بينما تستذكر اليابان مرور الذكرى الـ80 على هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، تجد هذه الدولة الواقعة أقصى شرقي القارة الآسيوية نفسها على أعتاب تحول إستراتيجي كبير، إذ تعيد صياغة عقيدتها الدفاعية في مواجهة تصاعد التوتر مع الصين وروسيا وكوريا الشمالية، وسط شكوك متنامية عن استمرارية المظلة الأمنية الأميركية التي كانت تعتمد عليها ردحا من الزمن.

فهل حقا تستعد اليابان للحرب وتودع صورتها كدولة مسالمة في عالم يموج بالصراعات والصدامات المسلحة؟ هذا هو السؤال الذي حاولت صحيفتان بريطانيتان الإجابة عنه.

وفي تقرير ليو لويس -رئيس مكتب صحيفة فايننشال تايمز في طوكيو- فإن معرض الصناعات الدفاعية والأمنية الدولي “دي إس إي آي” (DSEI) الذي أقيم هذا العام في طوكيو، ظهرت اليابان (الدولة المضيفة المعروفة بسلميتها) وكأنها تستعد للحرب، ربما بحكمة، وبإلحاح جديد مصدره ليس فقط سلوك أعدائها المحتملين، بل أيضا تصرفات حلفائها المفترضين.

خياران

أوضح الكاتب أن ثمة مؤشرات واضحة على هذا التحول -ظهرت في المعرض الذي جمع مئات الشركات الدفاعية من عشرات الدول- تمثلت في أسلحة متطورة، وأنظمة دفاعية متقدمة، ورسالة مزدوجة مفادها أن الردع ضروري، لكن التفوق التكنولوجي يصبح حاسماً عند انهياره.

ووسط ردهة المعرض الرئيسية، كانت هناك دمية متقنة الصنع لجندي مشاة جريح ظلت تستخدم منذ عام 2023 لتدريب الجراحين العسكريين البريطانيين والأطباء المدنيين على معالجة مصابي القتال.

ويُطلق على الدمية اسم “سام” حيث كانت ترقد في الردهة على سرير متحرك في مشهد استأثر بالأضواء، إذ اعتبرها لويس في مقاله أهم المشاركين في المعرض، مضيفا أنها جسّدت جانبا من الحرب قلما يُعرض في معارض الأسلحة، وهي الإصابات المروعة التي تصيب الجنود.

ووفقا للمقال، فقد جاء عرض الدمية “سام” -التي تواصل “نزفها” حتى إتمام الإجراءات الطبية الصحيحة- ليحذر اليابان من أنها تعاني من فجوة عميقة في خبرتها الطبية ناتجة عن عقود طويلة من فترة السلم التي طالما عاشتها.

في معرض الصناعات الدفاعية والأمنية الدولي الذي أقيم هذا العام في طوكيو، ظهرت اليابان –”الدولة المضيفة المعروفة بسلميتها”- وكأنها تستعد للحرب، ربما بحكمة، وبإلحاح جديد مصدره ليس فقط سلوك أعدائها المحتملين، بل أيضا تصرفات حلفائها المفترضين.

بواسطة ليو لويس، رئيس مكتب طوكيو في صحيفة فايننشال تايمز

لا وقت للاتكال

وفي موازاة هذا الاستعداد الفني، يشير الكاتب إلى أن طوكيو اتخذت قرارا رمزيا لكنه معبّر وذلك بإلغاء العرض العسكري السنوي للقوات الذاتية الدفاع، في ظل انشغال هذه القوات بمهام عاجلة تتعلق بمراقبة وردع تحركات عسكرية غير مسبوقة من الصين التي أجرت مناورات مشتركة بحاملتي طائرات قرب اليابان، إلى جانب نشاطات روسية وكورية شمالية مثيرة للقلق.

ويبرز هذا القرار بوضوح انتقال اليابان من مرحلة الاتكال على الحماية الخارجية إلى واقع الاستعداد المباشر للحرب، حسب اعتقاد لويس واستنادا إلى ما أعلنته طوكيو عام 2023 أنها سترفع ميزانية الدفاع على مدى 5 سنوات لتصل إلى نحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي، في خطوة تحمل دلالات تاريخية وجاءت مصحوبة بتحذيرات كبيرة بشأن هشاشة الوضع العالمي.

وعلى غرار فايننشال تايمز، تناولت صحيفة إندبندنت بالتحليل قرار اليابان الذي أوقفت بموجبه الاستعراض العسكري السنوي، بحجة أن قواتها منشغلة جدا بتلبية ضرورات أمنية مُلحّة في غمرة التهديدات المتزايدة من قبل الصين وروسيا وكوريا الشمالية.

ووفق شويتا شارما مراسلة الصحيفة في دلهي -في تقريرها- يُعد استعراض قوات الدفاع الذاتي اليابانية حدثا عسكريا احتفاليا يُنظم مرة كل عام تقريبا، بهدف عرض القدرات الدفاعية والانضباط والجاهزية أمام الجمهور وقيادة الدولة، ورفع المعنويات، وتوجيه رسالة إلى المجتمع الدولي حول قدرات البلاد.

وقد جرى تقليص حجم الحدث في السنوات الأخيرة، إذ أُقيم من دون جمهور منذ عام 2020 بسبب جائحة “كوفيد-19” مع تقليل عدد الجنود والمعدات المشاركة لتخفيف العبء على الأفراد.

وأشارت الصحيفة إلى أن وزير الدفاع الياباني جين ناكاتاني كان قد شدد في وقت سابق من هذا الشهر على أنه لا مجال لأي ثغرة في استجابة قوات بلاده لأي حدث عسكري محتمل من روسيا أو الصين أو كوريا الشمالية في ظل الأنشطة العسكرية المتصاعدة.

وبدوره، أكد رئيس الوزراء شيغيرو إيشيبا ضرورة تعزيز القدرات العسكرية وتوثيق التحالف مع واشنطن، محذرا من أن الوضع الأمني المحيط ببلاده والمجتمع الدولي تدهور بشكل كبير على مر السنوات.

وما يمكن استخلاصه من المقالين، أن اليابان اليوم تتحرك بين نطاقين: إرث طويل من السلمية التي شكلت هويتها، وضغوط جيوسياسية تدفعها لتبني عقلية الاستعداد للحرب.

لكن كما يذكر “سام” في صمته المروّع، فإن الاستعداد الحقيقي لا يقتصر على الأسلحة والمعدات، بل يشمل أيضا تجهيز العقول والقلوب لمواجهة ما قد تحمله ساحات المعارك من مآسٍ بشرية، كما توضح الصحيفة.

شاركها.
Exit mobile version