أزمة حقيقيّة جديدة يعيشها حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة التركية، وأكثرها تأثيرًا في الشارع، قد يدفع ثمنها غاليًا في الانتخابات المحلية التي أصبحت على الأبواب.

الأزمة سببها رفضُ الحزب التوقيعَ على الإعلان المشترك الذي أصدره البرلمان لإدانة الإرهاب، عقب تزايد عدد الجنود الذين استشهدوا مؤخرًا، جراء المواجهات الدائرة حاليًا بين القوات التركية، والعناصر المسلحة لحزب “العمال الكردستاني” المدعومة من واشنطن في كل من سوريا، والعراق.

وهو الإعلان الذي وقّعت عليه أحزاب: “العدالة والتنمية”، و”الحركة القوميّة”، و”الجيد”، و”السعادة”، التي أعربت عن دعمها جميع الخطوات التي تتخذها الدولة في حربها على الإرهاب، ومواجهة الأخطار التي تحيط بالأمن القومي التركي، ومحاولات تفتيت الوَحدة الترابية للجمهورية التركية.

غضب الرأي العام

امتناع “الشعب الجمهوري” عن التوقيع على الإعلان المشار، إليه أثار سخط وغضب النخبة السياسية، والرأي العام، ووضعه في مواجهة سهام الأحزاب التركية الممثلة في البرلمان، وجعله هدفًا سهل المنال لحملاتها الدعائية؛ استعدادًا لمعركة الانتخابات المحلية الشرسة المنتظرة، والتي سيتحدد بناءً على نتائجها شعبية كل حزب، ومكانته على الخارطة السياسية لتركيا خلال السنوات الخمس المقبلة.

فدولت بهجلي- زعيم حزب “الحركة القوميَّة” وشريك “العدالة والتنمية” في الحكم- أعلن أمام المجموعة البرلمانية لحزبه أنهم لا يرغبون في رؤية إرهابيين داخل البرلمان، مقترحًا على الحكومة الامتناع عن دفع رواتب النواب السبعة والخمسين لحزب “الديمقراطية والمساواة”، “الشعوب الديمقراطي” سابقًا، ومنح قيمتها لأسر الشهداء.

 

موقف متناقض

موقف الحزب- الذي جاء متناقضًا تمامًا مع وجهة نظر الشارع التركي تحديدًا في هذه القضية، وإصراره على المضي قدمًا في خططه الرامية لاستمرار التحالف الانتخابي بينه وبين حزب “الديمقراطية والمساواة”، وريث “الشعوب الديمقراطي”، الذي يعتبره الأتراك الجناح السياسي لحزب “العمال الكردستاني”- سيؤثر دون شك على شعبيته، في وقت هو في أمسّ الحاجة لاستعادة زخمه، وقدرته على التأثير في الرأي العام؛ بعد حالة الإحباط التي خيّمت على جماهيريته، عقب خسارته الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة.

وهو ما بدا واضحًا في الموقف الذي تعرض له رئيس الحزب أوزغور أوزال أثناء مشاركته في مراسم تشييع أحد الشهداء في محافظة “مانيسا”، حيث تعالت في وجهه صيحات الاستنكار والاستهجان خلال وجوده في المسجد، من جانب بعض المواطنين الذين حضروا الجنازة، وأعربوا عن عدم ترحيبهم بمشاركته في مراسم وداع الشهيد، بل وطالبوا برحيله عن المكان.

اتهامات بالتآمر

رئيس حزب “الشعب الجمهوري” في ردّه على ما تعرّض له من هجوم، اتهم حزب “العدالة والتنمية” باستهدافه شخصيًا، وادّعى وجود مخطط تم إعداده خِصيصَى للنيل منه أثناء حضوره الجنازة، مدللًا على صحة ادعاءاته، بالهجوم الذي تعرّض له فريق الحراسة الخاصّ به، والاعتداء على مقرات حزبه في “مانيسا” والمناطق المحيطة بها، وهي الهجمات التي أشار إلى أنها انطلقت من المحافظات التي يتمتع فيها “العدالة والتنمية” بقاعدة جماهيرية عريضة، وأن هؤلاء تم جلبهم لتنفيذ هذا المخطط.

وقد برّر موقفهم الرافض التوقيع على إعلان إدانة العمليات الإرهابية، بأنهم لا يريدون المشاركة في إضفاء الشرعية على ما سماه: “أخطاء وخطايا حزب العدالة والتنمية”، حيث اعتبروه مسؤولًا عما يتعرض له الجنود الأتراك من استهداف، واستشهاد بصورة يومية خارج حدود الوطن.

وأشار إلى أنهم قاموا بتوضيح وجهة نظرهم هذه كتابة للبرلمان، وأدانوا من خلالها بالفعل العمليات الإرهابية بل ولعنوا من يقوم بها أو يقف وراءها، إلا أنه تم تجاهل مذكرتهم التي قُدمت في هذا الإطار، مشددًا على أن هناك فرقًا كبيرًا بين حزب “الديمقراطية والمساواة” الذي يتحالف حزبه معه، وبين حزب “العمال الكردستاني” الذي تصنفه الدولة تنظيمًا إرهابيًا.

حل سلمي

انتقادات أوزال للعمال الكردستاني وزعيمه عبد الله أوجلان، جعلته هدفًا للقاعدة الجماهيرية لحزب “الديمقراطية والمساواة” الذين يرتبطون عاطفيًا بأوجلان، ولا يقبلون المساس بشخصيته، حيث يعتبرونه “أيقونة الثورة الكردية”.

حتى إن المتحدث باسم حزب “الديمقراطية والمساواة”، علَّق على موقف أوزال بالقول: إن رئيس حزب “الشعب الجمهوري”، يحاول استغلال الأكراد في حملته السياسية ضد الحكومة؛ بهدف استعادة مكانة حزبه التي فقدها في الشارع التركي، إلا أنهم لن يسمحوا له بهذا، بل ويرفضون أن تكون رموزهم كبش فداء له.

هذا، رغم أن الرجل له علاقات قوية مع عدد كبير من السياسيين الأكراد على اختلاف توجهاتهم، ومعروف عنه تعاطفه الشديد مع القضية الكردية، ورغبته في التوصل لحل سياسي لها، وهو ما بدا واضحًا في كلمته التي ألقاها في “ديار بكر” خلال حملته الانتخابية لرئاسة الحزب، حينما تعهد أمام قاعدة حزبه الانتخابية- التي تضم شريحة من الأكراد- بالسعي لإيجاد حل سلمي للقضية الكردية، يتمكن من خلاله المواطنون الأكراد من التعبير عن هُويتهم بكل حرية على الأراضي التركية.

كما وعد بالعمل على إطلاق سراح صلاح الدين دميرطاش الرئيس السابق لحزب “الشعوب الديمقراطي”، الذي يقضي فترة محكوميته بعد اتهامه بدعم الإرهاب، ووجود علاقات تجمعه وعناصر مسلحة من حزب “العمال الكردستاني”.

صمت وتجاهل

ارتفاع وتيرة الغضب الشعبي ضد أوزال من جانب الأتراك والأكراد معًا وضعه وحزبه في موقف حرج، خصوصًا أن رئاسته الحزبَ لم يمضِ عليها شهران، وأزمات الحزب في ازدياد، ومما زاد من حدة الأزمة الحالية حالة الصمت التي انتابت الكثير من قيادات “الشعب الجمهوري”، الذين امتنعوا عن الرد على ما يواجهه حزبهم ورئيسه من انتقادات حادة نتيجة مواقفه السياسية المعلنة، تاركين الرجل يخوض المعركة بمفرده.

الغريب في الأمر، كان موقف أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول الذي تجاهل تمامًا المعركة الدائرة، وكأن الأمر لا يعنيه، مفضلًا التزام الصمت هذه المرة، رغم أنه كان دائمًا في طليعة المبادرين بالتصريح والتعليق، وتبرير أي انتقادات توجّه للحزب وسياساته.

موقف إمام أوغلو يمكن فهمه من خلال طبيعة المرحلة التي يمر بها حاليًا، وترتبط بمخاوفه الآخذة في التزايد بشأن إمكانية خَسارته رئاسة بلدية إسطنبول في الانتخابات المقبلة، في ظل استعدادات حزب “العدالة والتنمية” غير المسبوقة، الذي دقّ من خلالها طبول الحرب لمعركة المحليات المنتظرة، وقيامه بتوسيع دائرة عدد الأحزاب المتحالف معها لضمان استعادة المدينة التاريخية، وباقي البلديات الكبرى التي فقدها في الانتخابات السابقة.

أمل أخير للفوز

ناهيك عن أن إنهاء “تحالف الأمة” الانتخابي – الذي كان يضمّ ستة أحزاب قبيل معركة المحليات- أفقده كتلة تصويتية تضم شريحة من المحافظين والإسلاميين، كما أن الرجل فقدَ، شخصيًا، دعم حزب “الجيد”، قوميّ التوجّه، بعد أن قررت رئيسة الحزب ميرال أكشينار ترشيح منافسين له ولزملائه في بلديات: أنقرة، وإزمير، وأضنة، وأنطاليا من أعضاء حزبها، وهو الموقف الذي لم يكن في حسبانه على الإطلاق، ولم يستعد له.

فهو يعتبر نفسه الابن المدلل لها، الذي راهنت عليه كثيرًا، وكانت ترغب في ترشيحه لخوض الانتخابات الرئاسية كمنافس لأردوغان، وخاضت في سبيل ذلك معركة شرسة كادت أن تدفع رئاستها حزبَها ثمنًا لها، ورغم محاولاته استمالتَها مجددًا، وإثناءها عن موقفها، إلا أن اشتعال الحرب بين حزبها وحزبه قضى على أي آمال له في إمكانية إقناعها بالعدول عن رأيها، والاستمرار في دعمه، كما سبق أن حدث.

وبالتالي لم يعد أمامه سوى السكوت عن الانتقادات التي توجّه لحزبه، تاركًا خوض المعركة هذه المرة لرئيس الحزب، فليس لديه استعداد للتضحية بأصوات كتلة حزبه الرافضة للتحالف مع أحزاب كردية عمومًا في هذه المرحلة تحديدًا.

كما أنه لا يريد خَسارة آخر داعم يمكن أن يؤمن له كتلة تصويتية جيدة تمكّنه من المنافسة والاستمرار في السباق الانتخابي، وهو حزبُ “الديمقراطية والمساواة” ذو القاعدة الشعبية الكبيرة، خاصة أن هذه الكتلة التصويتية كان لها الفضل فيما سبق تحقيقه من نتائج في الانتخابات الماضية، مما أدّى إلى فوزه برئاسة بلدية إسطنبول وانتزاعها من يد “العدالة والتنمية”.

 

 

 

 

شاركها.
Exit mobile version