سيطر الحزبان الجمهوري والديمقراطي على المشهد السياسي الأميركي، ولعبا دورًا محوريًا في صياغة الأجندة السياسية على الصعيدَين: الداخلي والخارجي منذ ولادة هذه الجمهورية. وقد سبقَ اعتمادَ نظام الحزبين، الذي أفرزته لاحقًا الممارسة السياسية وضروراتها، أمرٌ مهمٌ كان له القدح المعلَّى في استمرار التجربة الأميركية وتميُّزها بالاستقرار إلى هذا اليوم، وهو اعتماد الدستور في 17 سبتمبر/أيلول 1787، ومن ثم بداية العمل بموجبه في 4 مارس/آذار 1789.

ظلّ الدستور الأميركي ساري المفعول لفترة تُقدر بأكثر من قرنين من الزمان، فواضعوه نجحوا في إقرار مبدأ الفصل بين السلطات: (التنفيذية، التشريعية، والقضائية) وتوازنها بما يخدم حماية مصالح حكم الأغلبية دون الإضرار بحقوق الأقليات، والعمل على إقرار الحرية والمساواة، وحفظ المسافة الدستورية فيما يتعلق باختصاصات الحكومة الفدرالية وحكومات الولايات.

فلسفة الحزبين

لدى الحزبين الكبيرين فلسفة ومنظور مختلفان في الحكم، يصلان في بعض الأحيان إلى حد التناقض، وتتمثل المرتكزات التي تفصل بين تصوّرات الحزبين في الخلاف حول العديد من القضايا، منها دور الحكومة الفدرالية، الحريات الفردية، والمسؤولية الاجتماعية.

فالحزب الديمقراطي يتبنى خطًا مدافعًا عن حقوق العمال والمزارعين، وينادي بالمساواة الاجتماعية والعدالة الاقتصادية. يؤمن الديمقراطيون بدور أكثر نشاطًا للحكومة الفدرالية في معالجة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، ولذلك هم أكثر مناصرة لبرامج الرعاية الاجتماعية والرعاية الصحية الشاملة والقضايا البيئية.

بينما تركز فلسفة الجمهوريين على أهمية وجود حكومة فدرالية أصغر حجمًا، مع عدم فرض قيود تنظيمية على قطاع الأعمال، فضلًا عن فرض ضرائب أقل على شركات القطاع الخاص، والعمل على توفير الإعفاءات الضريبية لها بما يمكنها من المساهمة الإيجابية في دعم الاقتصاد وخلق فرص عمل أكثر.

ولعل اختلاف التصورات وفلسفة الحكم بين الحزبين، هو ما دفع البعض للقول إن الديمقراطيين يُعبّرون عن الطبقة الوسطى والطبقات الفقيرة من الموظفين والعمال، التي يمثل فيها المهاجرون والسود وبقية الأقليات الأخرى الشريحة الأساسية، بينما يرى آخرون أن الحزب الجمهوري يمثل حزب الأغنياء من رجال الأعمال وملاك الأراضي وغالبيتهم من البيض.

وعليه، وبتحليل وقراءة أجندة المؤتمرين العامَّين للحزبين الجمهوري والديمقراطي – اللذين عقدا مؤخرًا ضمن الاستحقاق الانتخابي لعام 2024 – يمكننا القول إنها ترتبط بأخذ السياقات المذكورة أعلاه من حيث اختلاف فلسفة وتصور الحكم لدى كل حزب والقاعدة الاجتماعية التي يرتكز عليها.

عبر هذا المقال، نحاول الإجابة عن عدة تساؤلات منها: ما هي الأفكار الرئيسية التي طُرحت داخل مؤتمرَي الحزبين الجمهوري والديمقراطي والفروق الجوهرية بينهما؟ ما حظوظ ما تم طرحه داخل أروقة المؤتمرين لدى الناخب الأميركي، خاصةً فيما يتعلق بقضايا السياسة الداخلية؟ هل هناك أي نوع من التباين على مستوى الطرح والآليات فيما يخص قضايا السياسة الخارجية؟ إلى أي مدى تؤثر حمى الصراع الداخلي بين الحزبين على قدرة الفائز منهما في تبني سياسة خارجية نشطة أو منكفئة؟ ما موقع الشرق الأوسط وقضاياه من أجندة الحزبين الخارجية؟

نظرة من داخل المؤتمرين

انطلقت فعاليات المؤتمر العام للحزب الجمهوري في الفترة ما بين 15 يوليو/تموز إلى 18 يوليو/تموز بمدينة ميلواكي (Milwaukee) بولاية ويسكونسن، التي تُعد من بين الولايات المسماة بالمتأرجحة، والتي ربما تلعب دورًا حاسمًا في تحديد نتيجة الانتخابات القادمة.

وعُقد المؤتمر في ظل معطيات سياسية وأمنية حرجة للغاية بالنسبة للحزب وأنصاره، وذلك على خلفية محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها الرئيس السابق دونالد ترامب بولاية بنسلفانيا في 13 يوليو/تموز، وهو يستعد ليصبح المرشح الرسمي للحزب الجمهوري.

بينما عُقد مؤتمر الحزب الديمقراطي في ظل أوضاع استثنائية أبرزها تنحي الرئيس جو بايدن عن قيادة حملته الرئاسية؛ بسبب مجموعة من العوامل، التي يأتي في مقدمتها تراجع شعبيته جراء الدعم اللامشروط لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، وما نتج عنها من قتل أكثر من أربعين ألف شخص منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول في قطاع غزة.

ففي كل قياسات الرأي التي أُجريت ظهر تراجع شعبيته وسط شريحة من الناخبين الشباب، الذين يشكلون نسبة مُقدرة من حجم الكتلة الانتخابية، بجانب أن نظرة الرأي العام لقدرته على القيام بأعباء منصب الرئاسة لولاية ثانية ارتبطت بأدائه الباهت في أول مناظرة جمعته بدونالد ترامب، التي ظهر فيها ضعف قدرته على التركيز؛ بسبب تقدم سنّه.

تمّ اختيار مدينة شيكاغو (Chicago) بولاية إلينوي لعقد المؤتمر، الذي استمر ما بين 19-22 أغسطس/آب. وجاء اختيار هذه المدينة كواحدة من مدن الغرب الأوسط الأميركي (The Midwest)، التي تُعد واحدة من معاقل الديمقراطيين الحاسمة، وهي تقليديًا تُعد ضمن ما يُسمى بـ “الجدار الأزرق” (The Blue Wall)، الذي كان فاعلًا في فوز الرئيس بايدن ونائبته كامالا هاريس في عام 2020، ونجاح الديمقراطيين في انتخابات التجديد النصفي لعام 2022.

من بين أبرز القضايا التي ركز عليها مؤتمر الحزب الجمهوري قضية الحدود وتدفق اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين عبر الحدود الجنوبية، وهي تُستخدم كورقة انتخابية لكسب أصوات الناخبين بالولايات الحدودية، ويسعى ترامب للترويج لفكرة أن هؤلاء المهاجرين العابرين يُشكلون تهديدًا أمنيًا للمواطنين الأميركيين ولوظائفهم.

كذلك نالت قضية انعدام الأمن وارتفاع وتيرة العنف حسب تصور الدعاية السياسية الجمهورية حيزًا من التغطية، ومحاولة تقديم ترامب كمُنقذ يمتلك القدرة على بسط سلطة القانون الذي يقف هو شخصيًا على رأس قائمة منتهكيه وعدم احترامه، وذلك بالنظر لموقفه من الهجوم على مبنى الكونغرس والسعي لتعطيل اعتماد نتيجة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 2020 حسب رأي الكثيرين.

وفي ذات المنحى حاول المؤتمر أن يناقش التحديات الاقتصادية التي تواجه الناخب الأميركي والوعد بحلها، رغم أن الكثير من المراقبين يرون أن سوء إدارة ترامب لأزمة جائحة كورونا نتج عنها الكثير من الصعوبات التي تواجه الاقتصاد الأميركي، وعلى رأسها قضية التضخم.

في المقابل، فإن أبرز المحاور التي ناقشها مؤتمر الحزب الديمقراطي تفاوتت ما بين حماية الضمان الاجتماعي، وخفض تكاليف الرعاية الصحية، وخفض الضرائب، والمطالبة بحماية حقوق النساء في الإنجاب من حيث التنظيم والإجهاض، وباتت هذه الأخيرة في قلب اهتمام النساء في أغلب الولايات الأميركية مع بعض الاستثناءات في بعض الولايات الجنوبية منذ أن تم إلغاء قانون Roe v. Wade بواسطة المحكمة الدستورية العليا.

كما حاول المؤتمر تقديم طمأنات للناخبين فيما يتعلق بالمعضلة الاقتصادية، وذلك عبر الوعد الذي قدمته كامالا هاريس بتقديم الدعم المالي للأسر ومساعدة الراغبين في الحصول على بيوت سكنية لأول مرة بمبلغ يصل إلى 25 ألف دولار، بيد أن المعضلة تظل قائمة بدون تحديد وسائل عملية تمكن المرشحة حال فوزها من توفير المال اللازم لتطبيق هذا الوعد.

ولعل أبرز الإخفاقات التي واجهت الديمقراطيين هو سقوطهم في امتحان الديمقراطية، وذلك عندما أتاحوا الفرصة لامرأتين من أُسر المحتجزين لدى حماس لمخاطبة المؤتمر، بينما مُنع الفلسطينيون من نيل نفس الفرصة ومخاطبة الحضور للتعبير عن المعاناة الإنسانية والأخلاقية التي تواجه الكثيرين في قطاع غزة والضفة الغربية.

ثمة فروق جوهرية بين طرح الحزبين، فالطرح الذي قدمه الجمهوريون يُعتبر وثيق الصلة بالشرائح الاجتماعية التي تمت الإشارة إليها من قبل، فالملاحظة الجديرة بالاهتمام هي أن طبيعة الخطاب الصادر من أروقة مؤتمر ميلواكي لم تتمكن من الخروج من دائرة الكتلة الداعمة للجمهوريين، وكما هو معلوم أن أهم محدد لفوز أي مرشح هو قدرته على مخاطبة الشرائح الأخرى التي تقع خارج دائرة نفوذه التقليدي، وهذا لم يحدث بالنظر لطبيعة الخطاب الشعبوي الذي يتبناه مرشح الحزب دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس، فشكل الطرح المُقدم لم يختلف كثيرًا عن خطاب عام 2016.

ويُلاحظ غلبة خطاب الكراهية وإثارة النعرات الثقافية التي تأتي على حساب مخاطبة القضايا الاقتصادية المُلحة التي تواجه الناخب الأميركي، فاستخدام تكتيك الاستثمار في الانقسامات المجتمعية، والهجوم الشخصي على الخصوم لم يعد سلعة رائجة لدى شريحة كبيرة من الناخبين المستقلين، الذين يتوقف عليهم ترجيح كفة مرشح على آخر، خاصة في الولايات المتأرجحة التي تشمل جورجيا، ميشيغان، نيفادا، ويسكونسن، أريزونا، وبنسلفانيا. رغم أن أهم المكاسب التي خرج بها المؤتمر العام للحزب الجمهوري هي وحدة كل تيارات الحزب واصطفافهم خلف ترامب.

في الجهة المقابلة، فإن الحزب الديمقراطي استفاد من خروج الرئيس بايدن من السباق الرئاسي ودفع بكامالا هاريس، البالغة من العمر 59 عامًا، والتي تُعد أصغر سنًا من ترامب بما يقرب العقدين، ليكون الفارق العمري نقطة إيجابية لمصلحة الديمقراطيين بعد أن كانت خصمًا عليهم، وبالتالي أصبح كبر السن وعدم القدرة نقطة موجهة ضد ترامب.

ويُلاحظ أن مؤتمر الديمقراطيين نجح من خلال خطابه المتفائل الذي يُركز على مخاطبة المستقبل بدلًا من الماضي بتشجيع شريحة الشباب على العودة مجددًا لدائرة الفعل والضوء السياسي، وهي ميزة كبيرة إذا ما تم استثمارها بشكل صحيح، وذلك من خلال التركيز على قضايا التغير المناخي والحريات.

ففي الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة “CIRCLE” بين الشباب قبل الانتخابات الرئاسية لعام 2024، والذي سلط الضوء على الاتجاهات الرئيسية في آراء الشباب السياسية ومشاركتهم، أظهر هذا الاستطلاع أن 57% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عامًا قالوا إنهم “من المرجح جدًا” أن يصوتوا في عام 2024، ويقول 15% آخرون إنهم “من المرجح إلى حد ما” أن يدلوا بأصواتهم في الانتخابات.

ووجد أن من بين الفئة المستطلعة بين الشباب الذين من المرجح جدًا أن يصوتوا، 51% منهم يؤيدون المرشحة الديمقراطية هاريس، بينما 30% يؤيدون المرشح الجمهوري ترامب. ولعل اللافت للنظر هو أن من بين أهم القضايا التي تشغل بالهم هي الاقتصاد، قضايا التغير المناخي، وتقنين حمل الأسلحة، وهذه تُعد من أهم ركائز الحملة الانتخابية الديمقراطية التي انطلقت من داخل المؤتمر العام للحزب، رغم أن قناعات كثير من الناخبين تثق في قدرة الجمهوريين على إدارة الاقتصاد أكثر من الديمقراطيين.

الخيارات المحدودة

على صعيد السياسة الخارجية، فإن كلا الحزبين لديهما مواقف مشتركة، خاصة تلك المتعلقة بالالتزام بدعم إسرائيل والحفاظ على أمنها الكامل. ويمكن أن يُفهم ذلك في سياق السطوة الكبيرة التي يمارسها اللوبي الصهيوني على المرشحين، وحشرهم في زاوية اللاخيار عندما يرتبط الأمر بإسرائيل. الأمر الآخر هو التركيز على الصين كمنافس إستراتيجي حقيقي.

وفي هذا الإطار، يمكن مراجعة مقالنا المعنون: “اغتيال هنية في طهران والهجوم على الجولان: سيناريوهات أميركا لمواجهة التصعيد”، وكذلك مقالنا الآخر بعنوان: “ما بين بايدن وترامب: الانتخابات الأميركية وتأثيرها على الشرق الأوسط”.

وقد ثبت من المؤتمرين اللذين عُقدا مؤخرًا أن الشرق الأوسط لم يعد أولوية مُلحة بالنسبة لواشنطن، وبالتالي على صنّاع القرار ومتخذيه في المنطقة البحث عن بدائل وخيارات إستراتيجية ترتكز بدرجة أساسية على الإمكانات الذاتية لدول الإقليم، والتي من بينها رأس المال البشري، والاستفادة من نموذج صعود مرشحة الحزب الديمقراطي التي أتت من أدنى السُلم الاجتماعي (أم هندية وأب جامايكي)، لتصبح قاب قوسين أو أدنى من قيادة أكبر دولة في العالم. فالإقليم لديه فرصة أكبر من غيره، شريطة فتح الباب للجميع وبدون تمييز، وإعطاء كل شخص الثقة في قدرته على صناعة غد أفضل له ولأمته.

ولعل الاختلاف الأبرز في قضايا السياسة الخارجية يظهر في الملف الأوكراني والشراكة الأوروبية الأميركية، فالجمهوريون أكثر انكفاءً على الداخل، مقارنة بالديمقراطيين الذين يبدون أكثر انفتاحًا وتفاعلًا مع دعم أوكرانيا والحفاظ على علاقات جيدة مع “الناتو”.

الخلاصة

من خلال المتابعة لما جرى في مؤتمرَي الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وباستصحاب نتائج استطلاعات الرأي العام والحوار الذي أجرته مذيعة شبكة CNN دانا باش (Dana Bash) مع المرشحين الديمقراطيين ظهر الخميس، أقول إن حظوظ المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في أن تكون الرئيسة القادمة لأميركا باتت أكبر من ذي قبل (فترة بايدن).

ولكن يتوقف ذلك على عدة عوامل أهمها قدرتها على توسيع قاعدة تحالفاتها السياسية والوصول لشريحة الناخبين المستقلين في الولايات المتأرجحة، خاصة العرب والمسلمين في ولاية ميشيغان، والتي ربما تسببت علاقتها المتوترة بهم في فقدانها هذه الولاية المهمة في الطريق نحو البيت الأبيض، مع الأخذ في الاعتبار قدرة تيم والز (Tim Walz) المرشح لمنصب نائب الرئيس في الوصول للناخبين البيض، الذين هم نقطة ضعف كامالا هاريس ونقطة تفوق ترامب.

فضلًا عن الاستمرار في الظهور الناجح في وسائل الإعلام وخاصة المناظرة القادمة، مع إظهار الجدية اللازمة في التعامل مع تأمين الحدود الجنوبية لأميركا، وتقديم سياسات واضحة لإقناع الناخبين وليس تقديم شعارات أو خطوط عامة. في المقابل، فإن حظوظ ترامب تظل قائمة للفوز في حالة تركيزه على قضايا الاقتصاد والابتعاد عن المنحى الشخصي في خطابه للناخبين، ولكن فرص كامالا هاريس تظل هي الأقوى وفقًا للمعطيات الحالية.

الأمر الأخير هو أن الشرق الأوسط مطالب بتحديد خياراته، كما تم الحديث عن ذلك في مقالات سابقة في عالم بات لا يؤمن أو يعترف إلا بالأقوياء الذين يمتلكون أدوات القوة، والتي يأتي على رأسها امتلاك مصادر الطاقة والإنسان القادر على الإبداع والابتكار.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version