عمّان- لم تعد المقاطعة الاقتصادية في الأردن مجرد موجة غضب عابرة مرتبطة بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بل تحولت خلال العامين الأخيرين إلى سلوك استهلاكي منظم أعاد رسم معادلات السوق المحلية والإقليمية، وهو ما أجبر علامات تجارية عالمية على الانكماش أو الانسحاب من السوق الأردني.
يأتي هذا في الوقت الذي فُتحت فيه الأبواب أمام المنتجات الوطنية والعربية البديلة، لتظهر كيانات اقتصادية جديدة تستثمر في المزاج الشعبي لصالحها، ليصبح الشارع الأردني لاعبا أساسيا في صياغة المعادلة الاقتصادية الجديدة.
من الشارع إلى السوق
وما بدا كحملة احتجاجية شعبية عاطفية غاضبة سرعان ما تطور إلى قوة اقتصادية صاعدة دفعت المستهلك الأردني لإعادة صياغة أنماط استهلاكه، وأجبرت شركات عالمية على إعادة التفكير في وجودها داخل المملكة، فالمقاطعة لم تعد مجرد شعار، بل أصبحت مشروعا اقتصاديا بديلا يرتكز على شعار “صنع في الأردن”.
أمام هذا الواقع الجديد، تراقب الجهات الرسمية بحذر آثار المقاطعة الشعبية على العمالة والاستثمارات، إذ تسعى الحكومة الأردنية -بحسب مراقبين-، للحفاظ على توازن دقيق بين احترام المزاج الشعبي وعدم الإضرار بالمصالح الاقتصادية والتجارية.
إلا أنها دائما ما تجد نفسها مضطرة إلى الاعتراف بتأثير هذه الحملات التي تجاوزت كونها ردود فعل آنية لتصبح سلوكا جمعيا منظما.
وفي الوقت الذي تتحفظ فيه الجهات الرسمية على إعلان الدعم المباشر للمقاطعة، فإنها تستثمر في تشجيع الصناعات المحلية وتقديم تسهيلات للشركات الناشئة إدراكا منها أن استمرار هذه الظاهرة قد يعيد تشكيل البنية الاقتصادية في البلاد على المدى البعيد.
ومع نهاية عام 2023، شهدت فروع مثل ستاربكس وماكدونالدز وكارفور في عمّان تراجعا واضحا في أعداد الزبائن، ومع مرور الوقت أعلنت سلسلة متاجر “كارفور” إغلاق جميع فروعها في الأردن (51 فرعا)، لتقوم بعدها مجموعة “الفطيم” بإطلاق البديل العربي عن كارفور باسم “هايبر ماكس” الذي يضم 34 متجرا.
وشملت حملات المقاطعة الأردنية، منتجات الأدوية والأغذية، والمشروبات، والمنظفات، والمطاعم وغيرها، وبينما بدأ يتحدث البعض عن الفجوة التي ستخلفها المقاطعة في سوق العمل نظرا لأن العديد من العاملين في هذه المنشآت خسروا أعمالهم أو هم مهددون بذلك.
أعلنت شركات محلية عن تخصيص 100 وظيفة شاغرة لكل موظف يعمل في أي شركة داعمة للاحتلال، أو يفكر في ترك وظيفته، أو تركها أخيرا بسبب استمرار الحرب على غزة.
حملات منظمة
إلى ذلك، أكدت سارة بني هاني الناشطة في مجال المقاطعة أن مقاطعة البضائع الأميركية أو الإسرائيلية أو الأجنبية المرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي لم تعد مقتصرة على الدعوات الفردية أو العاطفية.
وأوضحت، في حديثها للجزيرة نت، أن “ما نقوم به لم يعد مجرد منشورات على السوشيال ميديا، بل هو قوائم محدثة بالبدائل، وورش توعية في الجامعات، وحتى تطبيق إلكتروني يساعد المستهلك على التمييز بين المنتج المحلي والأجنبي”.
وبينت أن “الحملات الرقمية جعلت السلوك الاستهلاكي للأردنيين أكثر انتظاما واستمرارية، وحوّلت المقاطعة إلى ثقافة يومية بدلا من رد فعل ظرفي، في حين أشارت بني هاني إلى أنه وعلى الرغم من النجاحات الاقتصادية على المستوى المحلي، تبقى هناك تحديات حقيقية، أبرزها:
- تحسين جودة المنتجات المحلية وديمومتها والحفاظ على الأسعار التنافسية.
- معالجة آثار المقاطعة على العمالة الأردنية في الشركات الأجنبية.
- ضمان استدامة الحماس الشعبي إذا خفتت الأحداث السياسية.
ولن تنتهي المجازر حتى تجف منابع دعمها!
📢 المقاطعة ليست خيارا ثانويا، بل واجب وحق لأهل غزة علينا. فلنصعّد المقاطعة، ونحوّل غضبنا إلى فعل يوجع العدو وعملائه ووكلائه في المنطقة
#حاصر_حصارك #لا_للتطبيع #الأردن_تقاطع #المقاطعة_مقاومة #قاطع_عدوك #المقاطعة_مستمرة #ادعم_المحلي
#BDS— Jordan BDS (الأردن تقاطع) (@BDSJordan) August 13, 2025
فرص اقتصادية
في المقابل، أكد رئيس غرفتي صناعة الأردن وعمان، المهندس فتحي الجغبير، أن الصناعات المحلية شهدت خلال السنوات الأخيرة ارتفاعا غير مسبوق في الطلب على منتجاتها، لافتا في حديثه للجزيرة نت إلى أن هذا التحول تعمّق أكثر مع بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، حيث اتجه المستهلك الأردني بشكل أكبر نحو المنتج الوطني.
ونوه إلى أن الطلب على السلع والصناعات الأردنية تضاعف تقريبا، مدفوعا بجودة الصناعة المحلية وتنافسية أسعارها، إضافة إلى الثقة المتزايدة بها، ونجاح حملات المقاطعة الشعبية للسلع الأجنبية التي دفعت المواطنين لاكتشاف البدائل المحلية المتنوعة.
وبيّن أن الصناعة الوطنية باتت ركيزة أساسية في توفير احتياجات السوق، إذ تنتج أكثر من 1500 سلعة، تشمل مختلف القطاعات وعلى رأسها الصناعات الغذائية التي تغطي نحو 60% من احتياجات السوق المحلي.
ما تحدث به رئيس غرفة تجارة الأردن تؤكده الأرقام الرسمية، فقد سجل الاقتصاد الأردني نموا ملحوظا في عام 2024، على الرغم من التحديات الإقليمية والظروف الجيوسياسية، حيث حقق الناتج المحلي الإجمالي نموا بنسبة 2.5% مقارنة بالعام الذي سبقه، وفقا لبيانات دائرة الإحصاءات العامة.
إلى ذلك، تقول أمل الشيشاني، ربة المنزل، إن “المستهلك الأردني لم يعد يشتري بعفوية”، لتضيف في حديثها للجزيرة نت “أحمل دائما قائمة بالمنتجات المقاطعة والبدائل، حتى أطفالي أصبحوا يذكروني في السوبرماركت ألا أشتري الشوكولاتة أو المشروبات الأجنبية”.
وبينت أن “هذا التحول يعكس أن المقاطعة باتت هوية استهلاكية مرتبطة بالقيم، لا مجرد استجابة مؤقتة”.
الحملات الإلكترونية
في المقابل، لعبت الحملات الشعبية الإلكترونية دورا محوريا في تعزيز ثقافة مقاطعة المنتجات الإسرائيلية والشركات الداعمة لها، إذ تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى منابر ضغط جماعي وساحات للتعبئة الشعبية.
فقد أطلق ناشطون وفاعلون مجتمعيون هاشتاغات موحدة، مثل #قاطع، و#الأردن_يقاطع، لنشر قوائم بالبدائل المحلية والعربية، وتوثيق مواقف الشركات، وتحفيز المستهلكين على تغيير أنماط استهلاكهم.
اذا امطرت ببلاد بشر بلاد…
مبروك للشعب الأردني العظيم إغلاقه كافة فروع #كارفور في #الأردن وعقبال إغلاق فروع باقي الماركات والشركات الداعمة للاحتلال والإجرام#قاطع #ادعم_المنتج_المحلي— سلطان العجلوني (@AjloniSultan) November 4, 2024
هذه الحملات، التي اتسمت بالزخم والتفاعل الواسع خاصة بعد تصاعد الأحداث في قطاع غزة، ساهمت في رفع وعي شريحة واسعة من المجتمع الأردني، وأجبرت العديد من العلامات التجارية على تبرير مواقفها أو التراجع عن بعض سياساتها التسويقية في السوق المحلي.
وكانت دراسة لمركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية قد أشارت إلى أن 93% من الأردنيين ملتزمون بمقاطعة المنتجات الإسرائيلية والأميركية أو تلك التي تنتجها دول داعمة للاحتلال في حربه على غزة، وأن 95% منهم اتجهوا إلى منتجات بديلة محلية الصنع، في حين يعتقد نحو 72% أن الحملات لا تضر بالاقتصاد الوطني.