في مجال دراسة اللغة وتحليل الخطاب، نشأت مدارس فكرية متعددة تهدف إلى فهم أعمق للتواصل اللغوي. من بين هذه المدارس، برزت البنيوية الشكلية والتداولية نهجين رئيسيين قدما رؤى متباينة حول كيفية دراسة وتحليل اللغة.

درست البنيوية الشكلية الخطاب في بعده اللغوي، بعيدا عن مقام التلفظ أو السياق الكلامي أو التواصلي (ملابسات النص أو ظروف إنتاج الخطاب)، ثم جاءت التداولية لتسد الثغرة وتستدرك الخلل. لا يفهم من ذلك بحال أن التداولية تقتصر على مجرد معالجة السياق، إذ عالجت قضايا عدة من بينها أغراض المتكلم ومقاصده الضمنية، الأفعال الكلامية، الاستلزام الحواري، مضمرات الخطاب، والافتراضات المسبقة، والمسكوت عنه في الحديث، ودراسة العلاقات المتبادلة بين المرسل والمستقبل… إلخ.

ودراسة الإشاريات من بين اهتمامات التداولية، وتعد مفهوما لسانيا يعمل داخل العناصر اللغوية، ويصنّف ضمن الموضوعات القديمة المتجددة، ولهذا سنجمع خلال معالجة هذا المفهوم بين أقوال القدماء والمحدثين.

مصطلح الإشاريات في التحليل اللغوي

سميت الإشاريات بهذا الاسم لأنها تشير إلى شيء محدد، وهي في عمومها لها دور نحوي ووظيفة دلالية. إذ تمثل الإشاريّات روابط دلالية لا تتحدد مراجعها إلا بتعيين طرفي الخطاب (المرسل/المتلقي)، ولا تنعزل بأي حال عن السياق الكلامي تأسيسًا على أن السياق هو العمود الفقري للخطاب، وهو الذي يؤطر مقاصد المتكلم، والقصدية جزء لا يتجزّأ من النصيّة وواحدة من مقوّماتها.

إعلان

الإشاريات وحدات لغوية متنوعة الدلالة، متغيرة بتغير السياق، تستعمل دلالة على التأشير، وهو فعل الإشارة من خلال اللغة، بأي صيغة من صيغها المعهودة بقصد التلويح ولفت الانتباه، وقد أفسحت الفلسفة المعاصرة للغة المجال للتركيز على الإشاريات، فدخلت مؤخرًا حيز الاهتمام بوصفها آلية من آليات التّحليل اللساني، وهو ما يعني أنها تقنية جديدة في الدرس التداولي المعاصر، ويعد تشارلز ساندرس برس Charles Sanders Peirce أول واضع للإشاريات.

من نافلة القول أن مصطلح الإشاريات -كغيره من المصطلحات- يدور على الألسنة بأسماء عدّة، وهذا مرده -في الأغلب الأعم- إلى الترجمة، فتجد “الإشاريات” في كثرة كاثرة من المصادر، وفي بعضها “إشارات”، وبخصوص الصيغ اللغوية تجد من يقول “التعبير الإشاري”، ومن يجمعه فيقول “التعابير الإشارية”، أو “العناصر الإشارية”، ومن يستعمل “التأشير” أو “المشيرات النصية”، وحولها ندندن.

ابن منظور هو أديب ومؤرّخ وعالم في الفقه الإسلامي واللغة العربية، ومن أشهر مؤلّفاته معجم “لسان العرب” (الجزيرة)

من منظور لغوي، يقول ابن منظور (ت 711هـ) في الجزء الرابع من “لسان العرب” ضمن مادة “ش و ر”: “أشار عليه بكذا: أمره به، وأشار الرجل يشير إشارة: إذا أومأ بيديه، ويقال شورت إليه بيدي، وأشرت إليه، أي لوّحت إليه وألحت أيضا، وأشار يشير إذا ما وجّه الرأي، وشاورته في الأمر واستشرته بمعنى”.

والإشارة إيماء أو رمز -باللغة أو حركة أعضاء الجسد- لشيء ما، ومنها قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي (ت 93هـ):

أَشَارَتْ بِطَرْفِ العَيْنِ خِيفَةَ أَهْلِهَا * إِشَارَةَ مَحْزُونٍ وَلَمْ تَتَكَلَّمِ

فَأَيْقَنْتُ أَنَّ الطَّرْفَ قَدْ قَالَ مَرْحَبًا * وَأَهْلًا وَسَهْلًا بِالحَبِيبِ المُتَيَّمِ

وليس عجبا أن يأخذ صاحب “البيان والتبيين” الإشارة بعين الاهتمام، فيجعلها واحدة من “الأنساق البيانية غير اللغوية”، وفي “الخصائص” وبتعبير ابن جني (ت 391هـ) فإن “حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”.

إعلان

من منظور اصطلاحي، يعرّفها ولفنسون Wolfensohn على أنها “ألفاظ دالة على عناصر غائبة حاضرة”، ويعرّفها جورج يول George Yule تعريفات عدة، منها ما يتسق مع الإشاريات، كقوله “التداولية دراسة المعنى السياقي”، وقوله “التداولية دراسة المعنى كما يقصده المتكلم”، وكذلك “التداولية دراسة كيفية إيصال أكثر مما يقال”، وهي حسب تعريف تشارليز موريس Charles Morris تُعنى بدراسة الضمائر والزمان والمكان والمقام الذي يجري فيه التواصل.

الهولندي هانسون Hanson أول من قسم التداولية إلى ثلاث درجات، مما يعني أن التداولية شهدت تطورا متناميا متدرجا (رأسيا أو تصاعديا)، وليس على مستوى أفقي. ووفق هانسون، فإن الإشاريات تداولية من الدرجة الأولى، وتمثل إشارة إلى العناصر المبهمة أو الغامضة وظروف استعمالها، فضلا عن السياق، ويمكن من خلالها تحليل الخطاب تأسيسا على أنها علامات لغوية مبهمة المعاني وموجّهة؛ تحمل في داخلها صفة العلامة، وتوجه القارئ إلى مقصد المتكلم.

Charles Peirce (1839-1914). American Physicist, Mathematician, And Logician. Oil Over A Photograph, N.D.
الفيلسوف وعالم المنطق تشارلز ساندرس برس هو أول واضع للإشاريات (شترستوك)

أهمية الإشاريات في النحو والتداولية

لا تفيد الإشاريات معنى خارج السياق الذي وردت فيه، وبهذا تلتقي مع الأدوات النحوية، إذ قال النحاة القدامى إن الأدوات لا تدل على معنى في نفسها، وإنما تأخذ دلالتها ومعناها من خلال الجملة، والضمير يشبه الحرف في عدم دلالته على معنى في نفسه وحاجته لما يفسره. في الجملة، درس النحو العربي الكلاسيكي جانبا واحدا من الإشاريات، أي الأدوات، وهي التي تربط أجزاء الجملة ودلالتها. نجد سيبويه (ت 180هـ) يطلق تسمية “المبهمات” على أسماء الإشارة، وأضاف إليها ابن يعيش (ت 643هـ) الأسماء الموصولة، ولعلنا نستثني هنا عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ)، الذي قدم في “دلائل الإعجاز” ما لم يسبق إليه، وسيأتي تفصيل ذلك في مقال لاحق.

إعلان

في السياق التداولي لا يقف دور الإشاريات عند الظاهر منها، بل يتجاوزه إلى البنية العميقة، مما يكسبها أهمية في إستراتيجيات الخطاب. ولعل من المفيد الاستطراد السريع إلى البنيتيْن السطحية والعميقة للنص، ومجمل القول أن لكل جملة من جمل النص بنية سطحية وأخرى عميقة، وقد تتطابق هذه مع تلك، وعليه فلا حاجة إلى تطبيق قواعد تحويلية للانتقال من البنية العميقة إلى السطحية، أما الجمل التي تختلف بنيتها السطحية عن العميقة فيطلق عليها “التراكيب المحولة”، وفيها تبرز عناصر التحويل مثل الحذف والإضافة والرتبة، وسياتي تفصيل ذلك في مقال مستقل.

ولا يكاد يخلو كلام من إشاريات، لذلك يقول بارهليل Bar-Hillel إن “90% من التلفظات التي ننطق بها في سياق أحاديثنا اليومية تلفظات إشارية”، وهي نسبة كبيرة جدًّا، لعلّها تحمل قدرا من المبالغة من جانب، لكنها -من جانب آخر- تشي بأهمية الإشاريات.

ربما يعضد جورج يول ما ذهب إليه بارهيليل، فيقول إنها “أولى الصيغ التي ينطق بها الأطفال، وتستعمل في الإشارة إلى الأشخاص عبر التأشير الشّخصي (أنا وأنت)، أو إلى المكان بواسطة التأشير المكاني (هنا وهناك)، أو إلى الزمن من خلال التأشير الزماني (الآن، آنذاك)، وتعتمد هذه التعابير كافة على متكلم ومستمع، يشتركان في سياق واحد”.

وَفق ما سبق، قسّم يول الإشاريات إلى ثلاثة أنواع؛ شخصية وزمانية ومكانية (زمكانية)، ثم جاء آخرون -منهم ولفنسون- فأضافوا إليها نوعين آخرين؛ إشاريات اجتماعية وإشاريات خطابية أو نصية، وإن كانت مصادر كثيرة تقتصر على أربعة أنواع منها فحسب، أي بإهمال الإشاريات الخطابية. كذلك يفرق يول بين الإحالات الدلالية والإحالات الإشارية؛ فإحالة الدوال على مدلول إحالة تلازم، أما إحالة الإشاريات إلى مسمياتها فإحالة موقف.

وفي السطور اللاحقة، سنعرض لتقسيم الإشاريات بشيء من التفصيل.

تُعتبر الإشاريات من أولى الصيغ التي ينطق بها الأطفال، حيث تُستخدم للإشارة إلى الأشخاص من خلال التأشير الشخصي مثل “أنا وأنت” (الجزيرة-فايرفلاي)

الإشاريات الشخصية

هي عناصر لغوية تستخدم للإشارة إلى الأشخاص في الخطاب، مثل الضمائر والأسماء، وهي موجودة على مستوى البنية السطحية أو العميقة للخطاب، وهي بتعبير ميلنر Milner “فاقدة للاستقلالية الإحالية”، لأنها عاجزة بمفردها عن تحديد إحالتها عند الاستعمال. أي أنها تعتمد على السياق لتحديد معناها ولا تستطيع استخدام تحديد مستقل بدون سياق.

إعلان

ويوجد خلاف تداولي بشأن الضمائر، فهناك فريق يرى أن الإشاريات الشخصية تضم جميع الضمائر المتصلة منها والمنفصلة والمستترة وجوبا أو جوازا، وبعض التداوليين يستثني ضمائر الغَيبة، وبتعبير ولفنسون فإن ضمائر الحضور الدالة على المتكلم والمخاطب “أوضح العناصر الإشارية الدالة على الشخص”.

الحضور حضور تكلم أو خطاب، يقابله الغياب، أو حضور إشارة كأسماء الإشارة، أو يكون حضورا ذهنيا مثل أل العهدية، أما الغياب فيكون شخصيا ممثلا في الضمير “هو” وتنويعاته، أو غيابا موصوليا ويعبر عنه “الذي” وما يتفرع عنه.

الإشاريات في عمومها، والشخصية منها خاصة، لها دور أساسي في بيان القصد والإنجاز، وتتفرع الإشاريات الشخصية إلى الضمائر، وأسماء الإشارة، والأسماء الموصولة، والنداء، وأل العهدية.

  • أولا: الضمائر

الضمائر عناصر أو أشكال لسانية فارغة المحتوى، فارغة من الناحية المرجعية، وليس من الناحية الدلالية، ومن ثم فهي تتناسب مع كل متكلم، لا تدل على معنى في ذاتها، و”لا تدل على شيء بعينه إلا بضميمة المرجع”، فضلا عن تحقيق الحضور المكاني. ويحمل الضمير وظيفتين أساسيتين؛ رفع الالتباس عمن أسند إليه الفعل اللغوي، والاختصار في الكلام بحضور من يرجع إليه الضمير حضورا واقعيا أو ذهنيا، وتعيين المتكلم والمخاطب، وعدم التكرار.

على سبيل الذكر الضمير “أنا” له دلالة تختلف عن الضمير “أنت”، لكن السياق يحدد المقصود بهما، فربما يستعمل شاعر “أنت” في قصيدة مناجاة، يحدّث فيها نفسه، وهذا ما يعرف بـ”قصيدة التخارج”، أو التجريد، وهو أن يجرّد المرء من نفسه شخصا آخر متصفا بالصفة ذاتها، وفي ذلك التفات على طريقة البلاغيين، وأين أنت من التفاتات جرير:

أَتَنْسَى إذْ تُوَدِّعُنَا سُلَيْمَى * بِفَرْعِ بَشَامَةٍ؟ سُقِيَ البَشَامُ!

كما أن التجريد يعطي المتكلم مرجعية سلطوية أو مؤسساتية. من ثم يجب الرجوع إلى مقام التلفظ وملابساته لفهم المرسل والمتلقي، ومقصدية المتكلم ومضمرات قوله، وتلمّس مدى قدرة المتلقي على التأويل، وغير ذلك.

إعلان

تشمل الضمائر عناصر إشارية إلى الذات المتلفظة/ المتكلم (أنا، نحن) أو المخاطَب (أنت، أنتما، أنتم، أنتن)، وقد يكون المخاطب حاضرا حضورا فعليا، أو أن المتكلم يستحضره وقت الخطاب، كذلك فإن المراجع الخارجية (الذهنية) للضمائر غير ثابتة، لا سيما ضمائر المتكلم والمخاطب؛ لأنها لا تحيل إلى مذكور سابق، ويتطلب استعمالهما معرفة قوية بهُوية طرفي الخطاب.

الضمائر في سياق النص المكتوب معرفة لأنها تحيل إلى المرجع، أما في سياق التلفظ فتكون مبهمة في غياب قرائن محددة لها، ومع ذلك فضمائر المتكلم أقل أشكال الضمائر إشكالا في تحديد مرجعها، إذ تدل على منشئ الخطاب، ولا يتطلب تحديدها آليات استدلال مقارنة بضمائر المخاطب والغائب.

التعبير بضمير المتكلم يحمل أهم ميزة أسلوبية عند التعبير عن الحيرة والقلق، ولأن المتكلم هو الذات المحورية في إنتاج الخطاب، فليس بدعا أن يكون ضمير المتكلم المهيمن فيه، ومن بعده ضمير المخاطب، ثم -بدرجة أقل- ضمير الغائب. لكن يجب أن تكون هيمنة ضمير المتكلم معقولة ومقبولة، كيف؟!

اللسانيون يطلقون على ضمير المتكلم تسمية “الشخص الأول”، وعلى ضمير المخاطب “الشخص الثاني”، وعلى ضمير الغائب “الشخص الثالث” (شترستوك)

للإجابة عن هذا السؤال، نسترشد بمثالين على درجة من المغالاة والتطرف؛ ففي “خمسون عاما في قطار الصحافة”، أورد موسى صبري قصة موجزها أن عبد الكريم قاسم قال “أنا” 360 مرة في اجتماع رسمي مع وفد يمني!
لم أشهد هذا الاجتماع، لكنني شاهدت خالد الإعيسر وزير الإعلام السوداني، في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أثناء مقابلة تلفزيونية مع أحمد طه على الجزيرة مباشر. خلال اللقاء قال الإعيسر “أنا” 104 مرات! سرعان ما تزول دهشتك إذا علمت أن لقاء قاسم كان 180 دقيقة، وأن لقاء الإعيسر كان 75 دقيقة، وبحسبة بسيطة لو امتد لقاء الإعيسر لانتزع الرقم القياسي من قاسم دون كبير عناء! لن أضيف إليهما الخالد الذكر والمنظّر الوجودي صنّاجة الطرب الشعبي عبد الباسط حمودة، فإنه يستأهل مجلّدا قائما بذاته.

إعلان

فإن سألت: لماذا لا يصرح المتكلم بـ”أنا” في كلامه دائما؟ قبل الإجابة سأطلب منك مشكورا أن تحذف كلمة “دائما”، تأسيسًا على ما بدر من قاسم والإعيسر والقدير حمودة ومن لفّ لفّهم، وبالعودة إلى سؤالك في صيغته الجديدة: لماذا لا يصرح المتكلم بـ”أنا” في كلامه؟ فالجواب أنه يعول على وجوده بالقوة من خلال كفاءة المتلقي أو مستقبل الخطاب، إذ يعتمد التأويل على معرفة المتكلم أو الباث بشكل كاف، ليتسنى له التأويل المناسب لخطابه، لا سيما أن المعرفة أسيرة أدواتها، والتأويل كذلك. وكذلك، فإن عدم وجود صورة المخاطب لا يعني غيابه، لأن النص موجّه بالضرورة إلى مستقبل أو متلقٍّ بوصفه ركنا ركينا في العملية التواصلية.

يُطلق اللسانيون على ضمير المتكلم تسمية “الشخص الأول”، وعلى ضمير المخاطب “الشخص الثاني”، وعلى ضمير الغائب “الشخص الثالث”، ويسميه جون سيرفوني Jean Cervoni “اللاشخص”، وهذه التسميات معكوسة في عرف الهنود؛ فالغائب الشخص الأول، والمتكلم الشخص الأخير!

أوضح آن روبول Anne Reboul أن “الضمائر لها نتائج متعددة”، لا سيما ضمائر الغَيبة التي تمثل عددا لا يُحصر من الأفراد نظرا لغموضها، واستبعد بعض التداوليين ضمائر الغَيبة من الإشاريات، واشترط آخرون ألا يفهم مرجعه خارج السياق وإلا خرج من نطاق الإشاريات، وينفي إميل بينفنيست Emille Benveniste الصفة الإبهامية عن ضمائر الغَيبة، ويراها تحيل إلى شيء موضوعي، ومن الباحثين في اللغات السامية من رأى أنها ليست من الضمائر مطلقا، وإنما من أسماء الإشارة!

عند النحاة، تبقى إشكالية ضمير الغائب قائمة، فتجد ابن يعيش يقول في الجزء الثالث من شرح المفصّل “واعلم أن المضمرات -وإن كانت أعرف المعارف- إلا أنها تتفاوت أيضا في التعريف، فبعضها أعرف من بعض؛ فأعرفها وأخصّها ضمير المتكلم، نحو أنا، والتاء في فعلتُ، والياء في غلامي وضربني، لأنه لا يشارك المتكلم أحدٌ فيدخل معه فيكون ثَمّ لبس، ثُمّ المخاطب، وإنما قلنا: إن المخاطب منحطٌّ في التعريف عن المتكلم لأنه قد يكون بحضرته اثنان أو أكثر، فلا يُعلم أيهم يخاطب، ثم الغائب، وإنما انحط ضمير الغائب عنهما لأنه قد يكون كناية عن معرفة وعن نكرة، حتى قال بعض النحويين إن كناية النكرة نكرة، ولذلك أجازوا: ربّ رجلٍ وأخيه؛ فهذا ترتيبها في التعريف فاعرفه”.

إعلان

وفي تقسيمات النحاة، الضمائر متصلة ومنفصلة، وتنقسم أيضا إلى وجودية وملكية، فالوجودية منها تتمثل في ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب، والملكية منها ما دل على امتلاك الشيء كقولك: كتابي، كتابك، كتابنا، كتابهم.

في مفتاح العلوم، قال السكاكي (ت 626هـ) “اعلم أن الضمير عبارة عن الاسم المتضمن للإشارة على المتكلم أو على المخاطب أو على غيرهما بعد سبق”، ثم يضيف “ينقسم على قسمين من حيث الوضع؛ قسم لا يسوغ الابتداء به ويسمى متصلا، وقسم يسوغ فيه ذلك ويسمى منفصلا”، وتحت عنوان حدّ المضمر، يقول ابن الحاجب (ت 646هـ) في أماليه “المضمر ما وضع لمتكلم أو مخاطب أو غائب تقدم ذكره معنى أو لفظا أو حكما”. التقدم اللفظي معروف، بأن يتقدم لفظ المرجع الذي يحيل إليه الضمير، أما تقدم المعنى فيكون بعدم ذكر اللفظ وإنما يعرف بقرائن لغوية وغير لغوية، وتقدم الحكم يكون قياسا أو سماعا.

والإحالة نوعان؛ مقامية أو خارجية وهي إحالات خارج النص، ونصية أو داخلية أي إحالات داخل النص، تنقسم إلى نوعين؛ إحالة إلى سابق وإحالة إلى لاحق. الإحالات المقامية تحيل إلى ما ليس مذكورًا مطلقًا، ونتوسّل بالسياق لبلوغ مقصد المتكلم، من ذلك قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، وقوله جلّ من قائل {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}، وقوله تبارك اسمه {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}، وفي الأمثال العربية نجد لها أمثلة لا تُحصر، كقولهم “أُكِلتُ يوم أُكِل الثّور الأبيض”، “إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة”، “ما وراءكَ يا عصام”، “أطرّي فإنّكِ ناعلة”، “لا في العِير ولا في النّفير”. وهذه الأمثال وغيرها لا يُتوصّل إلى المراد منها بإغفال السياق المعبّر عن “مورد المثل”، وهو القصة التي شهدت ميلاد المثل.

ومن أمثلة الإحالة المقامية في دنيا القريض قول الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم في معلّقته الشهيرة:

وَنَحْنُ إِذَا عِمَادُ الْحَيِّ خَرَّتْ * عَلَى الْأَحْفَاضِ تَمْنَعُ مَنْ يَلِينَا

والموقف على جسر الرصافة، حين قال الشاب: رحم الله أبا العلاء! فردت عليه فتاة وقد أدركت قصده: رحم الله أبا العلاء!

إعلان

وقد عرضنا لذلك تفصيليا في مقال عنوانه “الاستلزام الحواري.. أحد أبرز معالم النظرية التداولية”، وترديد الخليفة العباسي هارون الرشيد “إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدْ”، من قول عمر بن أبي ربيعة:

لَيْتَ هِنْدًا أَنْجَزَتْنَا مَا تَعِدْ * وَشَفَتْ أَنْفُسَنا مِمّا تَجِدْ

وَاسْتَبَدَّتْ مَرَّةً وَاحِدَةً * إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدْ

ردد الرشيد الشطر الأخير مرات ومرات قبيل الفتك بالبرامكة، وقول البهاء زهير (ت 656هـ) في محبوبه:

أَشِر بِذِكرِيَ في ضِمنِ الحَديثِ لَهُ * إِنَّ الإِشارَةَ في مَعنايَ تَكفيهِ

وغير ذلك كثير.

ربما يحل ضمير المتكلم محل ضمير المخاطب، والعكس صحيح، وقد يستعمل المتكلم ضمائر الحضور في الإشارة إلى غائب. الدلالة المقصودة هنا تتمثل في القرب النفسي لهذا الغائب، كأن يتحدث منتج الخطاب عن أمه أو أبيه، أو ابن فقده، أو عزيز صَفِرت عياب الودّ بينهما، وفرّقت الأيام دربهما. ينضاف إلى ذلك أن التنويع بين الضمائر (الالتفات) له من الفوائد البلاغية ما لا يخفى.

  • ثانيا: أسماء الإشارة

تحدد الضمائر مشاركة الشخوص أو غيابها، بينما ترمي أسماء الإشارة إلى تحديد مواقع تلك الشخصيات في الزمان والمكان داخل المقام الإشاري، ولكون أسماء الإشارة تحيل على حاضر وقت الكلام، فإنها تصنّف ضمن ضمائر الحضور.

سبق معنا أن سيبويه أطلق تسمية “المبهمات” على أسماء الإشارة، وفي “شرح المفصل”، قال ابن يعيش “ويقال لهذه الأسماء مبهمات لأنها تشير بها إلى كل ما بحضرتك، وقد يكون بحضرتك أشياء، فتُلْبِس على المخاطب، فلم يدر إلى أيها تشير، فكانت مبهمة لذلك. ولذلك لزمها البيانُ بالصفة عند الإلباس… ومعنى الإشارة الإيماء إلى حاضر بجارحةٍ أو ما يقوم مقامَ الجارحة… فلذلك قال النحويون إِن أسماء الإشارة تتعرّف بشيئيْن: بالعين وبالقلب”.

ولجرير بن عطيّة بن الخطفَى:

ذُمَّ المنازلَ بعد منزلة اللِّوى * والعيشَ بعد أولئك الأيّام

واستعمال أولئك مع الأيام يذكرنا بما مرّ معنا من استعمال ضمير الغائب مع غير العاقل، الشاهد هنا مجيء الأيام وهي غير عاقل بعد أولئك الذي يدخل على العاقل غالبا، من ثم استعمل هذا البيت على جواز دخول أولئك على غير العاقل. في “نقائض جرير والفرزدق” يأتي عجُز البيت بتغيير طفيف، وفيه “والعيشَ بعد أولئك الأقوام”، والأقوام تستعمل للعاقل، ومن ثم فلا يصح شاهدا على الحالة المذكورة.

إعلان

  • ثالثا: الأسماء الموصولة

الأسماء الموصولة من المبهمات، ووَفق ابن يعيش، فهي إنما كانت مبهمة لوقوعها على كل شيء من حيوان وجماد وغيرهما، وصفة الإبهامية تقربها من النكرة، لكنهما يتقاربان ولا يتطابقان؛ يتقاربان في حاجتهما إلى التفسير والتخصيص، ويفترقان في الوسيلة، إذ إن النكرة تخصص وتحدد بالمعرفة، ويزال إبهام الاسم الموصول وعمومه بالصلة، وربطه بالسياق الخارجي أو المقامي.

والأسماء الموصولة معارف بصلاتها بدليل امتناع دخول علامة النكرة “رُبَّ” عليها. ويضيفها الدكتور تمام حسان (ت 1432هـ/2011) إلى ضمائر الغيبة. يُزال إبهام الأسماء الموصولة من خلال قرينة لغوية متمثلة في الصلة والعائد، أو قرينة غير لغوية وهي السياق الخارجي للغة. لا ترتبط الأسماء الموصولة بالصلة نفسها، بما فيها من عائد يتعدد مرجعه، وذلك لغرض يتوخاه المتكلم.

من أمثلة الأسماء الموصولة في الإحالات المقامية قول عروة بن أذنية:

إِنَّ الَّتِي زَعَمَتْ فؤادَكَ مَلَّهَا * خُلِقَتْ هَوَاكَ كَمَا خُلِقْتَ هوًى لَهَا

وقول البهاء زهير:

اقرَأ سَلَامِي عَلَى مَنْ لا أُسَمّيهِ * وَمَنْ بِرُوحِي مِنَ الأَسْواءِ أَفْدِيهِ

وَمَنْ أُعَرِّضُ عَنْهُ حِينَ أَذْكُرُهُ * فَإِنْ ذَكَرتُ سِواهُ كُنْتُ أَعْنِيهِ

النداء له وظائف تبليغية وتواصلية، وقد لا يشير النداء إلى أي مرجع، إنما يسوقه المتكلم لغرض التنبيه (شترستوك)
  • رابعا: النداء

يدخل النداء ضمن الإشاريات بوصفه “ضميمة تشير إلى المخاطب؛ لتنبيهه أو توجيهه أو استدعائه”، ولا يُفهم النداء إلا إذا اتضح المرجع الذي يشير إليه. لا تنحصر القصدية من النداء في التنبيه، إنما تتوسع إلى معان تداولية أخرى يؤطرها السياق، وتعرف بـ”مقتضى النداء”.

من أمثلة هذا النداء قول ربنا عز سلطانه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وقوله تبارك وتعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}، ومنه قول جرير بن عطية بن الخطفَى لرجاء بن حيوة:

يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ * هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَدْ مَضَى زَمَنِي

وقول البهاء زهير:

يا أَحسَنَ النَّاسِ يا مَن لا أَبوحُ بِهِ * يا مَن تَجَنّى وَما أَحلى تَجَنّيهِ

وقول أحمد عبد المعطي حجازي يهجو عباس محمود العقاد:

يَا مَنْ يُحَدِّثُ فِي كُلِّ الأمُورِ * وَلَا يَكَادُ يُحْسِنُ أَمْرًا أَوْ يُقَرِّبُهُ

وقد يراد بالنداء غير المخاطب، حينها يؤدي النداء وظائف تبليغية وتواصلية تدرك بإدراك منشئ الخطاب وحال المخاطب، وقد لا يشير النداء إلى أي مرجع، إنما يسوقه المتكلم لغرض التنبيه، يكثر في ذلك اقتران أداة النداء “يا” بكلمة تمنٍّ مثل ليت، كقول مالك بن الريب التميمي:

أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أبيتَنّ لَيْلَةً * بِجَنْبِ الغَضَا أُزْجِي القِلَاص النَّوَاجِيَا

وقول جميل بن معمر:

أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً * بِوَادِي الْقُرَى إِنِّي إِذًا لَسَعِيدُ

  • خامسا: أل العهدية

إعلان

أل العهدية يشار بها إلى المعهود في الذهن أو الواقع، وهذا المعهود معرفة مشتركة بين المتكلم والمتلقي، وبعض المتخصصين عدّ أل العهدية ضمن ضمائر الغيبة، لتمثل بذلك سبقا مذكورا بين طرفي الخطاب، فكتون أل بمعنى المذكور، أو سبقا ذهنيا لمجرد المعرفة الذهنية العامة، فتكون أل بمعنى المعهود؛ ففي “اجتهادات لغوية”، يقول تمام حسان “وهذا ما يلحقها بضمائر الغيبة، ويبعدها من ضمائر الحضور”.

فوائد تحليل الإشاريات الشخصية في النص

  • أولًا: إزالة اللبس الناتج عن تعدد مرجعية الضمير

قد يقع اللبس في تحديد صاحب الضمير، والمثال الشّهير على ذلك قولهم “ضرب الرجل ابنه لأنه مخمور”، فيسألك سائل: لمن يعود الضمير؟ ويشعر من لا صلة له بالنّحو أن في الأمر غموضا ولبسا، في حين يقرر النحاة مسألة عود الضمير، من ذلك قول أبي تمّام:

ثم انقضت تلك السنون وأهلها * فكأنها وكأنهم أحلام

يلاحظ أن ضمائر الغائب تمثل عددا لا متناهيا من الأفراد، من ثم لا يمكن تعيينها بسهولة مقارنة بضمائر المتكلم والمخاطب، كذلك فإن ضمير الغائب هو الوحيد الذي يستعمل للدلالة على الجوامد فضلا عن العاقل، بينما تعبر ضمائر المتكلم والمخاطب عن العاقل فقط، وإن كانت الأعمال الأدبية تعمد إلى الأنسنة باستنطاق الجمادات وخلع الصفات الآدمية عليها، وذلك من باب الفانتازيا، كرواية خيري شلبي “الشطار”، إذ ترد أحداثها على لسان كلب!

  • ثانيًا: توضيح الأثر البلاغي لتحول الضمائر

هذا يساوي “الالتفات” في البلاغة العربية القديمة، وهذا يسهم في تماسك النص وجذب انتباه المتلقي، وتجديد نشاطه ودفع السأم عنه. قال الزمخشري (ت 538هـ) في الجزء الأول من الكشّاف “الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختص مواقعه بفوائد”، وفي موضع آخر من الجزء ذاته يقول “وهو فنّ من الكلام جزل، فيه هزّ وتحريك من السامع… نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبيه، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء، وأوجدته بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازًّا من طبعه ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف، يستفتح الآذان للاستماع، ويستهش الأنفس للقبول”.

إعلان

ومن أنواع التفات الضمائر الالتفات من التكلم إلى الخطاب، كقول ربنا جل وتعالى {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، وكذلك {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، والعكس -أي من الخطاب إلى التكلم- في قوله عز شأنه {قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ}، أو الالتفات من الخطاب إلى الغيبة كقوله تبارك اسمه {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم}، والعكس -أي من الغيبة إلى الخطاب- في قوله سبحانه {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً}.

ومن أمثلة التفات الضمائر قول الشاعر الجاهلي ربيعة بن مقروم:

بانت سعادُ فأمسى القلب معمودا * وأخلفتكَ ابنة الحرّ المواعيدا

وقول كثيّر عزّة:

أَسِيئي بِنا أَو أحْسِني لا مَلُومَةً * لدينا ولا مَقْلِيّةً إنْ تَقَلَّتِ

وقول فاروق جويدة:

أَحْبَبْتُ فِيكِ العُمْرَ طِفْلًا بَاسِمًا * جَاءَ الحَيَاةَ بِأَطْهَرِ الأثْوَابِ

آيات القرآن الكريم تزخر بأمثلة بليغة على ظاهرة الالتفات في الضمائر، وهي أسلوب بلاغي يضفي حيوية وعمقًا على النص (غيتي)
  • ثالثا: استبدال ضمير الجمع بالمفرد

الأصل في هذا الاستبدال أنه يشير إلى العظمة، ومن ثم فإنه شائع في الكتاب العزيز، يسمى الضمير في هذه الحالة “ضمير العظمة”، ومن أعظم من الله؟! من ذلك قوله سبحانه {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ}، {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ}، {إِنَّا جَعَلۡنَا ٱلشَّیَـٰطِینَ أَوۡلِیَاۤءَ لِلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ}، {إِنَّا لَا نُضِیعُ أَجۡرَ ٱلۡمُصۡلِحِینَ}، {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمۡ نَصِیبَهُمۡ غَیۡرَ مَنقُوصٍ}، {إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ قُرۡءَ ا⁠ نًا عَرَبِیًّا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ}، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، {وَإِنَّا لَنَحۡنُ نُحۡیِۦ وَنُمِیتُ وَنَحۡنُ ٱلۡوَا⁠رِثُونَ}، {إِنَّا كَفَیۡنَـٰكَ ٱلۡمُسۡتَهۡزِءِینَ}، {إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِینَةً لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَیُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلًا}، {وَإِنَّا لَجَـٰعِلُونَ مَا عَلَیۡهَا صَعِیدًا جُرُزًا}، {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً}.

إعلان

يطلق التداوليون على استعمال “نحن” و”نا” الفاعلين “نحن الحاصرة أو القاصرة”. يرى بعض النّاس أن يشير إلى نفسه بضمير الجمع، يشارك في ندوة ما متحدثا عن موضوع بعينه، فينشر عبر صفحاته في مواقع التواصل “تحدّثنا، أشرنا، أوضحنا، قدّمنا”، فإذا عدت إلى تلك الندوة أو المحاضرة وجدته المتحدث الأوحد بها. جاء الاستعمال هنا من باب التفخيم والتعظيم وعلاء شأن المتكلم أو إعلائه، والإشعار بالسلطة والنفوذ، وهو أليق بالحديث عن الملوك والرؤساء وعلية القوم منه بآحاد الناس.

الإشاريات الزمنية

ألفاظ تدل على زمن التحدث والمدّة الزمنية، يُحدد زمنها من خلال السياق التواصلي/الكلامي، وهي الظروف الزمانية؛ فقولك “أمس دخل الثوار دمشق” إشارة إلى اليوم الماضي مباشرة، وقولك “بالأمس دخل الأمويون دمشق” إشارة إلى زمن بعيد، من هنا نفهم ما ألغز إليه ابن عبد السلام في قوله “ما كلمةٌ إذا نكّرت عرّفت، وإذا عرّفت نُكّرت؟”، والجواب أمس! إذ المراد أن أمس تشير زمنيًّا إلى اليوم الماضي مباشرة، وهو ما يعبّر عنه المصريون في لهجتهم بـ”إمبارح”، فإذا دخلت عليها أل التعريف حوّلتها إلى ماض أوسع دلالة، وهو التاريخ في عمومه وجملته.

على النّقيض، تشمل كلمة “غدًا” كلّ آت، فالآملون الحالمون المتفائلون يجترون قالة قراد بن أجدع الكلبي “إن غدا لناظره قريب”، وما زال المحبّون يترنمون مع كوكب الشرق متسائلين: أغدا ألقاك؟! يا خوف فؤادي من غدي! وتقول لابنك “سنذهب غدًا في رحلة إلى البر”، تريد أن يتأهب للرحلة في غضون ساعات، وتقول لزوجك إن طالبتك بشراء معَدّة أو جهاز “غدًا، ربنا يسهل، إن شاء الله”، وهو ما يضاهي قولهم “إن عشنا وكان لنا عمر”، أو بالتعبير المصري “بكرة” يقصدون “ابق قابلني، أو في المشمش”، وفي عرفهم أن “بُكرة زرعوها مطلعتش”، أو بالتعبير الخليجي “أبشر” على ما جرى العرف الحالي، وليس وفق الهدي النبوي. ليس شرطًا أن تستعمل اللفظة بدلالتها المعجمية، بل قد تتوسع دائرتها وتتسع دلالتها لتشمل دلالات أخرى، ولا مناص للمتلقي من تتبع السياق الذي يؤطر دلالة اللفظ ويضيق خناق دائرته ليمسك بتلابيب مقصد المتكلم.

إعلان

بين الأمس والغد يكون اليوم، لكن قول العرب “لكل قوم يوم”، وكذلك قول الأعشى:

شتّان ما يومي على كُورِها * ويومُ حيَّانَ أخي جابر

ليس معناه النطاق الزمني المحدد بـ24 ساعة، إنما مرادهم أنّ لكل قوم عصرا ووقتا -يطول أو يقصر- ينهض بهم ويرفع ذكرهم، بالطبع سيقفز إلى ذهنك الآن أقوام مثل الطاهريين، البويهيين، الحمدانيين، الفاطميين، الحشاشين… إلخ. وفي التنزيل العزيز {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. ومن أقوالهم “لكل شدّة مدّة”، والمدة وشهور السنة وفصولها من الإشارات الزمنية، وقولك “بنات اليوم، أفكار اليوم، حاجات اليوم” يشمل معنى أوسع، فكأنك تقول: بنات عصرنا وأفكاره وحاجاته. هذا التضييق الزمني وما يقابله من التوسيع لا يتحدد إلا عبر السياق التواصلي.

تحت عباءة الإشاريات الزمنية، يوجد نوعان من الزمن؛ الزمن الإشاري -أو المعطى الأولي- يرتبط ارتباطا مباشرا بزمن التلفظ، إذ إنه يضبط بمكان وجود الذات المتكلمة أو زمانها، وعليه يكون الزمن الإشاري لنص ما هو زمن إنتاج ذلك النص، أما الزمن الإحالي -أو الزمن الداخلي- فمرده إلى زمن سابق على الزمن الإشاري، وهو الزمن المتوفر في عالم النص أو الخطاب، وتدل عليه صيغ الأفعال التامة والناقصة، وظروف الزمان، وبعض البنى التركيبية الأخرى.

ينقسم الزمن كذلك إلى زمن كوني (خارجي) وزمن نحوي (داخلي)؛ فالكوني منهما يتمثل في الظروف التي تحيل إلى العالم الخارجي مثل الوقت والزمن. يدخل في نطاقه ما يشير إلى بداية الخلق ونهايته، أو حياة المرء ومماته، ودنياه وآخرته، أو ساعة من يومه وليلته ودهره، وما يُنسج على هذا المنوال. الزمن النحوي بتعبير الدكتور تمام حسان “وظيفة في السياق يؤديها الفعل أو الصنعة، أو ما نقل إلى الفعل من الأقسام الأخرى كالمصادر”، أي الأفعال في صيغ الماضي والحاضر والمستقبل، وتتنوع أغراضها في النصوص بين التذكر والتلهف والحنين والتأسي والترحم والندم على التفريط فيما مضى، والترقب للأماني والأحلام أو الوعد والوعيد… إلخ من التنويعات الوجدانية والحالات النفسية المعبرة عن منتج الخطاب وموقفه من المتلقي.

إعلان

الإشاريات المكانية

هي الظروف المكانية نفسها، وهذه الألفاظ تدل على مكان التحدث، وتُحدد دلالتها وَفق السياق التواصلي/الكلامي. على صفحات “التفكير اللساني في الحضارة العربية”، يقول الدكتور عبد السلام المسدي “والتقرير الأولي والمطرد في هذا المقام هو أن حدث الكلام المنجز مرتهن في حيز المكان؛ انطلاقا من ضرورة المحل لإنجاز الحروف التي هي أجزاء البناء اللغوي إطلاقا، فليس الكلام متعاملا فحسب مع عنصر المكان، وإنما هو حبيس في سياجه”. هذا كلام بديهي، وإلا كيف تفهم قول محمود درويش “أنا من هنا وهنا أنا”؟ فإذا علمت أن قصيدته التي مطلعها “على هذه الأرض ما يستحق الحياة” كتبها في باريس؛ فهل يفهم من ذلك حصرا أنه يقصد فرنسا؟! وإن قال قائل “إن إمام الحرم المكي صديقي”، فهذا لا يحيل إلى مكان وإن ورد فيه “الحرم المكي”، لأن السياق لا يوحي بذلك.

من الإشاريات المكانية: هذا، ذا، ذاك، هنا، هناك، فوق، تحت، أعلى، أسفل، بين، أمام، خلف، جانب، حول، قُبالة، وأكثرها وضوحا “هذا، ذاك”، وتستعملان في الإشارة إلى قريب أو بعيد من مركز الإشارة المكانية، أي المتكلم، ثم “هنا وهناك”، وتشيران إلى القرب والبعد من مكان المرسل.

لا يُفهم من التأشير المكاني أنه محصور في القرب المكاني فقط، إذ يدل على البعد النفسي والحالة الوجدانية. خذ مثلًا قول الجواهري:

والله ما بَعُدَتْ دارٌ وإن بَعُدَتْ * ما أقربَ الشّوطَ من أهلي ومن سكني

ففيه القرب النفسي وإن تباعدت المسافات بينه وبين ذويه ومحبّيه، ومنه قول فاروق جويدة:

تساءلوا كيف تقول: هذي بلادٌ لم تعد كبلادي * فأجبتُ: هذا عتاب الحبّ للأحباب وفي ديوان سابق على ذلك يقول:

وصرختُ والكلمات تهرب من فمي * هذي بلادٌ لم تعد كبلادي

قد تكون الأماكن الواردة في النص حقيقية، تحيل إلى مكان جغرافي معروف، أو مجازية تحيل إلى أماكن متخيلة أو افتراضية أو اعتبارية على سبيل الاستعارة والتشبيه، كما في التشبيهات العربية القديمة مثل “أصفى من عين الديك، أصفى من الغراب”، وكذلك قولهم “تركته على مثل خد الفرس، تركته على مشفر الأسد، تركته على مثل مقلع الصمغة، تركته على مثل ليلة الصدر، تركته على أنقى من الراحة، تركته على مثل شِراك النعل”، وهو كثير في كلامهم.

إعلان

الإشاريات الاجتماعية

ألفاظ تدل على العلاقة الاجتماعية بين المتكلم/المرسل/الباث والمستمع/المستقبل/المتلقي، وتُحدد دلالتها وَفق السياق التواصلي/الكلامي. تستعمل هذه الفئة في بيئة اجتماعية محددة، تعكس أعراف الناس وعاداتهم وتقاليدهم وتفاعلهم فيما بينهم، وتنقسم إلى علاقة رسمية وعلاقة غير رسمية، تتسم العلاقات الرسمية بالانضباط وإخفاء المشاعر، في حين تشيع روح الود والألفة والحميمية في العلاقات غير الرسمية.

ربما تتحول العلاقة غير الرسمية إلى رسمية، كأن يلتقي صديقان أو زوجان في بيئة عمل رسمية (مؤتمر صحفي، اجتماع عمل)، فتبرز السمة الرسمية وتتوارى مؤقتا العلاقة غير الرسمية. تستعمل ألفاظ وصيغ التبجيل (أصحاب الفخامة، صاحب السمو، سيادتك، حضرتك، سعادتك… إلخ) في المعاملة الرسمية.

في عالم الحوارات الصحفية، قد يتعمد الضيف -وإن كان في حديث رسمي- أن يكسر هذه القاعدة، كأن ينادي الصحفي باسمه، وفي ذلك استمالة للصحفي وتقليل من توتر اللقاء، وقد يبدي بعض الإشارات الودودة كأن يُطري سؤالا فيقول: هذا سؤال مهم، هذا سؤال ذكي… إلخ. يتناسب ذلك مع بعض الصحفيين، لكن آخرين لا يستسيغونه، يقولون في دواخلهم “السؤال المهم أو الذكي يتطلب أن تجيب إجابة مماثلة، ولست في حاجة إلى هذه المجاملة، أعرف سلفا أنه سؤال مهم ولذلك طرحته”.

من العلاقات غير الرسمية أن ينادى المرء باسم التدليل، ويحدث أن محبًّا يتعامل مع محبوبه فجأة بشكل رسمي، هو -في هذه الحالة- يستعمل عكس منطق “إذا حلّت الألفة زالت الكلفة”، قد يكون مبعث ذلك جفوة بينهما، أو أنه نوع من العتاب اللطيف، أو غير ذلك، وبتفعيل السياق التواصلي نتوصل إلى الباعث الحقيقي.

الإشاريات يتعذر فهمها خارج سياقها، لذا تتطلب معلومات عن السياق الذي قيلت فيه (بيكسلز)

الإشاريات الخطابية

ترد كخوض المتكلم في قول ما، ثم إتباعه بقول من قبيل “ولكن تلك قصة أخرى، هذه إشارة سريعة إلى”، أو تشير إلى موقف خاص بالمتكلم، كأن يتحيّر في ترجيح رأي على رأي “ليت شعري كيت وكيت، ربما كان في هذا التعليل شيء من الصواب”، أو أن يقطع على وجه اليقين في مسألة “مسألة أعتبرها…، ومهما يكن من أمر، فإني لست أرى هذا الرأي”، أو تعنّ له إضافة شيء إلى ما قال “فضلا عن ذلك”.

إعلان

تستعير الإشاريات الخطابية إشاريات الزمان مثل الشهر الماضي، وإشاريات المكان مثل الباب التالي من الكتاب، والإضراب “بل”، والاستدراك “لكن”، إشارة إلى خطاب قريب أو بعيد ضمن النص أو خارجه.

الإشاريات والسياق

في “اليوم والغد”، ينادي سلامة موسى بقطع كل صلة بيننا وبين تراثنا الأدبي والفكري والديني أيضا، فثقافتنا من منظوره “مضيعة للشباب وبعثرة لقواهم”، يقول “يجب أن نخرج من آسيا ونلتحق بأوروبا”. في هذا المثال ما يشير إلى أهمية السياق، بدءا من عنوان الكتاب “اليوم والغد”، أو ما يعرف بـ”العتبة النصية الأولى”.

يتعذر فهم الإشاريات خارج سياقها، ومن ثم تتطلب -أكثر من غيرها- معلومات عن السياق؛ فكلمات مثل “هنا، أنا، أمس، الآن، الحين، اليوم، غدا” تدخل في عباءة الإشاريات، كلها كلمات لا تحمل معنى محددا، إنما تحمل معنى مجردا، ومن ثم فإن لها معاني عدة؛ مما يتطلب التفتيش في سياقها للوقوف على مدلولها.

يمرّ بين عينيّ الجرجاني متأبطا دلائل إعجازه، وفيه أن الكلمة المفردة مرتبطة بوظيفة إبلاغية تؤديها في سياق الكلام، فلا تكون دالة ولا تؤدي وظيفة إبلاغية إلا إذا وردت في سياق. الحال ذاته ينطبق على الإشاريات، من هنا نعلم أن الإشاريات لا يمكن التكهن بها أو التوصل إليها إلا بمعرفة السياق.

النص كالإنسان ابن بيئته، ولفهم النص وفك مشفراته يجب معرفة السياق معرفة قوية، ويتألف السياق من بعدين أو مرجعين؛ داخلي يتمثل في اللغة وتراكيبها وائتلاف الكلمات بما فيها من شاعرية وفنية وجمالية، وخارجي يتعلق بالملابسات والخلفيات المحيطة بالنص، سواء ما يتصل بالمتكلم أو المتلقي، فضلًا عن الأحوال والمعطيات الزمانية والمكانية.

من هذا المنطلق، ساق فيرت Vert أربع مراحل لتحليل النصوص، الأولى تشمُل التحليل اللغوي (أصوات، الصرف، التركيب)، والثانية سياق الحال ويضم الملابسات والظروف، والثالثة غرض النص (إقناع، تحذير، توبيخ، إغراء، تمنٍّ، إضحاك… إلخ)، أما الرابعة فأثر النص، بمعنى: كيف تلقّى السامع النص؟ وسنطيل النفس في عرض ذلك بمشيئة الله.

إعلان

شاركها.
Exit mobile version