شأنها شأن كل الفنون، تمثل الأفلام شكلا فنيا مفعما بالحيوية البالغة ومشبعا بأفكار العقل البشري، فهي بالنهاية من صنع الإنسان الذي استخدم فيها كل الصور المتحركة المذهلة، والأصوات المفعمة بالحياة، ليلتقي صناعُ السينما جمهورَ المشاهدين عبر شريط السيلولويد والحواس، ومنذ بدايتها أواخر القرن الـ19، ظلت الأفلام مصدرا مركزيا للتسلية، إذ تجاوزت سوق الترفيه السينمائي والمنزلي العالمية حاجز 100 مليار دولار عام 2019، أما الآن، فتمتلك منصتا البث الأكثر نجاحا تجاريا نتفليكس و”أمازون برايم فيديو” أكثر من 400 مليون عضو حول العالم.

هذا الاهتمام الكبير بمشاهدة الأفلام والاستجابات الشعورية العميقة معها دفعت كثيرا من الباحثين في عدة مجالات إلى التساؤل عما يدفع الناس لمشاهدة الأفلام، ففي سنة 2012 صدر للدكتور سكيب داين يونغ، أستاذ علم النفس بكلية هانوفرفي إنديانا والمهتم بالثقافة الشعبية وعلم النفس السردي، كتاب بعنوان “السينما وعلم النفس: علاقة لا تنتهي”، حيث طرح ثنائية السينما والعقل البشري، وعرض فيه كيف فسر علماء النفس تأثير أنواع الأفلام على مشاعر الإنسان، وذكر مينستر بريغ في عمله الرائد “الفيلم: دراسة نفسية” عام 1916 أن الهدف الرئيسي من صناعة الأفلام يكمن في تصوير المشاعر.

لا يزال الباحثون حتى اليوم يتفقون مع رأي مينستر، ويبرزون التجربة العاطفية على أنها المفتاح للحفاظ على انشغال الجمهور وإمتاعه بالأفلام، إذ أظهرت الاستجابات الشعورية التي تثيرها الأفلام السينمائية تشابها مع تلك التي تثيرها الأحداث الحياتية الواقعية على المستويات الفسيولوجية، مثل معدل ضربات القلب والنشاط الجلدي الكهربائي، والتعبيرية مثل تعبيرات الوجه، والعصبية مثل الخوف والقلق، والسلوكية مثل رد الفعل المفاجئ.

وقد كشفت دراسة جديدة -قادها معهد مارتن لوثر في جامعة هالي فيتنبيرغ- عن علاقة أنماط الأفلام السينمائية المفضلة لدى الإنسان بمعالجة المشاعر العصبية للخوف والغضب في دماغه، إذ قارن الباحثون بين بيانات تفضيلات الأفلام وسجلات نشاط الدماغ لنحو 257 شخصا باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (FMRI).

ماذا كشف تصوير “الرنين المغناطيسي الوظيفي” خلال التجربة؟

تناولت عدة دراسات مسألة لماذا تعتبر المشاعر السلبية المستحثة من وسائل الإعلام مسلية ويُستمتع بها من قبل جماهير واسعة، ورغم وجود بعض المحاولات التجريبية الأولى لفك رموز هذا السؤال، فإنه لا يزال يُعرف القليل عن الفروق الفردية في تفضيل أنواع الوسائط التي تختلف في الملفات العاطفية، وتعتبر هذه الدراسة هي الأولى من نوعها التي تحقق في ارتباطات نشاط الدماغ بتفضيل نوع الفيلم مع اعتبار خاص للاختلافات المتعلقة بالتفضيل في معالجة المحفزات العاطفية المخيفة والغاضبة.

وقام الباحثون باستقصاء التفاعلات العاطفية بتفصيل من خلال تحليل بيانات 257 شخصا شاركوا معلومات عن تفضيلاتهم في الأفلام، وقد تم تحليل نشاط الدماغ لدى المشاركين عن طريق التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي باستخدام تصاميم مشاهدة الأفلام الطبيعية، إذ تم عرض وجوه خائفة أو غاضبة وأشكال هندسية على الموضوعات في أثناء استلقائهم في جهاز الرنين المغناطيسي.

وركز الباحثون على منطقتين في الدماغ: الأولى هي اللوزة الدماغية المسؤولة عن معالجة العواطف الحيوية، إذ قالت عالمة النفس إستر زويكي من جامعة مارتن لوثر: “يمكن أن تحفز اللوزة الدماغية رد فعل الهروب أو القتال استجابة للتهديدات”، والثانية هي نواة الأكومبنس المعروفة بمركز المكافأة في الدماغ، وكانت النتائج مفاجئة، إذ قالت زويكي: “وجدنا أن معجبي أفلام الأكشن أظهروا أقوى ردود الفعل في كلتا المنطقتين، لم نتوقع ذلك، حيث تقدم أفلام الأكشن عادة العديد من المحفزات”.

لذلك، كان من المنطقي أكثر أن يكون محبو الأكشن أقل تحفيزا، وبالرغم من ذلك فإن النتائج تشير إلى أن عشاق أفلام الأكشن عرضة بشكل خاص للمؤثرات العاطفية ويجدون هذا التحفيز جذابا، ووجد فريق البحث نشاطا دماغيا مشابها لدى الأشخاص الذين يفضلون الكوميديا، وظهرت صورة مختلفة لمحبي أفلام الجريمة أو الإثارة والوثائقيات، إذ كانت ردود أفعال كلتا المنطقتين في الدماغ أقل بكثير على المحفزات العاطفية مقارنة بالمجموعات الأخرى من المشاركين، وعلقت زويكي: “يبدو أن الناس يختارون أنواع الأفلام التي تحفز أدمغتهم بشكل أمثل”.

الاهتمام الكبير بمشاهدة الأفلام والاستجابات الشعورية العميقة معها دفعت كثيرا من الباحثين في عدة مجالات إلى التساؤل عما يدفع الناس لمشاهدة الأفلام (الأناضول)

تفسيرات محتملة للنتائج

لتقييم تفضيلات الأفلام واستهلاك الوسائط، طلب من المشاركين اختيار تفضيلهم من بين 8 أنواع من الأفلام (أكشن، جريمة/ إثارة، رعب، دراما، رومانسية، كوميديا، وثائقي، خيال علمي/ فانتازيا).

وقد عرض على المشاركين اختيار نوعين مفضلين بالتساوي، وذلك للحصول على صورة واقعية لتفضيلات الأفراد في الأفلام ولمنع فقدان المعلومات المحتمل بسبب اختيار واحد بالإجبار، واختار 84.8% هذا الخيار، ومن ثم تم تقسيم المشاركين إلى مجموعتين في حال تم الإبلاغ عن نوعين مفضلين، وقد تم استبعاد نوع الرعب من جميع التحليلات، وذلك بسبب صغر حجم العينة (n=6) وبقيت 7 أنواع (أكشن، جريمة، دراما، رومانسية، كوميديا، وثائقي، خيال علمي/ فانتازيا) لتحليلات الرنين المغناطيسي الوظيفي.

من أجل إيجاد تفسيرات محتملة للاختلافات في اتجاهات التأثير لتفضيل أفلام الأكشن من جهة وتفضيل أفلام الجريمة/ الإثارة والوثائقيات من جهة أخرى، تجب مراجعة تعريفات الأنواع السينمائية، ووضع الأكشن والوثائقي في قطبين متعارضين في أبعاد مختلفة مثل الخيال مقابل غير الخيال، والعاطفي مقابل غير العاطفي، إذ تبدو الحدود بين الأكشن والجريمة/الإثارة أقل وضوحا.

وحسب ورقة الدراسة، يشترك كلا النوعين الأكشن والجريمة في نطاق عاطفي مشترك يتميز بشكل أساسي بإثارة مشاعر سلبية وبدائية، مثل الخوف والغضب من خلال تصوير مشاهد خطيرة وتهدد الحياة وعنيفة.

علاوة على ذلك، يتم استخدام نقل الإثارة كأداة أسلوبية لتراكم الإثارة طوال الحبكة لخلق إثارة مبالغ فيها في ذروتها في أفلام كلا النوعين، وبالتالي مع الأخذ في الاعتبار التداخل الكبير في الجودة والعاطفية، حيث تبدو الاختلافات في الاستجابات في النظام الحوفي (الجزء من الدماغ المسؤول عن الاستجابات السلوكية والعاطفية) غير متوقعة، وعلى الرغم من أن الأحاسيس العاطفية المشابهة تستهدف في كل من أنواع الأفلام الأكشن والجريمة/الإثارة.

إلا أن الوظيفة الأساسية قد تختلف، وقد اختلف الباحثون في تفسير تفضيلات الأنواع، فمنهم من يرى أنها ليست تعبيرا عن تفضيل المشاعر الأساسية المستحثة من الأفلام ذات الصلة، ولكنها نتيجة للإشباع المستمد من هذه المشاعر السينمائية الأساسية، وكل نوع من الأفلام لديه القدرة على تضمين إشباعات عاطفية متنوعة، وتختلف القابلية لتلك الإشباعات بين الأفراد، فمثلا في دراسته “لماذا نستمر في العودة” التي أجراها توم روبنسون عام 2014 والتي قام هو مجموعة من الباحثين من خلالها بتحليل جاذبية البشر لأفلام الرعب عن طريق استخدام “منهجية كيو (Q)”، وهي طريقة تستخدم لدراسة وجهات النظر الذاتية تركز على كيفية رؤية الأشخاص للأمور بشكل شخصي من خلال فرز البيانات، وفقا لآرائهم بطريقة منظمة حيث تساعد هذه الطريقة الباحثين من تحديد تصورات مختلفة بين المجموعات.

وحددوا 3 أنواع مختلفة من عشاق الرعب، بناء على إذا ما كانوا يحصلون على الإشباع بشكل أساسي من التجربة العاطفية، أو من فك رموز الحبكة الغامضة، وهو ما يظهر أنه بالنسبة لبعض الأنواع، تكمن احتمالية الإشباع العاطفي بشكل أساسي في تجربة المشاعر والتهييج المصاحب بحد ذاته، بينما تكون المشاعر أكثر وظيفية في أنواع أخرى مثل تحدي قدرات المشاهدة على التكيف أو تعزيز الانغماس في القصة.

إذا تم اتباع الفكرة القائلة بأن أنواع الأفلام تفضل من قبل الأفراد الأكثر عرضة للإشباع المرتبط بنوع معين، يبدو من المعقول أن الأفراد الذين يميلون بشكل أكبر من الناحية العصبية للاستجابة والاقتراب من الخوف والغضب هم أولئك الذين يفضلون الأفلام التي تعتمد بشكل أساسي على الإثارة العاطفية الناتجة عن تمثيل واستحضار هذه المشاعر.

وفي المقابل، يبدو أيضا منطقيا أن أولئك الذين لديهم استجابة منخفضة وميول أقل تجاه المحفزات العاطفية، مثل الوجوه الخائفة والغاضبة، يسعون لمشاهدة الأفلام التي تشرك المشاهدين على مستوى معرفي أكثر من المستوى العاطفي مثل المعلومات الحقيقية في الوثائقيات.

كما يمكن أن تكون الاختلافات بين الأفراد في تفاعل الدماغ مع المحفزات العاطفية السلبية أيضا نتيجة لمشاهدة أفلام من نوع معين بشكل متكرر، وكل هذه الاحتمالات تحتاج لكثير من الأبحاث المستقبلية، خاصة أن هذا البحث لم يقم بتحليل بيانات عمل الدماغ خلال مشاهدة أفلام الرعب التي تتميز بمفارقة مخيفة، والخوف ينشأ عندما يتعرض الناس لتهديدات بالأذى المادي أو الاجتماعي.

والإنسان في العادة يبذل كل جهده ليتجنب المواقف المثيرة للخوف، وهو ما يطرح تساؤلات عن السبب العلمي المنطقي وراء رغبة كثيرين في مشاهدة أفلام الرعب.

لكن تبقى نتائج هذه الدراسة خطوة مهمة لفهم المكونات الرئيسية لإنتاج النوع والدرجة المثلى من التحفيز، وينبغي أن تعمل الأبحاث القادمة في تأثير التعرض لمحتوى الوسائط المتوافق أو غير المتوافق مع ميول الاستجابة العصبية الفردية على الرفاهية النفسية العامة.

شاركها.
Exit mobile version