دمشق- في خطوة لافتة، أقدم حزب العمال الكردستاني، أمس الجمعة، على حرق جزء من أسلحته بشكل علني في مدينة دوكان بمحافظة السليمانية في إقليم كردستان العراق، معلنا بذلك نهاية 4 عقود من العمل المسلح ضد الدولة التركية.

هذا الحدث، الذي وصفه كثيرون بـ”التحول التاريخي”، فتح الباب أمام تساؤلات حاسمة عن تداعياته على قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي ترتبط تنظيميا وفكريا بالحزب الأم، رغم محاولاتها المتكررة تقديم نفسها ككيان سوري مستقل.

من الميدان السوري، تشير مصادر عسكرية داخل قسد إلى أن الخطاب الذي ألقاه زعيم الحزب المسجون عبد الله أوجلان حول نزع السلاح، قوبل بتحفظ داخل البنية القيادية للقوات، خاصة من جانب العناصر المتأثرة بقيادات جبال قنديل.

أرضية صلبة

وأوضح مصدر عسكري في قوات قسد (فضل عدم الكشف عن هويته) للجزيرة نت أن قيادة قسد اعتبرت دعوة أوجلان موجهة فقط للعناصر الموجودة داخل تركيا، في حين رفضت تسليم السلاح داخل سوريا قبل تحقيق ما وصفته بـ”الحقوق السياسية”، وعلى رأسها الفدرالية في شرق الفرات. وأضاف أنها لا تزال تعتمد على الدعم الأميركي والغربي، مستفيدة من دورها في مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية، فضلا عن استمرار التهديد التركي شمال سوريا.

من ناحيته، اعتبر الكاتب والباحث في الشأنين التركي والإقليمي، محمود علوش، أن ما يجري يمثل بداية محتملة لمرحلة سلام تاريخية بين تركيا وحزب العمال الكردستاني. وأكد للجزيرة نت أن عملية نزع السلاح الحالية تسير على أرضية صلبة، وقد تكون مقدمة لإعادة تشكيل العلاقة بين أنقرة والأكراد، ليس فقط داخل تركيا، بل في عموم المنطقة.

وأشار إلى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “يحاول الظهور كرجل سلام”، مستفيدا من التغيّر في المواقف السياسية الداخلية، بما في ذلك دعم زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، للعملية الجارية.

لكن علوش نبّه في الوقت نفسه إلى هشاشة المسار، محذرا من أن وجود تيارات داخل العمال الكردستاني تعارض العملية، إضافة إلى التحديات المرتبطة ببناء الثقة، يجعل من السابق لأوانه الحديث عن نجاح نهائي.

كما لفت إلى أن البيئة الإقليمية تغيّرت، وأن “التراجع الإيراني والفتور الروسي والتحول في الموقف الأميركي ساهموا في تهيئة الأرضية لهذه المرحلة”. وبرأيه، سيكون لنجاح عملية السلام أثر بالغ على مستقبل قسد في سوريا، خاصة في ظل تضاؤل هوامش المناورة أمامها.

تداعيات

في السياق ذاته، يرى الباحث السياسي والمسؤول السابق في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، عامر الخالدي، أن أي تحول في نهج حزب العمال، خصوصا على مستوى نزع السلاح، ستكون له تداعيات مباشرة على بنية الإدارة الذاتية.

ويوضح الخالدي للجزيرة نت أن قسد ومجلس سوريا الديمقراطية “مسد” ليسا كيانين منفصلين تماما عن العمال الكردستاني، بل يتأثران به فكريا وتنظيميا. ووفقا له، فإن قرارا إستراتيجيا كهذا سيُحدث انقسامات داخلية تظهر في 3 اتجاهات رئيسية:

  • الأول: تيار عقائدي متمسك بالولاء الحزبي.
  • الثاني: تيار براغماتي يسعى للاستقلال النسبي عن الحزب الأم.
  • الثالث: يحاول التوفيق بين التوجهين.

ويفرض السياق السوري -حسب الخالدي- معادلة مغايرة، لأن قسد تطورت في بيئة معقدة تجمع بين التحديات الأمنية والصراعات المحلية، من تنظيم الدولة إلى التوتر مع العشائر، مرورا بالتفاوض مع دمشق والوجود العسكري الأميركي. ويقول إن دعوة أوجلان، رغم رمزيتها، قد تستخدم كأداة سياسية لتحسين صورة قسد لا كإشارة فعلية إلى تخليها عن السلاح.

أما بخصوص العلاقة مع دمشق، فيوضح أن تأخر التفاهمات يعود إلى تشابك عوامل خارجية وداخلية، أبرزها اعتماد قسد على الدعم الأميركي كورقة تفاوض، ووجود تيار متشدد داخلها يرفض التنازل عن مكتسباته. كما يرى أن الانقسام داخلها حول “نوايا النظام السوري”، يجعل من التقدم في المفاوضات أمرا معقدا، في ظل عدم وضوح الموقفين الروسي والأميركي.

ويعتقد الباحث الخالدي أن الإدارة الذاتية بإمكانها استخدام خطاب أوجلان لتعزيز شرعيتها السياسية أمام دمشق وأنقرة، بشرط أن ترافق هذه الخطوات إجراءات عملية على الأرض، وإلا فستُفهم كخطوة تكتيكية لا أكثر. ويضيف أن التباينات الداخلية داخل قسد ومسد تحد من القدرة على اتخاذ قرار مركزي حاسم، مما يؤدي إلى بطء الاستجابة السياسية لأي مبادرة جديدة.

تصدعات جلية

من جهته، يشير العقيد والخبير العسكري مصطفى الفرحات إلى أن ما يُطرح في العلن من وحدة داخل قسد لا يعكس الواقع على الأرض. ويوضح أن التصدعات باتت جلية، خاصة بين تيار مسلح تابع للعمال الكردستاني وآخر محلي يسعى للاندماج ضمن مؤسسات الدولة السورية. ويرى أن الحديث عن “اللامركزية” ما هو إلا غطاء لمشروع انفصالي غير قابل للتطبيق، لا جغرافيا ولا سياسيا.

ويضيف الفرحات للجزيرة نت أن المنطقة الشرقية، وخصوصا شرق الفرات، تُعد اليوم من أكثر المناطق حساسية بحكم قربها من العراق وكونها ممرا “للتهريب الإيراني”.

وانتقد “تمسك” قسد بسيطرتها العسكرية على الحدود والمعابر، قائلا إن هذا النهج يعمق من عزلتها السياسية. وأكد أن الولايات المتحدة أرسلت إشارات واضحة بأن العودة إلى دمشق هي الخيار الوحيد المتاح، في ظل تراجع الدعم الدولي للمشروع الذي تمثله هذه القوات.

وشدد الفرحات على أن الوضع القائم لم يعد مقبولا دوليا ولا محليا، موضحا أن الامتعاض العشائري المتزايد في شرق الفرات يعكس رغبة شعبية بالعودة إلى الدولة السورية. ويرى أن السلاح فقد مبرراته، وأن الفرصة متاحة اليوم أمام حل سياسي شامل، شرط تخلي قسد عن “أوهام السيطرة المنفردة” والاندماج ضمن الدولة.

شاركها.
Exit mobile version