في سياق سياسي وأمني معقّد، حيث تراكمت التحديات وتعددت مصادر الخطر، تبلورت خلال السنوات الثلاث الماضية من حكم الرئيس حسن شيخ محمود توجهات جديدة في إدارة الدولة الصومالية، تستدعي التوقف عند طبيعتها ونتائجها، ولا سيما من ناحية الحفاظ على سيادة الدولة وازدهارها المستقبلي، وإرساء أسس التنمية المستدامة، وبسط السلام، والعودة للمحافل الدولية.

ويحاول هذا المقال رصد عدد من نتائج هذه التوجهات، ولا سيما في مجالات استعادة الاستقرار، وبدء استغلال الموارد الطبيعية، وتطوير الدستور، وتعزيز العلاقات الإقليمية، والتقدم في مجالات التعليم والأمن.

مكافحة الإرهاب ومعارك التحرير

أحد أهم الملفات التي شهدت حراكًا لافتًا هو ملف الأمن، وبالتحديد مكافحة الجماعات المسلحة. إذ أطلقت الحكومة حملة موسعة شملت أدوات عسكرية، استخباراتية، وإعلامية، أسفرت حتى منتصف 2025 عن تنفيذ 1187 عملية عسكرية، أدت إلى تحرير بلدات وقرى في سبع محافظات رئيسية، هي: “هيران” و”شبيلي السفلى” و”شبيلي الوسطى” و”غلغدود” و”مودوغ” و”باي” و”جوبا السفلى”، في أحد أضخم عمليات استعادة سلطة الدولة في جميع أقاليم البلاد.

هذه العمليات، بحسب بيانات وزارة الدفاع، أسفرت عن تحييد أكثر من 5 آلاف و500 عنصر مسلح، وإغلاق 800 حساب مصرفي متورط في تمويل الإرهاب، ما انعكس في خفض قدرات الجماعات المسلحة بنسبة تصل إلى 65%.

هذا التحول لم يكن ممكنًا دون تنسيق بين المؤسسات الأمنية والمجتمعية، في إطار من التعبئة الوطنية والتخطيط الاستخباراتي لتفكيك الخطاب الفكري المستخدم في تجنيد المزيد من الشباب، وتجفيف موارد الجماعات الإرهابية.

بموازاة ذلك، أُعيدت جدولة بعض مسارات المصالحة الوطنية، بعد أن أتاح استقرار بعض المناطق بيئة ملائمة لاستئناف الحوارات الأهلية، وإشراك القيادات المجتمعية في بناء ثقة مفقودة بفعل سنوات من الصراع. وهو ما يشير إلى أن الأثر الأمني لم يكن محصورًا في السيطرة الميدانية، بل تعداه إلى بناء الأرضية السياسية والاجتماعية الضرورية لسلام مستدام.

ومن بين أبرز الإشارات الرمزية الدالة على التغير الحاصل في المشهد الأمني، أن نظمت البلاد للمرة الأولى، بعد 35 عامًا عانت خلالها أوضاعًا أمنية، عرضًا عسكريًا هو الأضخم منذ عقود، في العاصمة مقديشو في الذكرى الخامسة والستين للاستقلال.

حضر الرئيس حسن شيخ محمود هذا الاحتفال الذي شارك فيه ممثلون عن جميع وحدات الجيش، في حضور شعبي ومدني واسع، وهو حدث يرسل رسالة عالمية بأن الصومال أصبح أكثر أمنًا واستقرارًا، وأنه يطوي صفحة الإرهاب، محاولًا رسم مستقبل يسوده السلام والازدهار.

الاستفادة من الموارد الطبيعية

أما الملف الاقتصادي، فقد شهد تحركًا تدريجيًا نحو تفعيل الموارد الطبيعية غير المستغلة، بعد سنوات من الجمود والفوضى. إذ أعلنت الحكومة إطلاق مشاريع في مجال التنقيب عن النفط والغاز، ضمن خطة وطنية تهدف إلى تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية.

ويُعد هذا التحرك مؤشرًا على توجه اقتصادي جديد، يعوّل على الثروات الوطنية كرافعة للتنمية المستدامة، وتحسين مستوى معيشة الشعب، ويدشن حضور الصومال في سوق الموارد العالمي.

التحول هنا لا يكمن فقط في البدء بالمشاريع، بل في ربطها بإطار قانوني وتنظيمي يضمن الشفافية والعدالة التوزيعية، في إطار رؤية للرئيس تتطلع إلى تحويل الصومال إلى مركز إقليمي للثروة بما يعزز مكانته الاقتصادية ويجذب إليه استثمارات طال انتظارها.

شطب الدَين ورفع حظر التسليح

في السياق نفسه، لا يمكن إغفال الخطوة النوعية التي تمثلت في التوصل إلى اتفاق نهائي لشطب الديون الخارجية للصومال، وهي خطوة تم إنجازها في ديسمبر/ كانون الأول 2023، بعد مفاوضات طويلة.

هذا التطور لا يقتصر على تخفيف الأعباء المالية، بل يسهم في تحسين التصنيف الائتماني للصومال، ويفتح الباب أمام تمويل مشاريع البنية التحتية والخدمات، ويمنح الثقة للجهات المانحة والمستثمرين.

ويتكامل هذا الإنجاز مع قرار مجلس الأمن الدولي، الصادر 13 ديسمبر/ كانون الأول من نفس العام، برفع الحظر المفروض على توريد الأسلحة إلى الصومال.

وهو ما أعطى الدولة مساحة أوسع لإعادة بناء قدراتها الدفاعية، من خلال صفقات شرعية، بما يعزز مسار بناء جيش وطني قوي محترف قادر على حماية حدوده، ومواجهة التهديدات الأمنية، والحفاظ على السلام داخليًا وخارجيًا، دون الاعتماد المفرط على القوات الأجنبية، وهو ما لا غنى عنه لضمان استقرار البلاد وحفظ سيادتها، وقد كان إعادة تأسيس سلاح الدفاع الجوي أحد أبرز الإنجازات في هذا المجال.

والملاحظ أنه جرى ربط الأمن الداخلي بباقي عناصر التنمية، في سياق يشير إلى أن الاستقرار الأمني يُعد شرطًا أساسيًا لأي عملية بناء مؤسسي أو اقتصادي.

الديمقراطية والدستور الاتحادي

في إطار استكمال عملية بناء الدولة الصومالية، شهدت الفترة الأخيرة تقدمًا في ملف صياغة الدستور الاتحادي، حيث عملت الحكومة على إتمام فصول أساسية منه، استنادًا إلى ما وُضع سابقًا من مرتكزات قانونية.

ويُعد هذا العمل امتدادًا لمحاولة تطوير الأطر التشريعية والمؤسسية اللازمة لتفعيل نظام فدرالي، وهو ما تم تقديمه كخطوة تُعبّر عن تطور في التجربة السياسية، وحرص على توفير قاعدة قانونية تضمن وحدة الدولة، وتعكس احترامًا للتعدد المجتمعي، وإرساءً لمبدأ سيادة القانون.

يُنظر إلى هذا التقدم كذلك على أنه تعبير عن إرادة داخلية لتقوية البنية المؤسسية، وإعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والمواطن، في ظل سعي عام لبناء منظومة حكم تستند إلى المساواة القانونية والعدالة، وتعزيز الثقة المحلية والدولية في قدرة الصومال على إدارة شؤونه ضمن أطر مستقرة.

في موازاة ذلك، طُرحت مبادرة للانتقال إلى تنظيم انتخابات عامة على أساس “صوت لكل مواطن”، بوصفها خطوة تهدف إلى توسيع قاعدة المشاركة السياسية، وتكريس الممارسة الديمقراطية على أسس شاملة.

ورغم أن هذه العملية لا تزال في مراحلها الأولى، فإنها تُعد من بين المؤشرات التي تعكس نية الحكومة في وضع أسس لانتقال انتخابي يتيح لجميع الفئات المجتمعية التمثيل، ويعبر عن الإرادة الشعبية، ويعزز مبادئ المساءلة، ويؤسس لمؤسسات منتخبة ذات شرعية.

وفي هذا السياق السياسي، جاء الإعلان عن تأسيس حزب “العدالة والتضامن” (Justice and Solidarity Party – JSP)، بقيادة الرئيس حسن شيخ محمود، بوصفه مبادرة تستهدف إحياء الحياة الحزبية المنظمة، في ظل غياب طويل لأحزاب فاعلة.

وقد قُدّم الحزب باعتباره إطارًا سياسيًا يسعى إلى جمع جهود وطنية ذات توجهات إصلاحية، ويعمل على استيعاب الفئات المجتمعية المختلفة، لا سيما الشباب والنساء والأقليات، في وقت تواجه فيه البلاد تحديات تتعلق بالأمن وإعادة بناء المؤسسات.

ويُطرح هذا الحزب كمنصة لتعزيز التعددية السياسية، وفتح المجال أمام مشاركة أوسع في صناعة القرار الوطني، وتفعيل حضور سياسي منظم في المشهد العام، ضمن محاولة لتقديم بدائل حزبية قادرة على التفاعل مع متطلبات المرحلة، والتعبير عن تطلعات المواطنين، في سياق يعيد بناء الثقة في العمل السياسي بوصفه أداة تغيير سلمية ومؤسسية.

استعادة المكانة الإقليمية والدولية

في أعقاب فترة طويلة من العزلة وضعف الحضور في المحافل الإقليمية والدولية، بدأت الدولة الصومالية، خلال السنوات الأخيرة، وتحت إدارة الرئيس حسن شيخ محمود، خطوات نحو الانخراط مجددًا في الأطر الجماعية؛ سعيًا لتعزيز مكانتها السياسية والاقتصادية.

وقد جاء الانضمام إلى تجمع شرق أفريقيا التنموي والاقتصادي باعتباره تحركًا لفتح قنوات تعاون جديدة مع دول الجوار، ضمن توجه يهدف إلى دعم الاستقرار الاقتصادي، وتوسيع نطاق الشراكة الإقليمية.

ينطوي هذا الانضمام على إمكانية تطوير العلاقات التجارية والاستثمارية، وتحسين تكامل البنية التحتية، وتعزيز التنسيق الأمني، وهو ما يعكس تصورًا بأن الانخراط الإقليمي يمكن أن يكون رافعة اقتصادية، ووسيلة لتفعيل الموقع الجغرافي للصومال في منظومة المصالح المشتركة مع الدول المجاورة.

أما على الصعيد الدولي، فقد أطلقت الحكومة حملة دبلوماسية أثمرت عن فوز الصومال بعضوية غير دائمة في مجلس الأمن، وهي خطوة تُظهر عودة البلاد إلى دائرة التفاعل الدولي، وتُعد مؤشرًا على استعداد مؤسساتها للاضطلاع بدور في مناقشة قضايا الأمن والسلم الدوليين. كما يتيح هذا الحضور للصومال منصة للدفاع عن مصالحه ضمن نظام دولي متعدد الأطراف.

وتُظهر هذه التحركات، مجتمعة، توجّهًا نحو إعادة بناء الثقة مع الشركاء الإقليميين والدوليين، وتحقيق حضور سياسي منظم في الأطر الدولية، يُمكّن الصومال من استعادة موقعه كمساهم في قضايا المنطقة والعالم، بعد فترة من التغييب القسري بفعل الصراعات الداخلية والضعف المؤسسي.

تعزيز الاستثمار في الإنسان

في إطار أولويات الدولة الصومالية، برز الاستثمار في الإنسان كإحدى الركائز الأساسية لتحقيق الاستقرار والتنمية. وقد سعت الحكومة، خلال السنوات الماضية، إلى تحسين واقع التعليم من خلال زيادة أعداد المعلمين، وتوسيع فرص التعليم في مختلف المناطق، مع اهتمام خاص بالمناطق النائية. وتُفهم هذه السياسات بوصفها محاولة لتأسيس قاعدة بشرية مؤهلة قادرة على الإسهام في إعادة بناء الوطن والمشاركة في تحديث مؤسساته.

وتُطرح هذه الإجراءات ضمن رؤية ترى في التعليم وسيلة لدعم التماسك الوطني، وتعزيز فرص التنمية الاقتصادية، وتوسيع نطاق المشاركة السياسية والاجتماعية. إذ تم تقديم تحسين التعليم كاستثمار طويل الأمد في قوى بشرية وطنية من شأنها أن تسهم في ترسيخ الاستقرار، وخلق بيئة مواتية للنمو.

نحو تثبيت التحول وتراكم البناء المؤسسي

يمثل المسار الذي شهدته البلاد في السنوات الأخيرة، وتحت حكم الرئيس حسن شيخ محمود، مرحلة من مراحل إعادة بناء الدولة، وسط ظروف اتسمت بتعقيد سياسي وأمني.

وقد ارتكزت تلك المرحلة على محاور متعددة، من أبرزها مكافحة الإرهاب، ومحاولة استعادة الاستقرار، والبدء في استغلال الثروات، إلى جانب تطوير المسار الدستوري، وتنشيط الحياة السياسية، والانفتاح على المحيط الإقليمي والدولي.

ويعكس هذا التعدد في الملفات مسعى لتجاوز حقبة من الانقسامات والاضطرابات، باتجاه تأسيس مؤسسات قادرة على الاستجابة للتحديات، وتعزيز سيادة الدولة، والرفع من مستوى المشاركة السياسية والتنمية الاقتصادية. ويُقرأ هذا الحراك بوصفه جزءًا من تراكم في التجربة الوطنية، يحتاج إلى الاستمرارية والمتابعة، ليصبح أكثر رسوخًا وفاعلية.

وفي هذا السياق، تبدو الإدارة الحالية بمثابة واحدة من اللبنات الأساسية في مسار التحول الصومالي، من خلال ما أنجزته من خطوات وما أطلقته من مبادرات، دون أن يُغفل أن نجاح هذه الجهود يظل رهينًا بمدى استدامتها، وإمكانية تحويلها إلى سياسات طويلة الأمد.

ويُفهم من التجربة أن التقدم السياسي والمؤسسي لا ينفصل عن الإرادة العامة في التغيير، ولا عن ضرورة إشراك مختلف مكونات المجتمع في صياغة مستقبل البلاد.

ومن هذا المنظور، فإن استكمال ما بُدِئ، ومراكمة النتائج، يمثلان التحدي الحقيقي للمرحلة القادمة، في سياق تتطلب فيه الدولة أدوات مرنة وحوكمة فعالة؛ لضمان الانتقال من الاستقرار المؤقت إلى البناء المستدام.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version