إسطنبول- في قلب الأحداث الجارفة التي تشهدها المنطقة، تحجز الانتخابات المحلية التركية موعدا يوم الأحد الأخير من مارس/آذار المقبل في 81 ولاية، لتشكل نقطة تحول رئيسية في مسار الديمقراطية التركية ومرآة تعكس التحولات العميقة في النسيج السياسي والاجتماعي للبلاد.
بدأت بعض الأحزاب السياسية بتشكيل تحالفاتها، بينما لا تزال أخرى تسعى لحل خلافات ونسج تحالفات تدعمها في انتخابات محلية تُحدد رؤساء البلديات، وأعضاء المجالس البلدية، ومخاتير القرى والأحياء.
وتأتي انتخابات البلديات بعد صراع الانتخابات الرئاسية الذي كان حافلا بالتحديات والمنافسة القوية، والذي فاز به الرئيس رجب طيب أردوغان بنسبة تجاوزت 52% من أصوات الناخبين، كما نجح حزب العدالة والتنمية الحاكم، بزعامة أردوغان، في تعزيز مكانته البرلمانية بالفوز بـ268 مقعدا من إجمالي 600 مقعد في البرلمان.
تاريخ المنافسة
وتمثل الانتخابات القادمة معتركا سياسيا رئيسيا وهي بمثابة باروميتر يقيس درجة حرارة الأجواء السياسية العامة وينذر بتقلبات قد تهبّ على الساحة السياسية التركية.
كما تنطوي على أبعاد إستراتيجية تتجاوز حدود الإدارة المحلية، فهي تمهد الطريق للانتخابات الرئاسية المرتقبة عام 2028 كونها تشير إلى اتجاهات الرأي العام وتعكس مدى رضا الناخبين عن الأداء السياسي الحالي.
وحقق حزب العدالة والتنمية نجاحا كبيرا في الانتخابات المحلية لعام 2014، حيث فاز بنسبة كبيرة من البلديات على مستوى تركيا. ومع ذلك، كانت هناك بعض الاستثناءات المهمة مثل عدم قدرته على الفوز ببلدية إزمير التي ظلت قلعة لحزب الشعب الجمهوري. وبدأت تظهر علامات تنافس قوي من أحزاب أخرى في مناطق مختلفة من البلاد.
وشهدت تركيا تحولات سياسية ملحوظة خلال انتخابات 2019، إذ أُجريت في ظل أزمة اقتصادية وتحت تأثير تحالفات انتخابية جديدة، لتكون بمثابة اختبار حقيقي للحزب الحاكم خاصة بعد تبني النظام الرئاسي في العام السابق للصراع الديمقراطي.
وأظهرت نتائجها فوز “تحالف الشعب” الذي شكّله العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية بفارق ملحوظ بنسبة 51.74% من أصوات الناخبين، مقابل 37.64% لـ”تحالف الأمة” الذي يضم حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد.
لكن الحزب الحاكم واجه تحديات كبيرة، خصوصا في العاصمة أنقرة وإسطنبول، حيث خسر هذه البلديات لصالح مرشحي الجمهوري، وكانت هذه النتائج مفاجئة بالنظر إلى سيطرة العدالة والتنمية السابقة على هذه المدن لعقود.
وبشكل عام، تشير النتائج إلى تنافس متزايد بين الأحزاب السياسية في تركيا وتقلب في توجهات الناخبين.
أكثر شراسة
أما بالنسبة لانتخابات 2024، يُتوقع أن تكون المنافسة أكثر شراسة مع تركيز الأحزاب على قضايا مثل الاقتصاد، واللاجئين، والحوكمة المحلية، والسياسات الاجتماعية. وبحسب التوقعات ستمثل الانتخابات المرتقبة اختبارا للأحزاب السياسية الرئيسية ومؤشرا على الاتجاه الذي قد تأخذه تركيا في المستقبل.
“من يحكم إسطنبول يحكم تركيا”، عبارة ترددها المعارضة كثيرا، تعكس الأهمية الإستراتيجية والرمزية للمدينة كمركز اقتصادي وسياسي رئيسي، وترجمها إلى الواقع أردوغان، الذي تولى رئاسة البلدية، ثم صعد إلى أعلى هرم سياسي في البلاد في العقد التالي.
ويسعى حزب العدالة والتنمية لاستعادة رئاسة بلدية إسطنبول التي خسرها خلال انتخابات عام 2019 ولا يزال يستحوذ فيها على 24 حيا من جملة 39، في حين يسعى حزب الشعب الجمهوري المعارض إلى تجديد فترة سيطرته عليها 5 سنوات جديدة.
واستحوذت على بلدية إسطنبول أحزابٌ تتشارك في الأيديولوجية السياسية في الفترة بين 1994 و2019، وهي حزب الفضيلة، والرفاه الجديد، والعدالة والتنمية.
وشهدت إسطنبول خلالها تحولات كبرى تحت إدارتها، حيث تم تنفيذ العديد من المشاريع التنموية والبنى التحتية. لكن انتخابات 2019 جلبت تغييرا كبيرا، إذ فاز حزب الشعب الجمهوري برئاسة المدينة، وهو ما يعكس تحولا في توجهات الناخبين ويسلط الضوء على ديناميكيات جديدة في السياسة المحلية لإسطنبول.
ومع اقتراب الانتخابات، يركز الناخبون على قضايا مثل الاقتصاد، والغلاء، والأمن، والمواصلات، والاستعدادات لزلزال إسطنبول المرتقب.
ولعل أداء رئيس البلدية الحالي ومرشح المعارضة في الانتخابات القادمة، أكرم إمام أوغلو، خلال الفترة الماضية والانتقادات الواسعة التي طالته في حل معظم هذه الأزمات، سينعكس بشكل سلبي على أصوات الناخبين في صناديق الاقتراع.
عادات انتخابية
أعلن حزب العدالة والتنمية ترشيح وزير البيئة والتحضر العمراني السابق والبرلماني الحالي مراد قوروم لرئاسة بلدية إسطنبول عن “تحالف الجمهور”، وهو ما يتماشى مع تطلعات الناخبين لا سيما في موضوع الزلازل في ظل تزايد تحذيرات المختصين من احتمالية حدوث زلزال كبير في إسطنبول، وتسريع الحكومة أعمالها بشأن عمليات التحول الحضري.
يُذكر أن اسم قوروم ارتبط بمشاريع تاريخية عدة لتركيا أهمها مشروع قناة إسطنبول، ومشاريع التحول الحضري بالمدينة.
وتولى ممثل حزب العدالة والتنمية مليح غوكشيك رئاسة بلدية العاصمة أنقرة 3 فترات متتالية، إلا أن اتساع حجم الانتقادات التي طالته خلال فترته الأخيرة كان سببا رئيسا في خسارته رئاسة البلدية لصالح مرشح الجمهوري منصور يافاش في انتخابات عام 2019.
ويمكن استشفاف الرضا العام للمواطنين الأتراك في مدينة أنقرة عن يافاش، الذي استطاع خلال فترته إحداث تغيرات وتطورات لافتة في المدينة على صعيد شبكات النقل، ومحاربة الغلاء، والخدمات العامة. ويترشح لرئاسة أنقرة لفترة جديدة، في حين لم يعلن حزب العدالة والتنمية عن مرشحه حتى الآن.
وتُعرف مدينة إزمير بأنها “قلعة الحزب الجمهوري” أو “قلعة المعارضة التركية”، ولعل فوز الحزب بأصوات ناخبي الولاية سواء في الانتخابات البرلمانية أو المحلية في السنوات الـ7 الأخيرة، يبرهن صحة هذه العبارة.
لكن، عندما ننظر إلى عادات الانتخابات وتفضيلات الأحزاب السياسية في إزمير، فيمكننا أن نلحظ عدم وجود توجه سياسي حاد للمدينة، إذ دائما ما تكون نتائج الانتخابات متقاربة.
على سبيل المثال، فاجأت مدينة إزمير المعارضة خلال الانتخابات الرئاسية المنصرمة بارتفاع نسبة أصوات الناخبين لأردوغان إلى 33%.
وأعلن حزب الشعب الجمهوري ترشيح رئيس بلدية إزمير الحالي، تونج سويار -الذي يرأسها منذ 20 عاما- لخوض الانتخابات المحلية القادمة، ولم يعلن حزب العدالة والتنمية عن مرشحه بشكل رسمي بعد.
وعكست أرقام استطلاع رأي أجرته شركة “آسال” للأبحاث، توتر السباق الانتخابي القادم في مدينة إسطنبول، وبحسب البيانات، يتمتع إمام أوغلو بتقدم طفيف ويحظى بنسبة 36.4%، ويليه قوروم بنسبة 32.8%.