عمر عبد اللطيف

بثت منصة الجزيرة 360، عقب انطلاقتها مباشرة، برنامج “المتحرِّي” لمُعده ومقدمه الزميل جمال المليكي، ويتتبع البرنامج، في حلقتين، علاقة النظام السوري بسلسلة إنتاج المخدرات وعلى رأسها مادة “الكبتاغون”.

وطرح البرنامج سؤالا رئيسيا عن علاقة نظام الرئيس السوري بشار الأسد بإنتاج المخدرات، وما إذا كان له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بعملية الإنتاج والترفيق والتصدير.

وجرى التحقيق وفق خطين متوازيين، الأول عبر فريق ميداني في الداخل السوري، وآخر تتبع تقاطعات الخيوط التي قد تكشف معلومات عن هذه التجارة، يقوده معد البرنامج لا سيما على الحدود السورية من الداخل اللبناني، إضافة إلى إيطاليا وأماكن أخرى.

وفي الحلقة الأولى من البرنامج التي جاءت تحت عنوان “هل يُدير النظام السوري تجارة الكبتاغون؟”، استطاع فريق التحقيق أن يخترق شبكات إنتاج وتهريب الكبتاغون في سوريا عبر “سليمان غنيجة”، أحد أفراد المخابرات السورية، الذي يعمل على “ترفيق” شحنات المخدرات، إذ كشف “غنيجة” كيف يتم تهريب الشحنات من سوريا إلى اليونان ومصر وليبيا ودول الخليج، بتنسيق كامل بين إدارة مكافحة المخدرات والمخابرات ورئاسة الجمهورية والأمن القومي.

كما تتبع معد التحقيق معامل الكبتاغون على الحدود اللبنانية السورية، وحصل على صور حصرية وخاصة تشكل اختراقا كبيرا لهذه الشبكة، ودليلا جديدا على تورط النظام السوري في إنتاج الكبتاغون.

إذ أظهرت هذه الصور معملا لإنتاج الكبتاغون في المنطقة الحدودية، حيث تسير عملية التصنيع من خلال آلات تدور ليلا ونهارا دون توقف، إضافة إلى لقاء حصري مع أحد الطباخين في هذا المعمل، وهو يتحدث عن التركيبة الكيميائية للكبتاغون، كاشفا عن وجود معامل كبيرة وصغيرة كثيرة في المنطقة الحدودية لصناعة الكبتاغون، الذي يجري تهريبه إلى أماكن عديدة في العالم ومنها الخليج.

صفقة وهمية

وغامر فريق البرنامج بحياته على الحدود اللبنانية السورية، ليتمكن من عقد صفقة وهمية مع تاجر مخدرات سوري بارز موجود داخل الحدود السورية، وهو قائد إحدى المجموعات التابعة لبارون المخدرات “إياد جعفر” وهو شخصية سورية محورية في هذه التجارة.

وعقب عقد الصفقة والحصول على الكثير من المعلومات والأدلة المهمة ينسحب الفريق منها حفاظا على سلامته، بعد أن استطاع معرفة الكثير عن كواليس هذه التجارة وأسماء مهمة، بينهم تجار كبار من آل الأسد مثل “هارون الأسد”، وهو معروف بين السوريين بأنه أحد كبار قادة مليشيات النظام في الساحل السوري، مثلما كشف التاجر عن أنواع المخدرات وأسعارها وتركيبتها، وما هو مرغوب في أوروبا أو الخليج.

الجنوب السوري.. بؤرة جديدة للإنتاج

وتمكّن التحقيق من التوصل إلى أحد العاملين السابقين مع “إياد جعفر”، وأطلق عليه اسم “الشاهد إف”، وكشف هذا الشاهد لفريق البرنامج أن لدى “جعفر” 3 معامل في اللاذقية وأخرى في درعا والسويداء جنوب سوريا، وقد افتُتحت هذه المعامل في الجنوب لقربها من الأردن، حيث يجري تهريبها للخارج.

وتوجّه الفريق الميداني إلى محافظتي درعا والسويداء، لرصد تجارة المخدرات على الحدود مع الأردن، ليتبين من خلال التحقيق أن تجار المخدرات لا ينظرون للجنوب كمركز للصناعة والتهريب فقط، بل كسوق محلي بديل في حال تعثر مرور الشحنات إلى الأردن، التي تشن حربا قاسية على تجار المخدرات قرب حدودها.

ويثبت ما كشفه برنامج المتحرِّي ما تحدثت عنه تقارير عديدة بشأن تورط النظام السوري في هذه التجارة، إضافة إلى أنه يؤكد ما ذهبت إليه شهادات أهالي السويداء أنفسهم، الذين ينظمون مظاهرات أسبوعية تطالب برحيل نظام الأسد، وتتهمه بالوقوف خلف تجارة المخدرات في المحافظة.

كما يتهم النشطاء السياسيون في السويداء العميد “وفيق ناصر” رئيس فرع الأمن العسكري في السويداء وأحد أذرع النظام القوية هناك، بأنه وراء جعل هذه التجارة أكثر تنظيما تحت إدارته.

ولذلك شكّلت حركة “رجال الكرامة” في السويداء، وهي حركة مسلحة معارضة للنظام، مبادرات أهلية لمكافحة تجارة المخدرات، عبر تنظيم دوريات وحواجز تفتيش للحد من صناعتها أو تهريبها إلى الأردن عبر السويداء.

طرق التهريب

وكشف “سليمان غنيجة” عن طرق تهريب المخدرات، التي تبدأ من محافظة حمص السورية على الحدود مع لبنان، ثم إلى ما يُعرَف بالميناء اليوغسلافي في محافظة اللاذقية، ثم بحرا إلى ليبيا واليونان وإيطاليا.

وفي اللاذقية يحصل الفريق الميداني على صور خاصة من الميناء اليوغسلافي، الذي كان أسسه رفعت الأسد شقيق الرئيس حافظ الأسد خارج إطار الدولة، كما حصل الفريق على صور حصرية تظهر سيارات “إياد جعفر” المحملة بالمخدرات وهي تدخل سوريا قادمة من لبنان في وضح النهار.

وفي إيطاليا، يلتقي معد البرنامج خفر السواحل الإيطالي، الذي يكشف عن أهم النقاط التي يستهدفها المهربون في إيطاليا ومنها قناة صقلية لتهريب المخدرات، ومقاطعة بوليا القريبة من شواطئ ألبانيا، حيث يجري التعامل مع المافيات الإيطالية لنقل هذه الشحنات إلى دول أخرى، خصوصا في أوروبا.

دولة داخل الدولة

في شهادة مهمة يقدمها التحقيق عن دور الفرقة الرابعة في تجارة المخدرات، يتضح أن لدى الفرقة سلطة كبيرة، إذ لا يمكن وجود نشاط للمخدرات دون أن يكون لها دور فيه، فهي تسيطر على كل الترفيق في سوريا، كما أنها تسيطر على الحواجز العسكرية والأمنية، بل ويتجاوز دورها مرحلة الترفيق إلى التدخل في الإنتاج بشكل مباشر.

والترفيق هو مصطلح جمركي، يعني مرافقة دوريات الجمارك شاحنات البضائع التي تعبر أراضي الدولة لتأمينها، لكن الترفيق في سوريا أصبح خاصا بتأمين شاحنات تهريب المخدرات.

في شهادة أخرى لـ”جعفر جعفر”، وهو تاجر مخدرات ومرفّق سابق للفرقة الرابعة، يتحدث عن تورط مدير مكتب أمن الفرقة الرابعة اللواء “غسان علي بلال” اليد اليمنى لماهر الأسد قائد الفرقة الرابعة، في إدارة عملية تهريب المخدرات، وتأمين خط سير شاحنات المخدرات من قبل ضباط الفرقة وأفرادها حتى تصل إلى موانئ اللاذقية.

ويعدّ “غسان علي بلال” مسؤول الملف الاقتصادي في الفرقة الرابعة، وقد فرضت عليه الولايات المتحدة عام 2020 عقوبات وفقا لقانون “قيصر”، لارتباطه بارتكاب جرائم بحق المتظاهرين المناهضين للأسد.

كما أدرج اللواء “غسان علي بلال” في قوائم العقوبات البريطانية والأوروبية والكندية بسبب دوره في عمليات القمع والتهجير التي قادتها الفرقة الرابعة ضد المتظاهرين والمدن والبلدات في ريف دمشق منذ بدء الثورة السورية عام 2011.

التستر وراء شركات وهمية

يكشف التحقيق من خلال الفيديو الحصري الذي يتحدث فيه “سليمان غنيجة” أن هناك شخصيات أكبر نفوذا من تاجر المخدرات “إياد جعفر”، إذ يذكر “غنيجة” اسم مضر الأسد المدرج على لائحة العقوبات الأوروبية، وهو ابن رفعت الأسد عم الرئيس بشار الأسد، ولمضر شركات عديدة، مثل “العالمية للشحن”، التي تعمل في مجالات مختلفة، لكنها في الواقع واجهة لتجارة المخدرات وغسيل الأموال.

ليس هذا فحسب، بل إن شركة “القلعة للحراسات الأمنية” يملكها ماهر الأسد، في حين يديرها “خضر علي طاهر” الملقّب بأبو علي خضر، وهو مسؤول عن حواجز الفرقة الرابعة بالمناطق الحدودية مع لبنان.

وتعمل الشركة في مجال الترفيق بالتعاون مع الفرقة الرابعة، ومثلها شركة “الفجر” و”شروق” و”الوطنية”، كلها مرتبطة عضويا بالفرقة الرابعة وأجهزة النظام بشكل مباشر، كما يتمتع “خضر علي طاهر” بعلاقات جيدة مع أسماء الأسد، وهو أحد أعضاء المكتب المالي والاقتصادي التابع للقصر الجمهوري، والمسؤول عن إعادة هيكلة الاقتصاد وإدارة اقتصاد الحرب.

وفي مقابلة حصرية، يستضيف المتحري في تحقيقه العميد “نبيل الدندل” رئيس فرع الأمن السياسي في محافظة اللاذقية بين عامي 2003 و2007، ليقدم معلومات مهمة عن دور عائلة الأسد في تجارة المخدرات، إذ كشف أن جميل الأسد شقيق حافظ الأسد يسيطر على ميناء اللاذقية، بينما أنشأ رفعت الأسد حينما كان في السلطة مرفأ خاصا للتهريب، وهو ما يُعرَف اليوم بالميناء اليوغسلافي.

وفي الجزء الثاني من التحقيق الذي حمل اسم “كواليس التهريب”، يتحدث “سليمان غنيجة” عن تهريب المخدرات لصالح هارون الأسد، كما يكشف عن تورط أجهزة الأمن في حماية شحنات الكبتاغون، سواء من الأمن العسكري أو المخابرات الجوية والسياسية أو من إدارة الجمارك.

ويعدّ هارون الأسد المسؤول عن الوجهة الأخيرة للشحنات عبر البحر، من خلال شركة نقل يمتلكها تحت اسم “شركة هارون أنور الأسد للنقل والشحن البري”.

ويأتي التحقيق كذلك على ذكر حافظ منذر الأسد المرتبط بالفرقة الرابعة، والمتورط في تهريب شحنة كبتاغون صادرتها رومانيا عام 2020، إضافة إلى بشار طلال الأسد الذي يعمل مع هارون الأسد لصالح ماهر الأسد.

كل هذه الشركات التي يمتلكها آل الأسد، هدفها التهرب من المساءلة والعقوبات، وإدارة نشاط اقتصادي عموده الفقري أموال المخدرات، وهي مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بالفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد شقيق الرئيس الأسد، كما أن بعضها الآخر مرتبط مباشرة بالقصر الجمهوري.

وفي مرحلة أخرى يكشف “سليمان غنيجة” عن دور العميد “سهيل الحسن” في تجارة المخدرات، وهو الآن يشغل منصب قائد القوات الخاصة في سوريا، بعد أن تمت ترقيته من قِبل الرئيس بشار الأسد لدوره في قمع الحراك الشعبي بسوريا منذ عام 2011، حيث كان يقود مليشيا تُعرَف باسم “قوات النمر”.

ومعروف لدى شريحة واسعة من السوريين بدمويته وشنه حملات قمع وتهجير بحق مئات آلاف السوريين المعارضين، وبحسب “غنيجة” فإن سهيل الحسن هو من كان يحمي شحنات المخدرات منذ أن كان ضابطا في المخابرات الجوية وحتى اليوم.

ورقة سياسية

بعد مشاهدة هذا التحقيق، الذي امتد على مدى ساعتين، يمكن التأكيد مجددا على أن النظام السوري يستخدم تجارة الكبتاغون للبقاء سياسيا واقتصاديا، إذ تعدّ هذه التجارة بمثابة ورقة ضغط يستخدمها ضد الأردن ودول الخليج، ويسعى النظام من خلالها إلى تطبيع العلاقات معهم بشكل كامل، بل يحاول أن يحصل على تنازلات كبيرة من الدول العربية، بحيث تقدم له المساعدات لإعادة الإعمار، وتلبي حاجته للأموال والخروج من أزمته الاقتصادية، ناهيك عن الدعم السياسي ووقف المطالبات بتغيير النظام، والتمهيد لإعادة علاقاته مع المجتمع الدولي وإنهاء العقوبات المفروضة عليه.

وقد كانت، وما زالت، ورقة تجارة المخدرات ملفا للتفاوض بين سوريا وما يُعرَف بلجنة الاتصال العربية بشأن سوريا، التي عقدت أول اجتماعاتها في القاهرة في صيف عام 2023، وهي تضم مصر والأردن والسعودية ولبنان والعراق وسوريا، إضافة إلى جامعة الدول العربية، وقد كان آخر اجتماع لهذه اللجنة في أغسطس 2024 بمصر.

وأسفرت مبادرة لجنة الاتصال العربية عن عودة النظام للجامعة العربية، مقابل عدة بنود على النظام الالتزام بها، منها زيادة توسيع المساعدات الإنسانية في سوريا، وتهيئة الظرف للعودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين إلى بلدهم، وإنهاء تجارة المخدرات، والتوصل لحل سياسي وفقا لقرارات مجلس الأمن، لا سيما القرار 2254، واستئناف عمل اللجنة الدستورية التي تعكف على إعداد دستور جديد للبلاد، وتنسيق الجهود لمكافحة الإرهاب في سوريا.

ومنذ تشكيل هذه اللجنة صدر عنها ما بات يُعرف “خطوة بخطوة”، أي أن يتنازل النظام عن بعض الملفات، مقابل التقدم خطوة في ملف التطبيع معه، وعلى رأس هذه الملفات قيام النظام بمحاربة تجارة الكبتاغون.

وكان من المفترض أن يعقد اجتماع آخر للجنة نهاية هذا العام، لكن مماطلة النظام في الرد على أسئلة مكتوبة بشأن تجارة الكبتاغون وغيرها من الملفات أدى إلى تأجيل الاجتماع.

ويعتقد بعض المراقبين أن لجنة الاتصال العربية بشأن سوريا فشلت وربما سينتهي دورها، بعدما اتضح أن نظام الأسد لم يقدم أي شيء على المستوى السياسي أو بخصوص مشكلة اللاجئين، وتهريب الكبتاغون إلى الدول العربية، لا سيما الأردن والسعودية.

ويشير التحقيق إلى استخدام المخدرات كورقة سياسية، من خلال “سليمان غنيجة” الذي يقول صراحة إن النظام يضغط على السعودية سياسيا من خلال تجارة الكبتاغون، بينما يلفت التحقيق إلى أن النظام يظهر الرغبة فقط في مكافحة المخدرات، لكن حجم ما يعلن عنه من ضبطيات لا يتجاوز 5% فقط من حجم التجارة الكلّي.

قانونان للكبتاغون

ولا يسعى النظام لإرضاء الدول العربية فقط بهذه الضبطيات، بل هو يريد إيهام العالم بأنه يحارب هذه التجارة، لا سيما أن هناك قانونا أميركا خاصا وقعه الرئيس الأمريكي جو بايدن في ديسمبر عام 2022، ويسمى قانون تفويض الدفاع الوطني السنوي، الذي يتضمن “قانون مكافحة اتجار الأسد بالمخدرات وتخزينها، والمعروف باسم قانون الكبتاغون.

ويسعى القانون لتطوير إستراتيجية بين الوكالات الأميركية لتفكيك شبكات إنتاج المخدرات والتجارة بها المرتبطة بالحكومة السورية، ولها علاقة بالرئيس بشار الأسد، بحسب المركز السوري للعدالة والمساءلة، ويرى القانون أن اتجار الحكومة السورية بالكبتاغون تهديد أمني عابر للحدود الوطنية للحكومة الأميركية.

وهو بمثابة ضغط على النظام للالتزام بالأعراف الدولية ومنع أي عملية تطبيع معه، كما أجاز مجلس النواب الأميركي في أبريل/نيسان من العام الجاري قانون الكبتاغون 2، ويطلب من الإدارة الأميركية فرض عقوبات دولية وثانوية على أي شخص أو كيان له علاقة بتجارة المخدرات.

وتستهدف النسخة الثانية من القانون شخصيات من عائلة الأسد، إضافة إلى أي شركة لها علاقة بهذه التجارة، ويختلف هذا القانون عن القانون الأول بأنه يتجاوز جهود وضع إستراتيجية إلى منح الحكومة الأميركية صلاحيات كبيرة لمحاسبة النظام السوري والشبكات المرتبطة به.

شاركها.
Exit mobile version