ليس من التهويل القول؛ إن العالم يعيش أزمة حادة، أزمة قيم وأخلاق تنذر بالدمار والانهيار. فبينما يقف عاجزًا عن إقرار السلم ومنع الإبادة ونصرة الضعيف ولجم القوي، وبينما تتمادى شركات التكنولوجيا العظمى في التنافس من أجل الاستحواذ على عقل الإنسان، والتحكم في عواطفه وذاكرته، يجد العاقل اللبيب نفسه في حيرة، عاجزًا عن تَبيُّن المعنى وراء حركات وسكنات النخب السياسية والاقتصادية والقانونية والثقافية التي يناط بها تحسين أوضاع العالم والسهر على شؤون العالمين.

لا جدال في أن أحوال العالم اليوم تورث الإنسان العاقل قلقًا كبيرًا. ولعل مصدر هذا القلق هو شعور دفين بوجود علاقة تلازم بين الفساد الأخلاقي ونهاية العمران، وهو شعور يكرّسه، في المقام الأول، اعتقاد ديني راسخ في أن الله لا محالة سيدمّر الحضارة متى ما قطعت صلاتها بالأخلاق والقيم العظمى؛ كما يزكّيه الوعي التاريخي بما آلت إليه الحضارات السابقة من أفول بعد تنكرها لهذه الأخلاق والقيم.

تَروج في الكتابات الألمانية والنقاشات داخل ألمانيا عبارة تقول: «أوضاع تشبه أوضاع روما القديمة» (Zustände wie im alten Rom)، وهي عبارة يُتلفَّظ بها أمام مظاهر غير مقبولة من الناحية الأخلاقية، للدلالة على أن في هذه المظاهر ما يؤشر على انهيار حضاري وشيك، يذكر بانهيار روما في الماضي.

بل إن من الكتابات من يذهب إلى حد أبعد، إلى درجة الربط بين الفساد والترف والكوارث الطبيعية. هذا ما يفهم من رواية «بومبي» (Pompeii) لـِ«روبيرت هاريس» (Robert Harris)  التي هي، مثل باقي رواياته، محاولة للنظر في التاريخ نظر اعتبار وتفكر. حيث لا يَسَع قارئ «بومبي» إلا أن يربط بين انفجار البركان الذي حوَّل المدينة إلى أثر بعد عين، والبشر إلى حجر، وبين فساد أعيان المدينة الأخلاقي.

تجابهنا كتابات كثيرة يعبر أصحابها عن قلق مقيم بين معاصرينا، منشؤُه الخوف من أن تتفاقم أوضاع العالم اليوم لتؤول إلى كوارث بيئية، أو حروب نووية، أو أوبئة فتاكة، أو تمرد الآلات التكنولوجية على الإنسان. فما أحوجنا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى طرح السؤال الذي طرحه من قبلنا عدد من المفكرين والأدباء والعلماء: «إلى أين نحن ذاهبون؟»، أو «كم من الوقت نحتاج حتى ندرك أننا ضللنا الطريق؟».

أمام تكدّر صفو العالم اليوم تجد الإنسان حيرانَ، يطلب المعنى من عوالم التواصل الاجتماعي الافتراضية، فلا يزيده انغماسه في هذه العوالم إلا تيهًا وضلالًا. وهذا ما يبعث على الاعتقاد بأن الأدوات التكنولوجية المستعملة في تسهيل التواصل بين الناس وتكثيفه وتسريع وتيرته غير قادرة على توصيل المعاني الكبرى التي يسترشد بها هذا الإنسان في الوجود وفي الكون.

يوضّح الباحث «ميشل ديميرغي» (Michel Desmurget) في كتابه القيم عن «صناعة الإنسان الرقمي السفيه، أو التافه» (La Fabrique du crétin digital)، مدى خطورة الشاشات على الأطفال، أي على إنسان الغد. نفهم من دراسته العلمية القيمة أن أنماط التشابك مع العوالم الرقمية اليوم تورث النفس الإنسانية من القلق، أكثر مما تورثها من السكينة، وتورث العقل الإنساني من الغموض، أكثر مما تورثه من الوضوح.

إن مبتغى «ميشل ديميرغي» من وراء هذه الدراسة هو صياغة دعوى مفادها أنّ الصنفين من الإنسان، اللذين تبشر بهما التكنولوجيا اليوم، أي «إنسان التواصل» (Homo mediaticus) و «الإنسان الرقمي» (Homo numericos) هما أقرب إلى الغفلة منهما إلى اليقظة، إذا لم يزدهما صبيب الصور المتدفق أمام العين تَيْهًا فلن يزيدهما إرشادًا. نستنتج من هذه الدراسة أن لمنظومة التواصل التكنولوجية وللرقْمنة آثارًا سيئة على نفوس وعقول الأجيال الصاعدة.

تدفعنا الدراسة العلمية التي أجراها «ميشل ديميرغي» إلى التفكير في طبيعة هذه الأصناف من البشر: هل هي أصناف ترتقي بالإنسان درجات في سُلم الإنسانية، نحو الكمال، أم تنحدر به دركات في هذا السلم؟ عند التأمل، نجد أن منظومة التواصل التي أرست قواعدها التكنولوجيات الذكية تجلب آفات ومضرات كثيرة. منها أنها تهدم المعنى الذي يقوم عليه التواصل أساسًا.

إذا كان الأصل في التواصل أنه تفاعل، أي توصيل وتوصُّل، فإن المنظومة التواصلية التكنولوجية تخرجه من هذا التفاعل، لتدفع به في اتجاه أن يكون مجرد فعل تَوصيل. إن امتلاك الأداة التكنولوجية يجعل الإنسان يتوهّم من نفسه القدرة على توصيل محتواه إلى العالمين؛ ومن كان منطلقه هذا الضرب من الشعور الواهم، فهو لا ينتظر أن يتوصّل بمحتوى، بقدر ما هو يستجدي الإعجاب فقط، ذلك أنه يستحيل أن يتواصل الفرد الواحد مع عدد لا يحصى من الأفراد. قد يتواصل الزعيم السياسي أو الواعظ الديني، أو الفنان المبدع مع الجماعة في الفضاء العمومي التقليدي، لكن أن يتواصل الفرد العادي مع عدد كبير من الأفراد تواصلًا بمعنى التفاعل، فهذا من قبيل المستحيل.

لقد حوّلت المنظومة التواصلية التكنولوجية مجال التواصل إلى فضاء لإثبات وجود الذات. لذلك نجابه في هذا الفضاء بأفراد يطلبون التميز بتقاسم محتويات غريبة تبلغ بهم مرتبة الشذوذ؛ كأن يتقاسم الإنسان صوره الحية وهو يطوف بالكعبة، أو أن يعرض صور الأطباق التي يأكل، أو ما شابه ذلك من المشاهد التي لا تعكس سوى رغبة في تحقيق الذات وإثبات الوجود.

هذا حين يكون الفرد المتواصل في وضع المُوَصِّل، أما حين يكون في وضع الْمُوَصَّلِ إليه، الذي يتلقى عددًا لا حصر له من محتويات الآخرين، ففي هذه الحالة يكتفي بتقليب الصفحات وتسجيل الإعجاب وهو عاجز عن التفاعل مع كل المحتويات تفاعل المتواصل الذي يأخذ ليعطي، ويسمع ليتكلم، ويتَوصّل بمعنى ليُوصِّل معنى. لقد حولت منظومة التواصل التكنولوجية التواصل إلى مجرد بحث عن سبل التأثير، فبرزت إلى السطح فئة «المؤثرين»، من يطلبون الاستحواذ على أوقات الآخرين وعقولهم وعواطفهم.

ومع هذا الوضع تزيد الأفهام ضلالًا، ويزيد الإنسان تيهًا في الوجود الأصيل الطبيعي الفطري. بقدر ما يتوهم «إنسان التواصل» أن بمقدوره التواصل مع العالمين، يتوهم «الإنسان الرقمي» كذلك أن سرعة الأدوات الرقمية تزيده سرعة في استيعاب ما يحصل عبر العالم؛ والحاصل أنه أعجز ما يكون عن معالجة ما يصله من معلومات لا ينضب صبيبها. فهو لا يستوعب من هذه المعلومات إلا ما يريده الساهرون على المنظومة التواصلية استيعابه.

الإنسان الرقمي أم الإنسان البياني

ولقد وجدتني، وأنا أقلب النظر في مظاهر عجز «إنسان التواصل» و «الإنسان الرقمي» عن إدراك المعاني العظمى في الوجود، أفكر في «الإنسان البياني»، هذا الكائن الذي يتحدث عنه القرآن الكريم قائلًا: «الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان». تخبرنا هذه الآية الكريمة أن الله – سبحانه وتعالى – قد أودع خاصية البيان في الإنسان، والبيان هو القدرة على التَبْيين والتَبَيّنُ، مثله مثل التواصل الذي معناه القدرة على التوصيل والتوصَّل.

غير أن قراءة باقي آيات سورة الرحمن تجلي لنا أن البيان المقصود يستقل بمعانيه عن معاني التواصل كما هي مقرّرة في سياقنا اليوم. بعد الإشارة إلى خاصية البيان التي وهبها الله للإنسان، تأتي الآيات الأخرى لتذكر بأنّ «الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، والسماء رفعها ووضع الميزان». وفي هذا التّذكير ما يفيد بأن البيان المقصود غير منفصل عن النظر في ظواهر الكون الطبيعية، هذه الظواهر التي تجلي دقة في تقدير العلاقة بين الشمس والقمر وسجود النجم والشجر وارتفاع السماء.

نستشعر من هذه الآيات أن الكائن البياني كائن غير مقطوع الصلة بالكون، بل كائن يَتَبَيّن مكانته في هذا العالم الشاسع المعطى، قبل أن يُبيِّن لغيره. فالكائن البياني، على عكس الكائن التواصلي والكائن الرقمي المذكورين، لا يصدر في طلبه التفاعل، أي التبيين والتبين، من عوالم نفسية مستغلقة على الكون الفسيح، فضاء الوجود الطبيعي. لا يصدر عن الهوية النفسية- الاجتماعية الضيقة (psycho-social) التي يعتبرها علماء النفس مصدر كل الأمراض والعقد؛ بل يصدر عن هوية كونية- شعرية   (cosmo-poetic) منفتحة، متفاعلة مع الكون واللغة.

يقول ابن الرومي في أحد أبياته:

ولقد سئمت مآربي فكأن أطيبها خبيث          إلا الحديث فإنه مثل اسمه أبدًا حديث

ما أحوجنا اليوم – ونحن نرزح تحت وطأة منظومة تواصلية رقمية تساهم في تشظي المعاني العظمى المرتبطة بالوجود الأصيل، وتحد من آفاق إدراكنا للأبعاد الكبرى – إلى ضرب من الأحاديث تحدث شعورنا بهذا الوجود، عوض أن تلقي بنا في عوالم نفسية ضيقة ومبهمة.

فلعل من يجلس تحت شجرة لساعات وهو يتأمل في أصل كلمة واحدة أو كلمتين، أو يقرأ بيتًا من الشعر أو بيتين، أو يصغي إلى الصمت من حوله، لعل هذا الكائن أعمق فهمًا وإدراكًا من غيره من يقضي يومًا وهو يقلب صفحات الفضاءات التواصلية الرقمية بحثًا عن معانٍ لا تُدْرَك.

ليس من التهويل القول؛ إن المنظومات التعليمية والتربوية الواقعة اليوم تحت تأثير أيديولوجيا التواصل التكنولوجي والرقمي ماضية في قطع صلات الإنسان بالإنسان، وقطع صلات الإنسان بالطبيعة. نحن نبتعد عن التعليم بوصفه علامات تدل المُتعَلِّم على العالم، مكان الوجود الطبيعي، ونتجه باتجاه منظومة تعليمية تحجب المتعلم عن النظر في العالم الحقيقي لتزجّ به في عوالم افتراضية وواقع مبرمج مدمج.

إن انسياق المنظومة التعليمية والتربوية وراء مد المنظومة التكنولوجية الجارف يبشر بعهد جديد، عهد كائنات تواصلية رقمية نصفها إنسان ونصفها الآخر آلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version