بعد مرور أكثر من عام على عملية “طوفان الأقصى” وما تبعها من عدوان “إسرائيلي” على غزة ثم الضفة ثم لبنان مع امتدادات إقليمية تشمل اليمن والعراق وإيران، ما زال موقف النظام السوري عصيًا على الفهم والتفسير إلا من بعض الإشارات هنا وهناك، إذ بقي الطرف الوحيد من “محور المقاومة” خارج إطار المقاومة قولًا وفعلًا.

حرب مختلفة

لا تشبه الحرب الحالية التي تشنها دولة الاحتلال أيَّ حرب سابقة شنتها على قطاع غزة (ولا لبنان كذلك)، بل لا يشبه حاضرُها بداياتها، فقد شهدت على مدى السنة الماضية تغيرًا كبيرًا في المفاهيم والأساليب والأهداف والنطاق.

تغيرت مفاهيم الحرب المتعارف عليها تقليديًا لدى دولة الاحتلال، فالحرب الحالية ليست سريعة ولا خاطفة، ولا على أرض العدو، ولم تكن هي المبادرة لها، وأثبتت أنها أكثر قدرة على تحمّل خسائرها البشرية (قتلى وجرحى وأسرى) والعسكرية والاقتصادية وسواها عن الصورة النمطية عنها.

وتغيرت الأساليب، فبدأت عدوان 2023 من حيث انتهت في 2014 بقصف المباني والمجمعات السكنية، واستمرت باستهداف وهدم كل مقوّم للحياة من بنى تحتية ومراكز خدمية ومستشفيات ومدارس ومراكز إيواء ودور عبادة، فضلًا عن القتل الجماعي والحصار والتجويع، ما استحق سياسيًا وقانونيًا توصيف “الإبادة”.

وتغيرت أهداف الحرب على مدى الشهور السابقة من استعادة الردع، وتحرير الأسرى، وتدمير قدرات حركة حماس كي لا تعيد الكرّة بهجوم مثل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، إلى محاولة احتلال القطاع وتفريغه من سكانه، وفرض منظومة إدارية وأمنية جديدة فيه، وصولًا لأهداف أبعد وأعقد مثل القضاء على حركات المقاومة: حماس والجهاد في غزة، وحزب الله في لبنان، وفرض واقع أمني جديد في جنوب لبنان و”إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط”.

وتغير النطاق بالطبع، ليشمل كل من سبق ذكرهم، وعلى الأغلب أطرافًا أخرى لم تذكر حتى اللحظة، وهنا بيت قصيد هذا المقال. فدولة الاحتلال ترى أنها بالفعل تخوض حربًا وجودية، أي حربًا ستحدد مستقبلها في المنطقة على المدى البعيد، ولذلك فهي تتصرف بوحشية ذئب جُرِحَ ولم يمُت، في سعي حثيث لمواجهة وتقويض كل التهديدات التي تحيط بها أو ما تسميه “حلقة النار” من إيران وحلفائها. يساعدها على ذلك الدعم غير المحدود من واشنطن وعواصم غربية أخرى، وكذلك تعرضها لأقسى ما يمكن أن تتعرض له من لوم ونقد وتجريم سياسيًا وقانونيًا وشعبيًا، ما يدفعها لمحاولة الانتهاء من كافة الملفات مرّة واحدة.

أين دمشق؟

منذ بدء العدوان “الإسرائيلي” على قطاع غزة، أطلق حزب الله جبهة إسناده، وصدرت طهران مواقف داعمة، وانخرط أنصار الله في اليمن في عمليات حصار اقتصادي لموانئ الاحتلال عبر عملياتهم في البحر الأحمر، وتبنّت فصائل عراقية محسوبة على إيران عدة هجمات ضد الاحتلال، بينما بقي النظام السوري شبه صامت حتى اللحظة.

لا نتحدث هنا عن عمل عسكري مباشر، ولكن حتى على صعيد التصريحات والمواقف والبيانات الرسمية، التي تكاد لا تجد منها ما يتعلق بالحرب على غزة (ثم لبنان) ما يزيد على أصابع اليدين، وبلغة وصياغات باردة، وكأنها تعلّق على حدث في أميركا اللاتينية، أو كأن سوريا دولة إسكندنافية وليست ركنًا رئيسًا في “المحور”.

ولذلك لم يكن مستغربًا أن يغيب ذكر القيادة السورية عن خطابات حركات المقاومة؛ ذكرتها حماس في بدايات الحرب ثم غيّبتها، وذكرها الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله مرة أو اثنتين فقط في خطاباته في سياق عام. أكثر من ذلك، أشار إعلاميون سوريون إلى عدم نقل التلفزيون الرسمي السوري لخطابات الأخير كما العادة.

يضع “المحور” ذلك في إطار توزيع المهام وفق الإمكانات أو “دعم المقاومة عسكريًا وماديًا ومعنويًا” دون دخول المعركة كما قال نصر الله. بينما يقرؤه الكثيرون في إطار موقف مستجد للنظام في هذه الحرب، يتناغم مع رغبته في التعويم والعودة للنظام الرسمي العربي، في ظل تقارير تحدثت عن تهديدات “إسرائيلية”، وأخرى عن تفاهمات أبرمها مع الإدارة الأميركية عبر وسطاء عرب لضمان مستقبله مقابل حياده، وثالثة عن خلافات مع إيران على خلفية الاغتيالات المتكررة لقياداتها على أراضيه.

وبين هؤلاء وهؤلاء، ثمة من يعتقد بأنه ليس بمقدور النظام أصلًا تقديم أي دعم عملي ملموس للمقاومة؛ بالنظر لواقعه وإمكاناته، وكذلك التحديات التي تواجهه، فيكون الصمت أو الحياد سعيًا لتجنب الأسوأ، وهو الاستهداف والإسقاط.

مسار حتمي

إذن، يبدو أن النظام في دمشق قد تقصد تحييد نفسه عن الحرب القائمة والبقاء على مسافة واضحة منها، رغبة في مكسب أو تخوفًا من دفع ثمن، لكنه أخطأ التقدير.

فالراجح من التوقعات أن الحرب ماضية نحو التوسع لا التوقف، حيث إن نتنياهو ومعه المؤسسة العسكرية والأمنية وشركاؤه في الحكومة لن يتوقفوا قبل الوصول لنقطة يستطيعون معها تقديم صورة نصر للداخل “الإسرائيلي”، وهي نقطة ما زالت بعيدة جدًا في جنوب لبنان على أقل تقدير.

كما أن دولة الاحتلال لم ترد بعد على ضربة إيران الأخيرة، التي هددت بدورها أن أي اعتداء عليها سيُرد عليه بطريقة مختلفة تشمل البنية التحتية، ما يحيل على موجة من الضربات المتبادلة على أقل تقدير في المستقبل القريب. فضلًا عن قناعة صانع القرار في تل أبيب بضرورة مواجهة كامل التهديدات، ولو بشكل متدرج وعلى مراحل.

يعضدُ هذا التقديرَ الأولي ثلاثةُ مؤشرات:

1- الأول، أن الحرب البرية التي تراها “إسرائيل” ضرورية ضد حزب الله ستشمل – بل ربما تبدأ من – الجولان السوري المحتل، كمسار يمكن أن يجنب القوات الغازية بعض الخسائر في كمائن الجنوب و/أو يمثل ضغطًا إضافيًا، وعامل مفاجأة لمقاتلي الحزب.

وقد ظهرت بعض المؤشرات على ذلك من خلال تقدم قوات الاحتلال يوم السبت الماضي بضع مئات من الأمتار في ريف القنيطرة الجنوبي، وتجريفها ثم ضمها بوضع سلك شائك.

2- الثاني، أن حالة التصعيد المتوقعة بين إيران و”إسرائيل” ستطال الأراضي السورية ومواقع داخلها، كما يحصل منذ سنوات، وتكرر كثيرًا خلال الحرب الحالية.

3- والثالث، أن “إسرائيل” تتحدث بشكل واضح ومعلن عن مواجهة جميع التهديدات وعن شرق أوسط سترسم خرائطه الجديدة، ولا شك أن سوريا بالنسبة لها أحد التهديدات بعدِّها جزءًا رئيسًا من “محور الشر” أو “اللعنة” التي أعلنها نتنياهو من منبر الأمم المتحدة الشهر الماضي.

رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية “الإسرائيلية” عاموس يدلين دعا في مقال له مؤخرًا للتفكير في ضرب نظام الأسد “الذي مثل الجسر الأساسي للإمدادات العسكرية وتنامي حزب الله”، وتخييره بين الاستمرار في نفس النهج، وتعريض بقائه للخطر أو إغلاق حدوده.

في الخلاصة، تبدو محاولة تجنب الانخراط في الحرب الحالية من قبيل التوقع ذاتي التحقق، أي المحاولات التي تدفع نحو المصير المراد تجنبه، وبالتالي لا يبدو وفق المعطيات المنطقية أنه بمقدور نظام الأسد أن يبقي نفسه خارج إطار التأثر بالحرب الحالية وتطوراتها المستقبلية المتوقعة.

وحتى لو ظن أن التفاهم مع واشنطن أو الوجود العسكري الروسي قد يحميانه فهو واهم في ذلك. فالوجود الروسي لم يمنع حتى اللحظة الاستباحة “الإسرائيلية” المتكررة للأجواء والمواقع السورية، كما أن الولايات المتحدة تسير مع نتنياهو في هذه الحرب كتفًا بكتف، رغم الخلافات المدّعاة والتي هي أقرب للتمويه والغطاء السياسي المتكرر.

حتى الرئيس التركي أردوغان بات يصرح بشكل يومي حول أطماع نتنياهو في المنطقة، وأن تركيا وسوريا هما التاليان بعد فلسطين ولبنان، محذرًا من الإضرار بأمن بلاده القومي، فلا يعقل أن ثمة في دمشق من يغفل عن أن الحرب تختارك أحيانًا وإن لم تخترها، أو أنه سيعصم بلاده من الطوفان بجبل تفاهمات أو سفينة حماية.

هذا كله في ظل إدارة بايدن التي لا تكنّ لنتنياهو مزيد احترام أو تقدير، فكيف إن أتت الانتخابات الرئاسية المقبلة بترامب رئيسًا من جديد؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version