانًا لمرحلة جديدة، بل حمل في طياته جملة من التحديات والفرص للرئيس الجديد، تحتاج إلى بناء رؤى إستراتيجية مستبصرة للعبور بسوريا الدولة والشعب من هذه المرحلة الحساسة.
التحدي الأول.. إعادة بناء الدولة
فالحقيقة التي يدركها الجميع الآن، أن نظام الأسد دمر المقومات الأساسية التي يجب توافرها لأي دولة، وأن واجب الوقت الآن هو إعادة بناء هذه المقومات من جديد.
فنحن إزاء مساحة جغرافية ذات حدود معترف بها دوليًا، يقطنها شعب ضارب في أعماق التاريخ، إضافة إلى وجود حكومة جاءت من رحم الثورة، وتوجت بإعلان الشرع رئيسًا للبلاد. لكنها تحتاج الآن إلى تدعيم سيادتها الداخلية والخارجية.
من هنا فإن الشرع سيحتاج إلى عدد من الإجراءات لتدعيم هذه السيادة وأبرزها التالي:
- أولًا: إعادة بناء الجيش السوري على أسس وطنية جامعة متسقة مع أهداف الثورة، وقد وضع بيان “النصر” اللبنة الأولى في ذلك البناء، بالإعلان عن حل الفصائل العسكرية ودمجها في وزارة الدفاع، وفي تقديري أن تلك الخطوة تعد من الأهمية بمكان، إذ حمت سوريا من أي صراع فصائلي مدمر، مثل الذي شهدته أفغانستان عقب سقوط نظام محمد نجيب الله في أبريل/نيسان 1992. لكن تظل المتابعة لازمة لمنع نشوء أي حركة تمرد مسلحة.
- ثانيًا: إعادة بناء المؤسسات المختلفة، وفي مقدمتها المؤسسات الأمنية والمجلس التشريعي، إضافة إلى المؤسسات التعليمية والإعلامية والاجتماعية وغيرها من المؤسسات التي تعمل على تدعيم السيادة الداخلية، وربط الشعب بالدولة الجديدة.
- ثالثًا: لا يمكن الزعم بتحقق السيادة الكاملة دون بسط الحكومة سيطرتها على كامل أجزاء الدولة، ما يعني ضرورة إنهاء سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على المناطق التي تحتلها شرق الفرات، وتسليم سلاحها للدولة أسوة ببقية الفصائل.
- رابعًا: ضرورة التوصل إلى رؤية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للجولان المحتل، ومع الاعتراف بصعوبة تلك المهمة في هذه المرحلة، لكن لا يمكن ترك “العربدة” الإسرائيلية شبه اليومية في الجنوب السوري دون حساب، لذا يمكن للشرع استهلال ولايته الرئاسية بالمطالبة بضرورة تنفيذ اتفاق “فض الاشتباك” الموقع عام 1974، ريثما تتهيأ الظروف للمطالبة بضرورة الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الجولان.
التحدي الثاني: دعم الاقتصاد السوري
ويمثل الاقتصاد تحديًا لأي حكومة مستقرة في العالم، إذ يعد بوصلة التحسن المعيشي، وبالتالي نيل الرضا الشعبي، وحدوث الاستقرار المجتمعي، فما بالنا بالوضع في سوريا، إذ تعرض الاقتصاد السوري لهزات عنيفة بسبب سنوات الحرب، أدت إلى تراجع الناتج القومي، وانعدام الاستثمارات الخارجية تقريبًا.
لذا فالتحدي أمام الشرع الآن يتمثل في إعادة تشغيل عجلة الاقتصاد، وتوفير البيئة الملائمة لجذب الاستثمارات، وهذه البيئة تشمل البنى التحتية من كهرباء وإنترنت وطرق ومواصلات وخلافه، كما تتضمن تهيئة بيئة آمنة ومستقرة.
كل هذه الإجراءات ستحتاج إلى مزيد من ضخ الأموال والمساعدات، الأمر الذي سيفرض على الشرع تعزيز حضوره الإقليمي والدولي، لجذب داعمين ومستثمرين في عملية إعادة الإعمار وتعافي الاقتصاد.
التحدي الثالث.. الهوية السورية الجامعة
تتميز سوريا بتنوعاتها العرقية والطائفية في ظل وجود أغلبية عربية “سنية”، فكيف يمكن بناء هوية جديدة لسوريا “ما بعد الأسد” تعبر عن هذا التنوع دون المساس باستقلالها أو خصائصها التاريخية المميزة لها؟
ففي الطريق إلى إعادة تشكيل هوية الدولة، سيواجه الشرع تحديات كبيرة تطمح إلى “دسترة” أي انفصال مستقبلي، إذ تطمح بعض المكونات العرقية والطائفية إلى كتابة دستور يعبر عن تطلعاتها، ولو على حساب الشعب السوري ووحدة وسلامة أراضيه.
فهوية سوريا “الجديدة” يجب أن تظل مرتكزة على الخصائص الدينية والثقافية واللغوية التي شكلت سوريا تقليديًا، مع عدم إنكار الخصائص المميزة لأي مكون آخر.
أيضًا فإحدى أهم خصائص هذه الهوية هي “سوريا الواحدة” غير المجزأة تحت أي لافتة من لافتات التجزئة المستترة مثل “اللامركزية” والتي يتم رفعها من أكثر من مكون، فيما لا يزال بعضها مثل قوات “قسد” محتفظًا حتى اللحظة بلافتة “الإدارة الذاتية”!
كما يجب ألا تغفل هوية سوريا “الجديدة” قيمًا أساسية وجامعة وأهمها العدالة والحرية والتوزيع العادل للثروة وغيرها من قيم ناضل من أجلها الشعب السوري طويلًا، وقدم تضحيات عظيمة لتكون عنوانًا لدولته الجديدة.
فرص يجب اقتناصها
في مقابل التحديات – التي أشرنا إلى أبرزها – توجد فرص مع “إعلان الشرع رئيسًا” لسوريا:
أولًا: التوافق التركي الخليجي
فمنذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الأسد كان واضحًا أن هناك توافقًا تركيًا قطريًا سعوديًا على ضرورة دعم ومساندة الدولة السورية الجديدة.
وفي تقديري أن إعلان الشرع رئيسًا، لا بد أنه حظي بدعم ومساندة الدول الثلاث، داخل الإقليم أو على المستوى العالمي.
وهذا الدعم لا يعني بأي حال من الأحوال أن الشرع قد تم فرضه على الشعب السوري.
فالشرع ذو تاريخ معروف في الثورة، وقاد عملية ردع العدوان إعدادًا وتنفيذًا، ونجحت قواته في الدخول إلى دمشق بأقل الخسائر البشرية والمادية.
كما نالت رؤيته وإجراءاته التنفيذية رضا واستحسان معظم أطياف الشعب السوري، وبدت تصرفاته كرجل دولة مسؤول أكثر منها قائدًا عسكريًا منتصرًا.
من هنا فإن إعلانه من قبل الفصائل العسكرية، رئيسًا للبلاد إنما هو انعكاس لإرادة سورية خالصة.
لكن هذه الإرادة تحتاج إلى دعم للتسويق الخارجي، وهذا ما تقوم به الدول الثلاث المشار إليها. الأمر الذي يعدّ فرصة كبيرة يجب أن يستثمرها الشرع في تعزيز الحضور الخارجي سواء على مستوى الدول أو على مستوى المنظمات الدولية والإقليمية، بما يعود بالنفع على الداخل.
كما يجب أن يبني رؤيته المستقبلية على تحويل سوريا إلى شريك فعال لهذه الدول الداعمة، حتى لا تتحول بمرور الوقت إلى عبء عليها.
ثانيًا: امتلاك جماهيرية كبيرة
أظهرت ردات الفعل العفوية من الشعب السوري على “إعلان الشرع رئيسًا” امتلاك الرجل حضورًا جماهيريًا كبيرًا، عزز من شعبيته التي اكتسبها عقب دخوله دمشق.
هذه الجماهيرية الواسعة، تعد فرصة أمام الشرع، لتعزيز التماسك الداخلي من ناحية، عقب سنوات طويلة من الانقسام والحرب.
كما تعد فرصة للانطلاق بقوة صوب تحقيق برامجه ورؤيته، خاصة إذا نجح في تشكيل مجلس تشريعي من شخصيات سورية وازنة تمثل أطياف المجتمع وفئاته المختلفة.
ثالثًا: تعزيز حضوره “الإسلامي”
مني التيار الإسلامي بهزيمة فكرية وقيمية كبيرة إثر إخفاقه السياسي في تجربة الحكم عقب ثورات الربيع العربي 2011، الأمر الذي ترك آثارًا سلبية على التيار الواسع بجميع أطيافه.
ويمثل إعلان الشرع رئيسًا لسوريا، فرصة تاريخية لتعزيز حضوره الشخصي داخل التيار الإسلامي، وذلك عقب أدائه السياسي المميز، الذي تخلص به من أخطاء الإسلاميين الإستراتيجية، وأهمها التنظيماتية، وعدم المرونة السياسية، وافتقاد الرؤى الإستراتيجية.
وأيضًا نجاحه في بناء تحالفات إقليمية سريعة ومهمة، وذلك على عكس توقعات كثيرين بسبب خلفيته “الجهادية”، إذ استفاد من الظروف الإقليمية والدولية، في إعادة تموضعه مع دول مهمة ومؤثرة مثل تركيا، وقطر، والسعودية، وبدا حريصًا منذ اللحظات الأولى على تأصيل فكرة عدم تصدير الثورة، واعتبار سوريا داعمًا أساسيًا للأمن الإقليمي والعربي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.