لا أدري ماذا دار بخَلد يحيى السنوار، ومحمد الضيف، ومروان عيسى، وآخرين وهم يضعون اللمسات الأخيرة لانطلاق عملية “طوفان الأقصى”؟
هل كانوا يدركون التطور الكبير الذي ستتركه العملية على مفهوم العمل الفلسطيني المقاوم؟
أم كانوا يتوقعون أن العملية ستحدث شرخًا في الداخل الإسرائيلي، فيما يتعلق بنظرية الأمن القومي الإسرائيلي، وتفاصيل الحياة السياسية؟
هل دار في مخيلتهم أن تغييرًا كبيرًا سيحدث في المزاج العام الإنساني حول العالم بشأن القضية الفلسطينية وسبل دعمها؟

فمع مرور عام على انطلاق العملية العسكرية، يتأكد لنا أن 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بات أحد أهم الأيام الفارقة في الربع الأوّل من القرن الحادي والعشرين، نظرًا للتداعيات الكبيرة التي خلفتها، والتي لم تنتهِ حتى اللحظة.

تطور مفهوم العمل المقاوم

مثلت عملية “طوفان الأقصى” تطورًا كبيرًا في الأداء التراكمي للمقاومة الفلسطينية، حيث نجحت كتائب القسام في إحداث طفرة هائلة في الجهد الاستخباراتي والأمني والعسكري.
ففي كل المواجهات السابقة، اقتصر عمل المقاومة على دفع ومواجهة الهجمات الإسرائيلية، والعمل على تقليل ما تخلفه من خسائر بشرية ومادية.
أما في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فقد خطا المقاوم الفلسطيني خطوة هائلة صوب امتلاك زمام المبادرة، وتحديد ساعة الصفر، والقدرة على تنفيذ عمليات برية وجوية وبحرية متناسقة، في أكبر هجوم تشنه المقاومة الفلسطينية ضد القوات الإسرائيلية على طول خط التماس.

لقد كان المفهوم السائد للعمل المقاوم قبل “طوفان الأقصى” يعتمد على نظرية “الكَر والفر”، لكن ما رأيناه في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، كان عملًا عسكريًا منظمًا، واستيلاء مؤقتًا على الأرض، وغارات متتابعة شلت قدرات العدو، بحيث اختفى رد فعله لعدة ساعات، ما شكل مفاجأة حتى لكتائب القسام، التي لم تتوقع أن تمتلك ساحات المواجهة في غلاف غزة بهذه السهولة.

فخلال فترة وجيزة تمكنت المقاومة من إطلاق قرابة 5 آلاف صاروخ وقذيفة، كما أعلن ذلك قائد كتائب القسام محمد الضيف في كلمته المسجلة التي أذيعت بعد قليل من بدء العملية.
كذلك أسفرت العملية بعد ساعات قليلة عن مقتل مئات الإسرائيليين، وأسر أكثر من مائة آخرين، وإغلاق مطارات محلية، وإلغاء رحلات كانت متوجهة إلى مطار بن غوريون في تل أبيب.

والأهم من كل هذا، نجاح المقاومة في السيطرة على مقر قيادة فرقة غزة، والاستيلاء على 3 مستوطنات في غلاف غزة، في مشاهد غير مسبوقة تم نشرها على مواقع التواصل.
هذه التداعيات دفعت قادة الدولة الإسرائيلية إلى الإعلان صراحة أنهم في “حالة حرب” وأنها “تمرّ بأوقات عصيبة”.

هذا التطور الأدائي يعد محطة مهمة في عمل المقاومة، أخذًا في الاعتبار أنها لا تزال تملك القدرة على المواجهة والاشتباك، وإيقاع خسائر بشرية ومادية واضحة في صفوف العدو، رغم الضربات المؤلمة التي تعرضت لها، مع انعدام خطوط الإمداد، والتي تحاول تعويضها بالتصنيع المحلي.

لذا فإن هذا التطور الكبير في العمل المقاوم، الذي خلفه “طوفان الأقصى”، يؤشر إلى مراحل أكثر تطورًا في نهج وأداء المقاومة، وهذا ما يدركه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لذا يصر على رفض وقف إطلاق النار قبل القضاء المبرم على المقاومة.

التأثيرات الداخلية الإسرائيلية

كذلك فإن ما بعد “طوفان الأقصى” ليس كما قبله، فيما يخص الداخل الإسرائيلي، حيث تركت العملية العسكرية بصمتها بوضوح.

في المجال الأمني، تعرضت النظرية الأمنية لهزة واضحة، فقد بني المفهوم التقليدي للأمن الإسرائيلي على ثلاثة مرتكزات أساسية، وهي: الردع، والتفوق الاستخباراتي، والحسم السريع.

هذه النظرية تم تطويرها لاحقًا عقب تراجع التهديدات من الدول العربية، واقتصارها على مواجهة التنظيمات المسلحة في الداخل الفلسطيني بشكل أساسي، وصاغت المنظومة الأمنية الإسرائيلية ثلاثة مصطلحات تعبر عن هذا التطور، وهي: “كي الوعي”، و”جز العشب”، و”المعركة بين الحروب”.

لكن الذي حدث في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 أصاب كل هذا في مقتل، فكتائب القسام لم تردعها الحروب السابقة، ولم تخف من ردة الفعل الإسرائيلية، عندما اخترقت السياج الحدودي، وهاجمت غلاف غزة بكل هدوء وأريحية، معلنة عن وجود خلل استخباراتي إسرائيلي هائل.

بمقارنة سريعة مع ما وجهته إسرائيل لحزب الله اللبناني من ضربات أمنية وعسكرية، يتضح أن “طوفان الأقصى” سيظل كابوسًا مؤلمًا، وعلامة على هزيمة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في ذلك اليوم.

كما أن الأثر الذي تركه الطوفان امتد إلى الحياة السياسية التي شهدت حالة واسعة من الاختلافات والاضطرابات داخل التحالف الحاكم؛ بسبب مصير الأسرى، وجدوى العملية العسكرية في قطاع غزة.

هز “طوفان الأقصى” وبشدة فكرة أن إسرائيل تظل “وطنًا آمنًا” لليهود حول العالم، حيث انخفض معدل الهجرة إليها، وارتفعت نسب الهجرة العكسية، والتي وصلت حتى يونيو/ حزيران الماضي إلى نحو 500 ألف شخص غادروا البلاد منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.

ومن هنا، ففي تقديري أن “طوفان الأقصى” سيقود إلى تغيير كبير داخل دولة إسرائيل، سواء على المستوى الأمني أو السياسي أو الاجتماعي، لكن ذلك متوقف على اللحظة التي ستتوقف فيها آلة الحرب عن الدوران.

إحياء القضية الفلسطينية

وصلت القضية الفلسطينية قبل “طوفان الأقصى” إلى حالة من الموت السريري، عربيًا وإقليميًا ودوليًا.
المنطقة كانت تتهيأ لتسوية عربية – إسرائيلية واسعة، تنضم فيها إلى قائمة الدول التي أعلنت التطبيع دول أخرى مهمة في المنطقة. وفي تركيا كانت الإجراءات تمضي قدمًا لإعادة العلاقات بين البلدين إلى ما كانت عليه بعد أكثر من عقد من الخلافات البينية الشديدة.

ففي مارس/ آذار 2022، استقبل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، نظيره الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، في القصر الرئاسي بأنقرة، ثم التقى رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول 2023، وكان من المقرر أن يزور نتنياهو بعدها تركيا.

لكن “طوفان الأقصى” وتداعياته أوقف عجلة التطبيع العربي، وأعاد ملف القضية الفلسطينية إلى الواجهة بقوة، بعد أن كان حبيس الأدراج.
كما سحبت تركيا سفيرها من تل أبيب، وأوقفت جميع التعاملات الاقتصادية مع إسرائيل، وصولًا إلى إعلانها الانضمام إلى جنوب أفريقيا في دعواها ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدوليّة.

وعلى المستوى العالمي، سرعان ما تهاوت السردية الإسرائيلية بشأن ما حدث يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، بعدما اطلع العالم على حقيقة ما حدث، ثم شاهد الوحشية الإسرائيلية البالغة في قتل المدنيين في قطاع غزة.

هذه الوحشية قادت إلى مظاهرات واسعة الطيف في أوروبا والولايات المتحدة ودول أميركا اللاتينية وبقية دول العالم؛ رفضًا للعدوان الإسرائيلي، وتأييدًا للحق الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة.
مظاهرات التأييد – التي لم تتوقف حتى الآن – لم تقتصر على الشارع فقط، بل امتدت إلى الجامعات، خاصة الأميركية، وتابعنا كيف زاحمت السردية الفلسطينية الرواية الصهيونية، بل وتغلّبت عليها لأوّل مرة تقريبًا.

وعلى المستوى الدبلوماسي، اعترفت دول أوروبية، مثل: أيرلندا، وإسبانيا، والنرويج، بدولة فلسطين، فيما أعلنت كولومبيا قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل.
وفي الأمم المتحدة وافقت الجمعية العامة في مايو/ أيار الماضي بأغلبية ساحقة على دعم المساعي الفلسطينية لتصبح دولة كاملة العضوية في المنظمة الأممية.

كل هذه التطورات التي صبّت في صالح القضية الفلسطينية، لم تكن لترى النور لولا “طوفان الأقصى”، الذي أعاد التذكير بحق الشعب الفلسطيني في المقاومة ضد الاحتلال، باعتباره حقًا أصيلًا أقرته المواثيق الدولية.

لكن..
ونحن نتحدث عن تأثيرات الطوفان، والتي نتابع فصلًا منها الآن في لبنان، الذي يتعرض لغزو بري إسرائيلي، يجب أن نتذكر أن بطل هذه المحطة من محطات التحرير هو الشعب الفلسطيني، الذي دفع فاتورة ذلك عبر عشرات آلاف الشهداء والمصابين، وتدمير شبه كامل لقطاع غزة، في مجزرة وحشية لم تنتهِ وقائعها بعد.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version