مراسلو الجزيرة نت
على مدار 15 عاما، تصاعدت فاتورة الإنفاق على الرواتب في ليبيا بوتيرة غير مسبوقة، فمنذ عام 2009 قفزت فاتورة الأجور من 9 مليارات دينار (1.84 مليار دولار) إلى 67.6 مليار دينار (قرابة 14 مليار دولار) خلال العام 2024، بحسب مصرف ليبيا المركزي.
وفي ظل اقتصاد ريعي وسوق غير منتج، قد يسعد الموظفون بتلك الزيادات في الأجور، لكن سرعان ما سيواجهون واقعا مختلفا عند التوجه للأسواق، عندما يكتشفون أن ما تلقوه من زيادة يذوب بسرعة مقابل غلاء الأسعار، لا سيما بعد توقع وزير المالية في حكومة الوحدة خالد المبروك أن يتجاوز الإنفاق على الرواتب حاجز 100 مليار دينار (20.8 مليار دولار).
فهل يعود التوسع في الإنفاق إلى زيادة حقيقية في الأجور؟ وما تأثيره على القوة الشرائية وتضخم الأسعار؟ وأي انعكاسات على سوق العمل؟
تآكل الدخل
“لم تعد قيمة الرواتب تواكب غلاء الأسعار وارتفاع تكاليف المعيشة” هكذا يرد الموظف في القطاع العام أسامة الورفلي في حديث للجزيرة نت.
ويضيف الورفلي: “مهما زاد راتبي، قدرتي الشرائية تتراجع، فالدينار ينهار والأسعار ترتفع” وأرجع السبب إلى سياسة التوظيف التي وصفها بالعشوائية التي جعلت الرواتب أشبه بالمعونة الشهرية، مؤكدا أنّ هذه المعادلة غير المستدامة أضعفت الإنتاجية وحوّلت المواطن إلى عالة على الدولة بدل أن يكون جزءا من دورة اقتصادية فاعلة، حسب قوله.
وتستعرض الموظفة في القطاع الخاص سندس سعد، تجربتها في حديثها للجزيرة نت، قائلة “بدأت مسيرتي المهنية في القطاع الخاص براتب 500 دينار (حوالي 102 دولار) واليوم أتقاضى ألف دينار (205 دولارات) ورغم هذه الزيادة، فإن غلاء الأسعار كان له تأثير كبير على قدرتي الشرائية، ولم يعد الراتب كافيا لتغطية احتياجاتي الأساسية مثل النقل، والدراسة، والمستلزمات الشخصية”.
وأوضح وكيل وزارة المالية السابق، مراجع غيث، في حديثه للجزيرة نت أن سياسية “التوظيف العشوائي” ساهمت في تفاقم التضخم الذي يضغط بدوره على الاستدامة المالية والسياسة النقدية.
ويقول “يصرف المواطن راتبه على السلع الاستهلاكية وليس على الاستثمار أو الادخار، لذلك فإن النتيجة الحتمية هي ارتفاع معدل التضخم وغلاء الأسعار”.
ويلفت غيث إلى أن مصرف ليبيا المركزي أعلن مطلع العام 2025، عن بلوغ حجم الإنفاق على بند الرواتب 67 مليار دينار في سنة 2024. إلا أن هذه الأرقام لا تعكس فقط قيمة الرواتب، بل تشمل 11 بندا ضمن الباب الأول، مشيرا إلى أن البنود الأخرى في هذا الباب تمثل نحو 20% من أوجه الإنفاق، وتشمل مزايا خاصة للمسؤولين مثل العلاوات التمييزية، والسكن، والتأمين الصحي، وغيرها من الامتيازات.
ترهل حكومي
اعتبر أستاذ الاقتصاد الدكتور يوسف يخلف، أن التوسع في التوظيف الحكومي من دون إنتاجية حقيقية يعكس فشل السياسات الاقتصادية في خلق فرص عمل مستدامة، مؤكدا أن ضخ هذه الأموال في سوق غير منتج يؤدي إلى موجات تضخمية جديدة، تلتهم أي زيادة في الأجور، ما يجعل تحسين القوة الشرائية أمرا شبه مستحيل.
وتوقع يخلف في حديثه للجزيرة نت سيناريوهين لتضخم الإنفاق على الرواتب:
السيناريو الأول: زيادة الإنفاق على الرواتب بسبب التوظيف
- ويؤثر ذلك على استقرار المالية العامة من خلال تفاقم العجز المالي، وتحميل المالية العامة أعباء إضافية من دون زيادة حقيقية في الإنتاجية أو فعالية في القطاع العام.
- لجوء مصرف ليبيا المركزي إلى تمويل العجز المالي عبر الاقتراض الداخلي أو طباعة النقود لمجابهة ضغوطات السيولة، بسبب الزيادة في الإنفاق الحكومي غير الفعال.
السيناريو الثاني: زيادة الإنفاق على الرواتب بسبب رفع الأجور والتسويات المالية المتأخرة
- زيادة الإنفاق على الأجور إن لم تقترن بتحسن حقيقي في الإيرادات العامة أو الإنتاجية؛ فستؤدي إلى تدهور المالية العامة على المدى الطويل.
- سيؤدي ذلك إلى رفع معدلات التضخم، وزيادة أسعار السلع والخدمات، واستنزاف الاحتياطيات النقدية، وهذا يزيد من خطر تقلبات قيمة العملة المحلية ويفاقم من أزمة السيولة.
وعلى صعيد تأثير زيادة الأجور على القدرة الشرائية وحجم الاستهلاك، أكد رئيس غرفة التجارة والصناعة في طبرق إبراهيم الجراري، أن زيادة النفقات الاستهلاكية من دون دعم الإنتاج تؤدي إلى ضخ كميات كبيرة من السيولة في السوق، وهذا يؤدي بدوره إلى ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم النقدي.
وأضاف الجراري في حديثه للجزيرة نت أن هذا النمط من الإنفاق يضع مصرف ليبيا المركزي أمام تحديات معقدة، إذ يضطر إلى طباعة المزيد من النقود أو اللجوء إلى احتياطي النقد الأجنبي، الأمر الذي يزيد من تعميق الأزمة، وفق قوله.
هيكلية اقتصادية
يقول المحلل الاقتصادي محمد دريميش للجزيرة نت إن الاقتصاد الليبي يواجه اختلالات هيكلية أبرزها تراجع فرص العمل، وانخفاض دخل الفرد، بالإضافة إلى أزمة الإسكان، وارتفاع معدلات التضخم، وتدهور الخدمات العامة، وعزا ذلك إلى السياسات الاقتصادية التي وصفها بغير المدروسة، كان آخرها خفض قيمة الدينار الليبي بنسبة 70%، وهذا أدى إلى:
- تضخم الميزانية العامة.
- خروج العديد من المشاريع الصغيرة والمتوسطة من السوق.
- زيادة الاعتماد على القطاع العام.
كل تلك الأسباب مجتمعة -حسب دريمش- ساهمت في رفع الرواتب لمواكبة التضخم.
وأوصى دريميش بتبني سياسات لتحفيز بيئة المال والأعمال، والابتعاد عن القرارات التي تخدم المصالح الضيقة على حساب الاقتصاد المحلي ومعيشة المواطن.