في لحظة إقليمية تتقاطع فيها حسابات الأمن والسياسة، جاءت زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان الأخيرة إلى دمشق لتضع ملامح مرحلة جديدة من التعاطي مع الملف السوري، وتؤكد توجها نحو مواجهة تهديدات إسرائيلية وانفصالية تمس وحدة سوريا وأمن تركيا القومي.

ويعكس هذا التقارب بين أنقرة ودمشق مسارا إستراتيجيا أعمق من كونه تحركا دبلوماسيا ظرفيا، إذ يسعى الطرفان إلى صياغة توازنات إقليمية جديدة تعيد تثبيت الاستقرار في سوريا والمنطقة.

فتركيا، وفق ما أوضحه النائب السابق في البرلمان عن حزب العدالة والتنمية، رسول طوسون، منحت القوى الكردية الانفصالية مهلة حتى نهاية العام للاندماج في مؤسسات الدولة السورية بموجب اتفاق أُبرم في مارس/آذار الماضي.

وحذّر طوسون خلال مشاركته في برنامج ما وراء الخبر، من أن فشل هذه القوى في تنفيذ الاتفاق سيجعل التدخل العسكري التركي خيارا مطروحا، خاصة مع وجود إجماع دولي على تصنيف هذه الفصائل كتنظيمات إرهابية تهدد الأمن الإقليمي.

قاعدة تنسيق

في المقابل، ترى دمشق، وفق الكاتب والباحث السياسي الدكتور مؤيد غزلان، أن المصالح الأمنية المشتركة مع أنقرة تمنح البلدين قاعدة للتنسيق في مواجهة تحديات وجودية، في مقدمتها التصعيد الإسرائيلي.

ويشير غزلان إلى أن تل أبيب تسعى لتفتيت سوريا عبر تحريك الأقليات، مستحضرا سوابق تاريخية من تقسيمات الانتداب الفرنسي، معتبرا أن استهداف وحدة البلاد جزء من مخطط طويل الأمد لإبقاء الدولة السورية ضعيفة سياسيا واقتصاديا.

على الجانب الآخر، يضع الباحث الأول بمركز الجزيرة للدراسات، لقاء مكي، الدور الإسرائيلي ضمن سياق أوسع من الحسابات الدولية، لافتا إلى أن القوى الكبرى، بما فيها روسيا والولايات المتحدة، تتفق على أن استقرار سوريا يخدم مصالحها، لكن الخلاف يكمن في تفاصيل الترتيبات.

ويرى أن وجود قوات سوريا الديمقراطية في الشمال الشرقي يمثل عقدة أمنية لأنقرة ودمشق على حد سواء، وأن أي تسوية واقعية يجب أن تضمن حقوق المكونات المحلية دون منح امتيازات خاصة لمشاريع انفصالية.

ويكتسب هذا المشهد بعدا إضافيا مع ما يعرف بـ”مؤتمر الحسكة”، الذي اعتُبر محاولة من قسد لحشد أوراق تفاوضية قبل نهاية المهلة التركية. لكن مكي يرى أن المؤتمر افتقر إلى تمثيل شامل، واقتصر على أطراف محدودة التأثير، مما كشف حدود قدرة قسد على فرض شروطها، وعزز موقف دمشق في المفاوضات المقبلة.

العصا والجزرة

في ظل هذه المعطيات، تبدو الدبلوماسية التركية حريصة -كما يؤكد طوسون- على تجنب المواجهة العسكرية المباشرة، مفضلة منح المسار السياسي فرصته الكاملة، لكنها في الوقت نفسه تبقي على استعدادها للتحرك إذا فشلت قنوات التفاوض.

هذا التوازن بين العصا والجزرة يعكس قناعة أنقرة بأن أي عمل عسكري ستكون له كلفة سياسية وأمنية، وأن الأفضل تحقيق الأهداف عبر شراكة مع دمشق تدعمها تفاهمات إقليمية ودولية.

ومع أن المجتمع الدولي، كما يلاحظ غزلان، يصدر بيانات تدعو إلى الحلول الدبلوماسية، فإن تأثيره على السلوك الإسرائيلي يظل محدودا، لذلك تراهن دمشق على تحالفات إقليمية، خصوصا مع تركيا وروسيا، لفرض ضغوط أكثر فاعلية على تل أبيب وكبح محاولاتها توظيف ورقة الأقليات في الداخل السوري.

أما على المدى الأبعد، فيرى مكي أن نجاح سوريا في إعادة الإعمار وبناء دولة قوية قادرة على توفير التنمية والأمن لكل مواطنيها سيكون أبلغ رد على المشاريع الانفصالية.

فحين يشعر الجميع بأنهم مستفيدون من الانتماء للدولة، تتراجع النزعات الضيقة، ويتعزز الانتماء الوطني الجامع، خاصة إذا حظيت البلاد بدعم إقليمي ودولي يرسخ موقعها في المعادلة الجيوسياسية للمنطقة.

شاركها.
Exit mobile version