بعد فترة من الجدل والترقب من جهة المتابعين والمعارضين، ومن الغموض والتكتم من جهة السلطة، أصدر قيس سعيد، الرئيس المنتهية ولايته، في الثاني من شهر يوليو/تموز 2024، الأمر الرئاسي لدعوة الناخبين التونسيين للاقتراع في الانتخابات الرئاسية يوم السادس من أكتوبر/تشرين الأول القادم، قبل يومين فقط من نهاية الآجال القانونية.

أنهى هذا الإعلان “المتعثر” الجدلَ حول تنظيم الانتخابات الرئاسية من عدمها، ليفتح المجال لجدل جديد حول سلامة البيئة الانتخابية التي تُجرى في إطارها هذه الانتخابات من حيث الإطار القانوني والإجراءات والهيكل المنظم ومدى احترام معايير الانتخابات الحرّة، النزيهة، والشفافة التي تضمن للمترشحين تكافؤ الفرص، وتضمن للناخب حرية الاختيار، وتعطي للفائز شرعية كاملة.

تأتي هذه الانتخابات الرئاسية في سياقات متقابلة حدّ التناقض أحيانًا، كما تأتي وقد تعلّقت بها انتظارات متباينة ومتضادة. من جهة السلطة، تسعى هذه الانتخابات إلى تمكين قيس سعيد، الرئيس المنتهية ولايته، من الفوز بعهدة رئاسية ثانية؛ لاستكمال تركيز مشروعه السياسي، وتثبيت أركان حكمه على أنقاض عشرية الانتقال الديمقراطي واستحقاقات ثورة الحرية والكرامة (2011)، وتحقيق “معركة التحرر الوطني”.

في سياق مقابل، ترى المعارضة أن هذه الانتخابات فرصة هامة لتحقيق تداول سلمي على السلطة ينهي بالصندوق حكم قيس سعيد الفردي والاستبدادي، ويفتح باب إنقاذ تونس من الانهيار المالي والاقتصادي والانفجار الاجتماعي وربما الفوضى والاحتراب الأهلي.

ومن جهة ثالثة، تأتي هذه الانتخابات في سياق عزوف شعبي واسع عن الاهتمام بالشأن العام، وتراجع الثقة في الحكم والمعارضة، قد يترجمه ضعف المشاركة في الاقتراع.

بدايات متعثرة

مما يزيد في تعقيدات هذه الانتخابات الإشكاليات العديدة المتعلقة بالبيئة الانتخابية، التي يراها المتابعون في المجتمع المدني والمعارضون السياسيون لحكم قيس سعيد، خروقات خطيرة تمسّ مصداقية الانتخابات وتشكك في نتائجها.

وتبدو هذه البدايات المتعثرة واضحة في كل مقومات البيئة الانتخابية المباشرة وغير المباشرة، وهي:

  • الهيكل المشرف على تنظيم الانتخابات: الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وهي هيكل مطعون في استقلاليته؛ لأنه معيّن بمقتضى أمر رئاسي من طرف الرئيس قيس سعيد في أبريل/نيسان 2022، حيث أعطى لنفسه الحق في تحديد تركيبتها وتعيين رئيسها وعضوين من أعضائها السبعة، وتحديد قوانينها وصلاحياتها.

ويقضي هذا المرسوم عمليًا بحلّ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات المنتخبة من طرف البرلمان (2014)، وتجديد ثلث أعضائها، وانتخاب رئيس جديد لها (2019). بهذا التعيين الرئاسي لهيئة الانتخابات، أصبح قيس سعيد المترشح للانتخابات خصمًا وحكمًا في نفس الوقت، وفقدت الهيئة استقلاليتها، وهو ما أكده، حسب مراقبين ومتابعين، أداءُ الهيئة في الاستحقاقات الانتخابية الثلاثة التي نظمتها خلال حكم قيس سعيد.

  • القانون الانتخابي أو الإطار التشريعي المنظم للانتخابات: القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المؤرخ في 26 مايو/أيار 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء، والذي تمّ في إطاره تنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014 ثم في 2019 والانتخابات المحلية في 2018، تم تنقيحه بمرسوم رئاسي من سعيد عدد 55 لسنة 2022 بتعديل فصول، وإلغاء فصول، وإضافة أخرى بناءً على دستور قيس سعيد (2022)، قبل تعديله مرة ثانية بمرسوم رئاسي جديد في أكتوبر/تشرين الأول 2022، أي خلال الزمن الانتخابي الذي لا يمكن فيه تغيير قواعد العملية الانتخابية.

شملت هذه التعديلات تغيير نظام الاقتراع على القوائم إلى الاقتراع على الأفراد، وتغيير شروط الترشح وكيفية تقديم الترشحات، بالإضافة إلى مسائل أخرى. كما شملت التعديلات إضافة مسائل لم تدرج من قبل في القوانين الانتخابية السابقة، كمسألة سحب الوكالة من أعضاء المجالس المنتخبة.

لم تقتصر التجاوزات التي مست القانون الانتخابي على ما أصدره الرئيس قيس سعيد من تنقيحات تتسم بالأحادية، وتكرّس الحكم الفردي الاستبدادي، وتحكم وضع اليد على منظومة الانتخابات برمتها، بل كان لهيئة الانتخابات هي الأخرى “تجاوزاتها” باستعمالها اختصاصات وصلاحيات لا تعود إليها، وإنما إلى المجلس النيابي.

فبينما كانت التراتبية في إصدار التشريعات تقتضي أن يتولى مجلس نواب الشعب سنّ قوانين جديدة، تعديلًا أو أصالة، بناءً على ما جاء في دستور (2022)، اختارت هيئة الانتخابات “المبادرة” بطريقة أحادية هي الأخرى بإصدار قرار عدد 544 لسنة 2024، المؤرخ في 4 يوليو/تموز يتعلق بقواعد وإجراءات الترشح للانتخابات الرئاسية، يتضمن جملة من الإجراءات والتراتيب المنظمة للانتخابات الرئاسية، وخاصة في مسائل ذات صلة بشروط الترشح وبالتزكيات الشعبية.

من الأمثلة على ذلك اشتراط وثيقة ثبوت الجنسية التونسية للمترشح ولأمه وأبيه وجده لأمه وجده لأبيه، واشتراط ضمان مالي قدره عشرة آلاف دينار، ونسخة ورقية من قائمة التزكيات وعددها عشرة آلاف تزكية شعبية، أو عشر تزكيات لنواب في المجلس النيابي، أو المجلس الأعلى للجهات والأقاليم مع نسخة رقمية مطابقة للورقية في أسماء المزكين وترتيبهم.

كما اشترطت على المترشحين الاستظهار بوثيقة السجل العدلي واعتبارها شرطًا في قبول مطلب الترشح، مع العلم بأن مصالح وزارة الداخلية تحتكر منح هذه الوثيقة. كما طالبت المترشحين الذين لهم قضايا منشورة أمام القضاء بتقديم شهادة نشر في هذه القضايا، وهي وثيقة غير موجودة أصلًا، أو مضمون حكم في القضايا التي صدر فيها حكم باتّ.

لم تتوقف معاناة المترشحين، وخاصةً المنافسين الجِدّيين لقيس سعيد، عند هذه الصعوبات والعراقيل التعجيزية، وإنما تجاوز الأمر إلى حدّ مقاضاتهم (سبعة مترشحين من بين أربعة عشر مترشحًا) بناءً على “مخالفات في سجلّ التزكيات” بثمانية أشهرٍ سجنًا، والحرمان مدى الحياة من الترشح للانتخابات الرئاسية، لتكتمل بذلك ما يمكن تسميته بالمجزرة الانتخابية؛ لإخلاء الساحة من كل المنافسين وفسح المجال أمام قيس سعيد ليسابق ظله في مضمار خالٍ من المنافسين.

  • الإعلام: انتقل الإعلام في حكم سعيد من إعلام عمومي إلى إعلام رئاسي، حيث تم غلق كل منابره أمام كل المعارضين من السياسيين ومن نشطاء المجتمع المدني، ولم يسلم من ذلك حتى الإعلام الخاص الذي وجد نفسه مرغمًا على الإذعان لضغوطات السلطة وتهديداتها ومقايضتها بين الانخراط في أجندة سعيد أو الملاحقات والإفلاس.

فقد تم إلغاء كل البرامج السياسية وسجن العديد من الصحفيين والمعلقين وكذلك المدونين بناءً على المرسوم عدد 54 المقيّد لحرية الإعلام، والذي ذهب ضحيته حتى اليوم أكثر من ألف وسبعمائة بين معتقل وسجين، الشيء الذي أضفى نوعًا من صمت القبور على المشهد الإعلامي التونسي بعد أن كانت الأصوات فيه حرة وعالية زمن عشرية الحريات والانتقال الديمقراطي (2011-2021).

  • الاعتقالات والمحاكمات: شملت عددًا غير قليل من القيادات السياسية المعارضة من كل الأطياف تقريبًا، ولم تنفك تتوسع لتشمل السياسيين والنقابيين والمثقفين ونشطاء المجتمع المدني. من ضمنهم مترشح محتمل منافس لقيس سعيد هو الدكتور لطفي المرايحي الأمين العام لحزب الاتحاد الشعبي الجمهوري، وآخرون منعوا من تقديم ترشحاتهم مثل عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر، وغازي الشواشي الأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي، وعصام الشابي الأمين العام للحزب الجمهوري.

هذا إضافة، كما أسلفنا ذكره، إلى السبعة المترشحين المحتملين الذين تمت مقاضاتهم بثمانية أشهرٍ سجنًا مع الحرمان مدى الحياة من الترشح للانتخابات الرئاسية.

  • الأزمة الاقتصادية والضيق الاجتماعي: تزداد حدتها وتعاظم مخاطرها خلال الثلاث سنوات من الحكم الفردي المطلق لقيس سعيد، الذي أظهر فيها عجزًا وفشلًا ذريعًا لا تخطئه العين في تدبير الشأن الاقتصادي والاجتماعي.

لقد وجد المواطن – الذي قد يكون تأمل خيرًا في قيس سعيد عندما أعلن إجراءاته الاستثنائية مساء 25 يوليو/تموز 2021 وأطلق وعوده وتباشيره بتغيير واقع التونسيين ومعيشتهم نحو الأفضل – نفسَه اليوم يعاني من غلاء الأسعار، ومن طوابير البحث عن المواد الأساسية المفقودة من الأسواق، ومن مزيد من تدني خدمات المرافق العامة، خاصة في مجالات الصحة، والنقل، والتعليم.

لم يمضِ وقت طويل حتى تحول التونسي من الأمل في التغيير مع قيس سعيد إلى خيبة أمل جديدة، وربما البحث عن تغيير قيس سعيد نفسه.

عندما تجتمع كل هذه المعطيات في سنة انتخابية هامة، فإنها لا تعطي سوى بيئة انتخابية محتقنة، تشقها تجاذبات حادة بين السلطة والمعارضة نتيجة تجاوزات عديدة صارخة ومفضوحة تقف وراءها إرادة سياسية تريد أن تتحكم في المسار ونتائجه.

ومثلما كانت بدايات مسار الانتخابات متعثرةً ومحفوفة بالعديد من الثغرات المخلّة، فإن النهايات والمآلات هي الأخرى قد تكون مفتوحة على الأسوأ؛ ما بين إلغاء الانتخابات بحكم قضائي أو بقرار سياسي يستند إلى حكم قضائي من المحكمة الإدارية، أو المرور بالقوة ومواصلة المسار بإخلالاته والإعلان عن نتيجة معلومة مسبقًا ومطعونٍ فيها لاحقًا لافتقاد البيئة الانتخابية كلَّ الشروط والمعايير التي تجعل منها حرة، ديمقراطية، شفافة، ونزيهة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version