لم يخطر ببال قادة العمليات العسكرية في “عملية ردع العدوان” التي انطلقت في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 أنهم سيسقطون النظام، وسيكون أمامهم تحدي إدارة الدولة، كانت تلك مفاجأة لهم قبل أن تكون مفاجأة للآخرين، إذ كان أقصى طموح العملية، بحسب وزير الدفاع مرهف أبو قصرة، الذي لعب دورًا رئيسًا في التخطيط والقيادة الميدانية، هو السيطرة على مدينة حلب، وحتى المدى الزمني للسيطرة كان أطول بكثير مما حصل.

فبعد السيطرة على المدينة أدرك قادة العمليات العسكرية حجم الانهيار في قوات النظام، مما أغراهم باستغلال الاندفاعة والمضي قدمًا نحو دمشق. وُضعت خطة الاستيلاء على العاصمة سريعًا، وقبلها خطة معركة حماة، المدينة التي تشكل العقدة الإستراتيجية لوسط سوريا، وفي نهاية المطاف تحققت المفاجأة.

غني عن القول، إن عناصر كثيرة ساعدت قيادة عمليات ردع العدوان، أهمها التخطيط الدقيق، والانضباط، والخطاب السياسي المبني على التسامح في مدينة حلب، ما بدد المخاوف محليًا ودوليًا من احتمال الفوضى، وقلل من أهمية بقاء نظام الأسد لمنع مؤسسات الدولة من الانهيار، وحوّل المقاتلين المتفرقين، الذين وحدهم الهدف، إلى فاتحين، كما تظهر استقبالاتهم الشعبية في كل مدينة كانوا يدخلونها.

لقد سقط النظام بأقل قدر من الدماء، خلافًا لجميع التوقعات، ولعبت مساعي الدول الإقليمية التي شاركت في اجتماعات على هامش منتدى الدوحة في 7 ديسمبر/ كانون الأول دورًا مهمًا في هذه النهاية، بحيث تم تسليم السلطات الحكومية بسلاسة لقيادة غرفة العمليات، مقابل عدد من الالتزامات تتعلق بحفظ البعثات الدبلوماسية لإيران وروسيا، والحفاظ على مقامات شيعية مقدسة من الانتقام والتهديم، ومنع الانتقام، والتعهد بحماية وتفكيك الأسلحة الكيماوية، والتعهد بانتقال سياسي منظم.

انتقال سلس للسلطة

وعلى مدار خمسين يومًا بعد سقوط نظام الأسد بعملية ردع العدوان في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، تركز النقاش بين السوريين على قضايا مختلفة، فقد ركزت النخبة المثقفة والسياسية على المؤتمر الوطني الذي أُشير إليه في أول لقاءين للشرع على قناتي سي إن إن (CNN)، وبي بي سي (BBC)، وكذلك على موضوع المشاركة السياسية، وتمثيل المكونات السورية المختلفة.

أما مجتمع الثورة، فقد ركز على استقرار الحكم الجديد، ومطاردة فلول النظام، ومحاولات إطلاق ثورة مضادة.

وركزت الدول عمومًا على تثبيت المكاسب الإستراتيجية التي تحققت دفعة واحدة بسقوط نظام الأسد لجميع دول الإقليم، وحتى للدول الغربية والولايات المتحدة على وجه الخصوص، كما ركزت على موضوع العقوبات، واختبار أداء السلطة الجديدة، ورفع هيئة تحرير الشام من لوائح الإرهاب، والدعم السياسي، وشكلت الوفود الكثيرة من الدول الأوروبية العديدة مؤشرًا قويًا على هذا التوجه. وأظهرت تركيا وقطر والسعودية وحتى الأردن اهتمامًا استثنائيًا بالتحول السوري الكبير.

أما السوريون العاديون، فركزوا على هموم الأمن وتوفير الخدمات، والطاقة الكهربائية في مقدمتها، وعلى الرغم من أن الخدمات لم تتحسن بشكل كبير، فإنه لا توجد مؤشرات على حدوث تذمر شعبي، إذ لم تخرج أية مظاهرات أو احتجاجات تطالب بالخدمات، مما يعكس إدراك السوريين للوضع الذي هم عليه، ومنحهم أكبر فرصة ممكنة للسلطة الجديدة لمواجهة الصعوبات التي تعترضها لتحسين الوصول إلى الطاقة والخدمات الأخرى.

أما الشرع نفسه، فكانت له أولوياته خلال الأشهر الثلاثة الأولى: داخليًا، بشكل رئيس الأمن، ومنع حالات الانتقام ضد العلويين، والإمساك بمؤسسات الدولة، واستمرار تقديم خدماتها.

وكذلك العمل على نزع السلاح، وإعادة بناء الجيش وقوات الأمن، والتخلص من الإرث الثقيل لنظام الأسد في جميع المؤسسات، وخارجيًا، كان تقديم هوية جديدة للسياسة الخارجية السورية أمرًا رئيسًا، وإرسال رسائل طمأنة حول دور سوريا في المنطقة كدولة تسعى للسلام، وتجنب المنطقة التوترات والحروب، لإقناع الدول أن مرحلة جديدة بدأت وتستحق المساندة في إعادة الإعمار ورفع العقوبات.

نجح أحمد الشرع وفريقه في الحكومة المؤقتة في رسم معالم سياسة خارجية جديدة، وتقديم خطاب متوازن ومرغوب أيضًا من قبل الدول الإقليمية والمجتمع الدولي، وتسيير الخدمات، وبسط الأمن، وبقيت ثلاث قضايا رئيسية تشغل باله:

  1. إتمام السيطرة على الأراضي السورية واحتواء قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، الفرع المحلي لحزب العمال الكردستاني الكردي، وهي منطقة تضم منابع النفط والطاقة والمياه والأراضي الزراعية الرئيسة للحبوب.
  2. شح الموارد مع بقاء العقوبات.
  3. ملء الفراغ الدستوري.

في 29 يناير/ كانون الثاني اجتمع قادة الفصائل العسكرية التي شاركت في عملية ردع العدوان، في احتفال في القصر الجمهوري لإعلان النصر، وفي بيان النصر أعلنت تسع خطوات تنقسم إلى ثلاثة موضوعات رئيسة:

أولًا: ملء الفراغ الدستوري

عبر إلغاء العمل بدستور سنة 2012، وإيقاف العمل بجميع القوانين الاستثنائية، وحل مجلس الشعب المشكل في زمن النظام السابق، وجميع اللجان المنبثقة عنه، وتولية قائد قيادة العمليات العسكرية أحمد الشرع رئاسة البلاد في المرحلة الانتقالية.

ومن الواضح أن هذه الخطوات اتُخذت بناءً على الشرعية الثورية، فالمجلس العسكري الممثل بقيادة العمليات العسكرية تولى زمام المبادرة، وملأ فراغ السلطة بهذه الخطوات، ولأن الشرعية الثورية مفهوم يشير إلى الشرعية السياسية المستمدة من إرادة الشعب المتمثلة في الثورة وليس من القوانين أو المؤسسات الدستورية القائمة قبلها، فقد أطاحت القوات الثورية بالنظام ماديًا، وبطبيعة الحال بالدستور الذي يمثل النظام قانونيًا، فإنه يبقى مؤقتًا واستثنائيًا يهدف إلى تحقيق تثبيت انتقال السلطة، وممارستها بشكل شرعي ثانيًا، وتحقيق انتقال سياسي ثالثًا يهدف إلى بناء نظام شرعي جديد عبر دستور جديد أو انتخابات.

ثانيًا: حل المؤسسات التي تعيق إنتاج نظام جديد

تضمن إعلان النصر حل أربع مؤسسات كانت تمثل أعمدة الحكم والسيطرة للنظام السابق، وهي: الجيش، والأجهزة الأمنية بفروعها وتسمياتها المختلفة، وجميع المليشيات المرتبطة بها، وحزب البعث العربي الاشتراكي، وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وما يتبع لها من منظمات ومؤسسات ولجان، وحظر إعادة تشكيلها تحت أي اسم آخر، على أن تعود جميع أصولها إلى الدولة السورية، بالإضافة إلى مجلس الشعب.

من ناحية أخرى، وفي سبيل إعادة بناء مؤسستي الجيش والأمن، تم إعلان خطوة حل جميع الفصائل العسكرية الثورية، وحتى الأجسام السياسية والمدنية الثورية، ودمجها في مؤسسات الدولة، والمقصود هنا بشكل رئيس الأجهزة الحكومية للمعارضة التي نشأت في مناطق سيطرتها طوال السنوات الماضية، قبيل الإطاحة بالنظام، وبشكل خاص حكومة الإنقاذ والحكومة السورية المؤقتة.

ثالثًا: الجهاز التشريعي

معظم الأجهزة التي تم حلها كانت، بطبيعة الحال، في حكم المنحلة، فقد اختفت تمامًا مع دخول قوات قيادة العمليات إلى دمشق؛ تخلى العسكريون عن لباسهم، وهربت قيادات وضباط الأجهزة الأمنية جميعها، وكذلك نواب مجلس الشعب، الذي لم ينعقد ولم يسمح له بالانعقاد، فجاء إعلان حله كتحصيل حاصل، إذ إن هذا المجلس يمتلك الشرعية من دستور تم تقويضه أساسًا.

لكن بتوقف مجلس الشعب عن الانعقاد ثم حله رسميًا، نكون أمام فراغ تشريعي، الأمر الذي تمت تغطيته ببند منفصل وهو تكليف “رئيس الجمهورية بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية، يتولى مهامه إلى حين إقرار دستور دائم للبلاد ودخوله حيز التنفيذ”.

وعلى الرغم من أن هذه الخطوة مقبولة في إطار الشرعية الثورية، فإنها مع ذلك أثارت كثيرًا من علامات الاستفهام، منها، على سبيل المثال، التساؤل عما إذا كان المجلس التشريعي هذا هو الذي سيحدد اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور، وإذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن الدستور سيكتب كما يريد الممسكون بزمام السلطة، وأنه سيمثلهم ولن يمثل إرادة السوريين.

وهذا الاستنتاج الافتراضي يمكن أن يشكل أساسًا لهواجس الكثيرين في النخبة السورية، خشية التحول إلى حكم الفرد مرة أخرى، أو على الأقل فقدان الأمل بدولة ديمقراطية تعددية كما يحلم معظم السوريين.

التحديات

من الضروري الإقرار بأن ملء فراغ السلطة بإضفاء صفة قانونية على الممسكين بزمام الحكم أمر ضروري، فأجهزة الدولة تعمل بشكل منضبط وإلا فإن الفوضى ستعم مؤسسات الدولة، كما أن تولية أحمد الشرع رئاسة الجمهورية، بما يحوزه المنصب من صلاحيات واسعة وتمثيله لسوريا رسميًا أمام العالم، سيمكن من التعامل مع جزء مهم من القضايا المهمة والعالقة، والتي ما كان ممكنًا حلها دون شغل هذا المنصب. ومن بين ذلك التمثيل الدبلوماسي للدولة، وموضوع الأموال المجمدة، وتوقيع الاتفاقيات، وغير ذلك.

التأخر في استصدار هذا القرار يرجع إلى الرغبة أولًا في تثبيت الوضع الداخلي والتأكد من استتباب الأمن، ثم تشكيل إجماع للفصائل على قرار مشترك موحد، والتأكد من تهيئة المناخ الدولي للتعامل مع القيادة الجديدة والاعتراف بها. ومع مرور نحو 50 يومًا، يمكن القول إن هذه الشروط تحققت على نحو واضح، ما يجعل مثل هذا القرار أمرًا ضروريًا.

ومع ذلك، تفتقر هذه الخطوة إلى إطار قانوني شامل، أي إلى إعلان دستوري أو دستور مؤقت، يحدد صلاحيات رئيس الجمهورية، وأهداف المرحلة الانتقالية المرحلية والنهائية، وآليات تشكيل المجلس التشريعي والهيئة التأسيسية للدستور.

وبدون هذه الخطوة، سيكون هناك فراغ قانوني يجب أن يتم تداركه، وإلا فإن جميع الخطوات التي تم القيام بها ستبقى منقوصة، وعرضة للنقد الشديد؛ بسبب انعدام وجود مرجعية قانونية يمكن الاستناد إليها في المحاسبة.

العدالة الانتقالية

خلال الأيام التي سبقت إعلان النصر، ظهرت مشكلة الأمن، وموضوع العدالة الانتقالية، وأصبح أحد أكثر الموضوعات إلحاحًا، لارتباطه الجوهري بموضوع الانتقام وحالات الاضطراب، التي يقوم بها ضباط سابقون وشبيحة اعتصموا في جبال الساحل خوفًا من الاعتقال والمحاكمات على الجرائم التي ارتكبوها.

عالجت السلطات الجديدة الأمر عبر إستراتيجية أمنية مركبة:

  • نزع السلاح بتسوية مؤقتة، وهي تسوية لا تعني الإعفاء من الجرائم.
  • ضرب عقد الشبكات الإجرامية، التي تمثل مراكز استقطاب فلول النظام.
  • التواصل مع المجتمع في الساحل وطمأنته، بأن هناك فصلًا بينه وبين مرتكبي الجرائم من فلول النظام الرافضين للتسوية.

ساعد ذلك على استقرار الأمن بشكل عام، مع وجود بؤر صغيرة يتم معالجتها بشكل مستمر، وهي لا تشكل تهديدًا للنظام العام حتى الآن.

لكن مسألة تشكيل هيئة عدالة انتقالية أمر معقد، ويتطلب مشاركة من الجهاز الحكومي الأمني والقضائي، إضافة إلى المجتمع المدني وممثلي الضحايا. وهو أمر قد يكون بإمكان المجلس التشريعي القيام به، لكن هذا سيكون عرضة للانتقاد، لأن الرئيس الشرع هو الذي شكل المجلس، بمعنى أن رضا الأهالي ورضا أطراف المجتمع سيكون مشكوكًا فيه إذا لم يتضمن آليات واضحة لمشاركتهم في القرار، وإنشاء محاكم خاصة لهذا الغرض، ما يجعل موضوع العدالة الانتقالية واحدًا من أبرز التحديات الأمنية والاجتماعية، إذ من غير الممكن تصور استقرار النظام والمجتمع بدونها.

الانتقال السياسي

كان من المتوقع أن يكون للمؤتمر الوطني دور رئيس في معظم الخطوات التي تم ذكرها في إعلان النصر، ومع ذلك، يبدو أن الخطوات المذكورة التي تحتاج إلى غطاء قانوني لن تكتمل إلا بمؤتمر وطني، يكون مهمته سد الفجوات القانونية والتنظيمية المتبقية التي خلفها إعلان النصر، وهي بدرجة رئيسة إعلان دستوري أو دستور مؤقت، يحدد كيفية تشكيل الحكومة الانتقالية، ومهامها، وجدولها الزمني، وتشكيل هيئة تأسيسية لكتابة الدستور، وغيرها من الأمور الهامة.

ومن الأفضل أن يتجنب الرئيس الشرع، بحكم صلاحياته، أن يطلب من المجلس التشريعي تشكيل هيئة تأسيسية، لأن ذلك سيزيد القلق من توجهاته في الحكم نحو الفردانية.

المؤتمر الوطني سيرسم ملامح النظام القادم، الذي سينعكس في الدستور، وسيكون من مهامه التفاوض بين أطراف المجتمع، وتقرير شكل الدولة ونظام الحكم، والنظام الاقتصادي ونظام العدالة، والحريات العامة، والعلاقة بين السلطة المركزية والسلطات المحلية، وموارد الدولة، ونظام التعليم، بالإضافة إلى الجيش، وقضايا كثيرة أخرى، على رأسها الجدول الزمني، ونظام الانتخابات، وتشكيل لجنة تأسيسية، ثم تكليف لجنة اختصاصية فنية بكتابة الدستور.

الكثير من التحديات تواجه الشرع في المرحلة المقبلة، لكن ما هو أكيد أن السلطة الحالية، التي استطاعت تجاوز معظم العقبات الأساسية لاستقرارها، تواجه تحديات من نوع أكثر خطورة، تتعلق بالمرحلة الانتقالية، والشكل النهائي للنظام الذي سيتولد عنها، وإمكانية أن تكون ممثلة بالفعل لتطلعات السوريين.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version