لم يكن حفل تنصيب الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب في 20 يناير/ كانون الثاني 2025 ليكون خاليًا من حضور سدنة الاقتصاد الدولي ورؤساء كبرى الشركات الأميركية والعالمية.
فقد حضر مؤسس أمازون جيف بيزوس، ورئيس غوغل سوندار بيتشاي، وررئيس شركتي تسلا وسبايس إكس إيلون ماسك، ورئيس شركة ميتا مارك زوكربيرغ وغيرهم.. وإن كان ذلك المشهد قد كشف عن عناصر التفوق في الاقتصاد الأميركي، فإنه أيضًا قد أظهر النسخة الأكثر تحديثًا للرأسمالية الأكثر توحشًا في التاريخ.
ومما لا شك فيه أنّ ترامب الذي ورث أكثر من ثلاثة عقود من السيطرة الأميركية على الاقتصاد الدولي في سياق معولم، بدا له في أول عهدته الرئاسية أن يفرمل زحف العولمة. فيرتد بالنسق الاقتصادي من الانفتاح والتدويل إلى السياسة الحمائية. وهو ما يجعل العولمة الأميركية مع السياسات الجديدة لترامب تسير على حافة الهاوية.
لقد كان الاقتصاد الدولي المعاصر واحدًا من النتائج المباشرة للحرب العالمية الثانية. فبدءًا بنظام بريتون وودز 1944، وانتهاء بمنظمة التجارة العالمية، مرورًا بالأذرع النقدية والمالية (البنك الدولي 1945- صندوق النقد الدولي 1944) كانت توضع اللبنات الحاسمة التي سيستقر عليها الاقتصاد العالمي.
وفي ثنايا ذلك النظام نشأت “دولة الرفاه” التي وجدت في “الكينزية” قاعدتها النظرية. ولكن رياح السبعينيات كانت قادرة على وضع حد للعصر الذهبي للرأسمالية. فحلت الأزمات الحادة التي فقدت معها الكينزية شروط استمرارها، ليأخذ الليبراليون الجدد المبادرة.
وهو ما سهل بلورة الاتجاهات الكبرى للتفكير في العولمة. فاستعاد رأس المال قدرته على الانتشار، والتمهيد لخيار العولمة، الذي بدأ يعبّر عن نفسه في العقدين الأخيرين من القرن العشرين.
القطب الواحد
لقد جاءت العولمة استجابة لجملة من التحولات الإستراتيجية التي شهدها العالم نهاية الحرب الباردة. فقد أفضت التحولات إلى توازنات جديدة أصبحت خلالها القوى الظافرة هي الصانع الرئيسي لحركة التدويل.
وقد أعقب انهيارَ أوروبا الشرقية 1989 تعميم واسع للنموذج الغربي في الاقتصاد الحر. واكتسب الاقتصاد بعده الدولي من خلال توسيع المشاركة الدولية طوعًا أو كرهًا.
ولعبت منظمة التجارة العالمية – الركيزة الثالثة للاقتصاد الدولي- دورًا لافتًا في رفع الحواجز الجمركية وتوحيد الاقتصادات المتناثرة. وهو ما فتح الباب واسعًا أمام هيمنة القطب الواحد. فبشّر فوكوياما “بنهاية التاريخ”. وتحدث صامويل هنتنغتون عن “القوة العظمى الوحيدة”.
وقد وجدت الولايات المتحدة – قلب الرأسمالية العالمية- البيئة الدولية لذلك التتويج. فألمانيا التي استعادت وحدتها الجغرافية والسياسية لم تكن مهتمة “بتحمل مسؤولية العالم” مثلما قال المستشار السابق هيلموت كول.
والنواة الصلبة لأوروبا الموحدة فرنسا- ألمانيا لم تكن مستعدة لتحدي الهيمنة الأميركية. وروسيا التي ضحت بالإرث السوفياتي لم تكن قادرة على ملء الفراغ. والصين التي فضلت تعزيز تفوقها الاقتصادي لم تكن معنية بتزعم العالم.
فمهّد انكفاء القوى الدولية سريعًا لسيطرة القطب الواحد. فاندفعت الولايات المتحدة لملء الفراغ الإستراتيجي الذي كان من منتجاته المحايثة إعلان العولمة خيارًا أوحدَ لتدبير الاقتصاد العالمي.
العولمة الاقتصادية
ليست العولمة إلا سلسلة من حلقات الاقتصاد الرأسمالي الذي كان دائمًا قادرًا على تجديد أنساقه وتجاوز مزالقه. ونتجت الحلقة الجديدة عن ثورة معرفية أسهمت في تطوير وسائل الاتصال وسرّعت من وتيرة تبادل المعلومات. وأخرى مالية أسهمت في توسيع حركة رأس المال ونشاط الشركات والمؤسسات المالية العالمية خاصة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
بالاضافة إلى مجموعة القوانين والتشريعات التي نجحت في كسر القيود وتعميم التدويل على إثر صعود “منظمة التجارة العالمية” كراعٍ لعمليات التبادل وتحرير التجارة على نطاق عالمي.
فكانت العولمة حصيلة التنويعات التاريخية التي عرفتها الرأسمالية على امتداد أكثر من خمسة قرون. بل كانت التتويج الرسمي لتلك المسارات. وهي أعلى مراحل الرأسمالية، بعكس ادعاء لينين أن “الإمبريالية هي أعلى مراحل الرأسمالية”.
على ضفاف وادي السيليكون نهاية 1995 حيث التقى “كهنة” الاقتصاد العالمي، كانت أمهات الشركات الأميركية تعطي شارة البداية لنمط من الاقتصاد سيصبح عنوانًا للسياسات الجديدة. فقد حملت نهاية القرن العشرين الإعلان عن الولادة الفعلية للعولمة. اتجاه جديد في الاقتصاد الدولي سيصبح – مثلما قال تشومسكي- “النموذج السيّاسي الاقتصادي المعرّف لزمننا”.
قامت العولمة الاقتصادية على درجة من الاندماج بين الاقتصادات الدولية. فنجحت إلى حد كبير في تحجيم دور الدولة والهيئات الرقابية. فكان اقتصاد السوق الحرة عنوانًا على سيادة التدويل المعمم للسياسات والاقتصادات والثقافات.
وعلى مرَّ الزمن اتخذ التدويل طابعًا كونيًا وهيمنيًا، لعبت فيه المصالح والثقافة المتعالية أدوار المحرك لعجلة التاريخ. وقد بُني ذلك الاتجاه على أنقاض “النزعة الحمائية” التي حكمت الاقتصاد الدولي خلال فترات متفاوتة وتبنتها “الكينزية” بعد الحرب العالمية الثانية.
ومما لا شك فيه أن التبنّي الأميركي قد أعطاها دفعة مهمة. فهي لفرط ارتباطها بالاقتصاد الأميركي، قد أصبحت “مرادفًا للأمركة” أو “للعصر الأميركي”. فقد “تعززت جاذبية الأفكار والمؤسسات الأميركية بفضل النجاح الاقتصادي للبلد” مثلما قال فريد زكريا. ولكن تلك المكاسب بدت زمن ترامب وكأنها تدخل حالة اللايقين.
ترامب والسياسة الحمائية
لا يختلف اثنان في أن الاقتصاد الأميركي من أقوى الاقتصادات في العالم. فهو “الأكثر حداثة وتطورًا وإنتاجية”. استفاد من سياقات التدويل حين كان يبادر إلى الرد عن حاجات الدول للإقراض والاستثمار. ومن خلال مقارنة التوجهات الجديدة مع تاريخ أميركي طويل من مقاومة السياسات الحمائية، تتضح حقيقة الانقلاب في الخيارات والتوجهات.
فمنذ الجولة الأولى للمفاوضات حول التجارة الدولية (جنيف 1946) دافعت الولايات المتحدة عن رفع الحواجز الجمركية وخفض الرسوم. ومع نهاية 1947 تمت المصادقة على “الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة GATT” لتصبح المظلة التي تدار من خلالها التجارة الدولية.
وقد تعددت جولات التفاوض بعد ذلك. وفي كل جولة كان المفاوض الأميركي يدافع بشراسة عن إزالة الحواجز الجمركية التي من شأنها أن تعيق التبادل التجاري.
ولكن ترامب – الأداة التي اختارها الله على حدّ تعبير برادلي أونيشي- أعلن منذ الحملة الانتخابية أنه ضد “العولمة”. فمصلحة الولايات المتحدة – من وجهة نظره- “تعلو على أي مصلحة إنسانية أو مصالح الحلفاء حتى من الرأسمالية العالمية”.
والولايات المتحدة لم تصبح غنية إلا “عن طريق ضرائب الجمارك” مثلما قال. فالزعيم المعبأ “بثقافة عقلية رجل العقارات” يحبذ أن يدير سياسته مثلما تدار الصفقات.
ليست الصفقات التي تنزع إلى الانتشار والمشاركة والتشبيك، بل الصفقات التي لا يكون فيها إلا رابح واحد: هو رجل الأعمال الأميركي. ورجل الأعمال الأميركي يرفض الأطر التي ثبتها أسلافه منذ ثمانينيات القرن الماضي مثل اتفاقية النافتا للتجارة الحرة مع كندا، ليعلن منذ البداية “معارضة الاتفاقيات التجارية الدولية وسعيه للتحلل منها”.
في دراسته “إدارة ترامب والقانون الدولي”، يتساءل أستاذ القانون الدولي في جامعة يال هارولد كوه: “هل يكتب الرئيس دونالد ترامب السطر الأخير في العولمة؟”
ولعل هذا التساؤل يجد مبرراته في جملة الإجراءات التي بادر ترامب إلى اتخاذها. من أهمها فرض الرسوم الجمركية على عدة دول تربطها علاقات تجارية أو جغرافية بالولايات المتحدة.
والمعروف أن “الرسوم الجمركية تفرض على الواردات كوسيلة أساسية لتطبيق سياسة الحماية التجارية”. وغالبًا ما تلجأ الدول لمثل هذه الإجراءات لحماية إنتاجها الوطني أو توفير إيرادات للدولة.
وقد شملت تدابير ترامب الدولتين الجارتين كندا والمكسيك بسبب ادعاء عدم القدرة على السيطرة على الهجرة “الضارة”، ودولًا أخرى بدا أن التبادل التجاري يسير لصالحها خاصة الصين والاتحاد الأوروبي.
وقد شملت تلك الإجراءات عدة قطاعات منها السيارات والنفط والغاز والرقائق الإلكترونية والصلب والألمنيوم وغيرها.
إن ترامب باتباعه سياسة حمائية في محيطه الجغرافي أو مع حلفائه التقليديين أو مع القوى الاقتصادية الصاعدة، قد يحدث قطيعة في مسار حركة التجارة العالمية التي تجاوزت التبادل العادي إلى توحيد الأسواق والأنماط والأذواق. وفي هذا التحوّل، بدا البيت الأبيض وكأنه ينغلق على نفسه ويغلق نوافذه، معلنًا انسحابه التدريجي من مشهد القيادة العالمية، ومفضّلاً الاكتفاء بمراقبة الخارج من خلف الزجاج المعتم. وهو بذلك يستعيد تاريخ الصراعات الاقتصادية المحمومة، خاصة خلال القرنين السابع عشر والتاسع عشر.
ففي تلك البيئة التي طغت عليها العلاقات التنافسية، كانت “دولة الأمة” تحتكر إدارة الاقتصادات القومية. فتنزع نحو السياسة الحمائية التي كانت خليطًا من الاعتبارات السياسية والأمنية. وفي السياقات الكولونيالية، تبنت الدول الاستعمارية “سياسة الحماية الجمركية، وأنهت حرية التجارة، وضربت ستارًا حديديًا على كل الأسواق التي كانت تضمّها”.
والحقيقة أنّ موقف ترامب من العولمة يأتي في سياق موقف نقدي من النظام العالمي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية. وهو نظام يرى وزير خارجيته ماركو روبيو أنه “لم يعد مجرد نظام عفا عليه الزمن، بل أصبح الآن سلاحًا يُستخدم ضدنا”.
من هنا نفهم التوق الأميركي نحو المراجعة الشاملة لأسس العلاقة مع عناصر ذلك النظام. فالرئيس الذي يريد استعادة “عظمة أميركا”، ينأى بأميركا بعيدًا عن تحمل مسؤولية العالم. بما في ذلك الانسحاب من المنظمات التي لا تدرّ عائدًا ماديًا على الاقتصاد الأميركي، أو تلك التي يمكن أن تشكل عبئًا على خزينته.
فهو لا يحب شراء النفوذ على غرار ما كان يفعل أسلافه. وإذا احتاج إلى التوسع، فإنه على استعداد تام لتبني مشاريع توسعية لم تنجح العولمة الاقتصادية في تأمينها، مثل اعتبار كندا الولاية 51، والتهديد بالاستحواذ على قناة بنما وغرينلاند وغزة… عبر استخدام القوة العارية. وهو ما يعني أن الولايات المتحدة قد تتحول في عهده إلى دولة استعمارية بمجرد أن بقعة في العالم قد صادفت هوى قائدها.
هنا يطرح هارولد كوه السؤال حول فرضية “الاستقالة الأميركية من القيادة العالمية Global Leadership”. وهي استقالة لا يمكن أن تكون إلا إعلانًا أميركيًا عن نهاية العصر الأميركي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.