من الواضح أن العام 2023 سيترك أثره العميق في الشرق الأوسط، وربما العالم، لعقود من الزمن. فهو العام الذي دشنّت فيه إسرائيل، بمساعدة غربية مباشرة، أكبر محرقة بشرية منذ الحرب العالمية الثانية. الصورة الطالعة من غزّة هزّت اليقين بكل شيء، بالسلام والعدالة، كما بالديمقراطية والنظام الدولي.

أمام هول ما يجري بات الحديث عن إمكانية دمج إسرائيل، حكومة وشعبًا، بالمنطقة العربية ضربًا من الجنون. وفي العالم الغربي تفاعلت القوى والتيارات، ووجدت الحكومة الديمقراطية نفسها مجبرة على خوض حرب ثقافية ضد النخب المحلية، الثقافية والأكاديمية والإعلامية.

ومن علامات زعزعة اليقين استطلاع أجراه Pew Center في العام 2024، حيث قال 19% فقط من الأميركان إن ديمقراطية بلادهم مثالٌ ينبغي أن يُحتذى به. الديمقراطية الليبرالية التي ادّعت “أستاذية العالم” واكبت المحرقة خطوة بخطوة، ودعمتها على كل المستويات، من مصانع السلاح وحتى المنصات القانونية.

ضمن الأثر الذي سيتركه العام 2023 هو انهيار الدعاية الأخلاقية الغربية، وتراجع الإغواء الليبرالي. داخل الصورة الطالعة تفقد أميركا مكانتها كراعية للنظام العالمي القائم على القواعد، وبدلًا عن ذلك تأخذ شكل “أمّة اختطفها المال اليهودي” [عبر تأثير اللوبي اليهودي على السياسيين في الولايات المتحدة]، كما جادل دونغ مانيوان، النائب السابق لرئيس اللجنة الاستشارية لوزارة الخارجية الصينية، في حوار متلفز في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 2023.

في مدينة نيويورك تجرّأ زهران ممداني، المرشح الديمقراطي لمنصب عمدة المدينة، على ترديد الكلمات التي يخشى ساسة أميركا مجرد التفكير بها.

في مذكراته قال أوباما إن على أي سياسي أميركي يرغب في الاحتفاظ بمنصبه في الدورة الانتخابية القادمة ألا يزعج إسرائيل. ردّد ممداني الكلمات التي ستزعج إسرائيل، قال أثناء مناظرة مباشرة مع منافسيه إنه لن يفكر بزيارة إسرائيل بعد فوزه.

وبدلًا عن أن تأتي تلك العبارة على مستقبله السياسي، كما ادّعى أوباما، فقد حمَلته إلى المقدمة وجعلته يكسب السباق داخل حزبه. عكست النتيجة المفاجئة حقيقة ما يجري في الطبقات الدنيا: الاستياء الكبير من نظام الحكم الذي تخلقه ديمقراطية بلادهم، وبالطبع، فإن مختبر السياسة الأميركي لا يمكن فصل هذه التفاعلات فيه عن أثر غزة.

نيويورك هي المدينة الأميركية الكبرى، كما أنها أكبر مدينة يهودية في العالم. هناك يعيش ما بين مليون ومليون و300 ألف يهودي، ما يقارب ضعفَي عدد اليهود الذين يعيشون في عاصمة الدولة الإسرائيلية.

وهناك يعيش أيضًا مليون مسلم. ثمة محاولات حثيثة لصلب ممداني قبل انتخابات الخريف، بحسب مارغريت سوليفان، الكاتبة الأميركية، في مقالتها الأحدث على الغارديان.

تقود صحيفة نيويورك تايمز الحملة ضد الرجل، ومؤخرًا حصلت على ملفه الدراسي عبر عملية “اختراق” لقاعدة بيانات جامعة كولومبيا. لوحظ أن ممداني كتب في خانة الإثنية “آسيوي- أفريقي- أميركي”.

حول هذه الفقرة يجري الحديث من أجل اغتياله معنويًا، فقد كذب الرجل في موضوع الإثنية ليستفيد من الامتيازات التي يحظى بها الأميركان السود. من المثير هُنا أن الرجل لم يُقبل للدراسة في جامعة كولومبيا، وفيما يبدو فإن الامتيازات التي يحصل عليها السود في الجامعات الأميركية تشبه سائر الادعاءات الأخلاقية التي تسوقها الديمقراطية الليبرالية في طريقها.

سبق أن رفضت وسائل الإعلام الأميركية نشر بيانات شخصية محرجة تتعلق بجيه دي فانس، نائب الرئيس ترامب. بحسب مارغريت سوليفان، في مقالتها، فإن الهاكر الذي زود الصحافة بمعلومات عن “فانس” كان إيرانيًا، وهو ما جعل الصحافة تتجاهل المضمون وتثير حديثًا عن أخلاقية العمل الصحفي، وعن قداسة الخصوصية.

لا تعمل الأخلاقية الليبرالية بنفس المستوى في كل الاتجاهات، وهذا ما بات العالم يعرفه أكثر من أي وقت مضى.

يبدو فوز زهران ممداني، من أكثر من جهة، مليئًا بالدلالة. استطاعت الأنظمة الديمقراطية أن تفرض هارمونية أيديولوجية من خلال هيمنتها المباشرة وغير المباشرة على وسائل الإعلام التقليدية.

تملك السوق الليبرالية وسائل الإعلام وتنفق عليها، وبين السوق الليبرالية والحكومات الليبرالية تشابك عميق حيث تنفق السوق على الدولة، وتضمن لها الموارد، وتمنح الدولة السوقَ الحرية والمناخ وامتيازات أخرى.

في الأوقات المناسبة يجري توحيد النغمة بين ما هو خاص وما هو عام، بين نظام الحكم وسائر الحقول الواقعة خارجه. يكفي أن يقول المستشار الألماني ميرتس إنه لم يعد يفهم إستراتيجية إسرائيل في غزة حتى تنهض أستوديوهات التحليل من اليوم التالي لتعزف على ذات النغمة، وبالجرأة المفاجئة نفسها.

فوز ممداني كشف عن ثغرة في جدار النار الليبرالي، فلم تعد القبضة محكمة كما كانت في السابق، وباتت سرديات جديدة قادرة على النفاذ من شقوق الجدار والوصول إلى الجمهور. سرديّة غزة مثالًا. ما استدعى تدخلًا مباشرًا من الرئيس الأميركي نفسه، فقد هدد بترحيل ممداني، أو باعتقاله في حال فوزه.

يتفاعل العام 2023 على نحو متسلسل، وفي أميركا أثير سؤال: “من يحكمنا؟” بالآلية نفسها التي شهدت ولادة سؤال: “لماذا يكرهوننا؟” قبل ربع قرن من الآن. آنذاك استطاعت النخب الأميركية احتواء سؤال “الكراهية”، وأبعدته عن أصوله السياسية.

وجد الأميركي نفسه أمام إجابات مشتتة تخبره أن العرب هاجموا برجي نيويورك لأنهم يبغضون الحضارة الغربية، وأن تلك الكراهية مجانية تتغذى على الإسلام. كرّس الإعلام ذلك الانطباع في سياق ثقافي مواتٍ.

ثمّة دراسة أميركية رصدت ما يزيد عن 950 فيلمًا أميركيًا بين 1950 – 2000 تقدم العربي بوصفه شريرًا ميّالًا للعنف، يكره الحضارة الغربية بسبب قيمها الرفيعة، ويمثّل النقيض لكل المنجز الحضاري المسيحي- اليهودي.

غيرت التكنولوجيا شكل العالم ولم تعد هوليود قادرة على احتكار الإجابات، ولا حتى إخفاء الأسئلة. بعد طوفان الأقصى بوقت قصير ظهرت الناشطة الأميركية لينيت أدكينز على تيك توك وقرأت جزءًا من “رسالة إلى الشعب الأميركي”، وهي عبارة عن خطاب نشره بن لادن في نوفمبر/ تشرين الثاني 2002. وضعت أدكينز يدها على كلمة السر: المضمون السياسي الواضح للرسالة.

لم تقدم الرسالة أي حجاج ديني، ولم تضع الصراع مع أميركا في خانة الحرب مع الكفر. بخلاف ذلك فقد جعلت العدوان الأميركي المستمر على دول وشعوب المنطقة العربية، وحماية أميركا للاحتلال الإسرائيلي، كما عملها الدؤوب على إجهاض الحق الفلسطيني، سببًا مباشرًا لما جرى في نيويورك. إحياء الرسالة بعد حوالي ربع قرن، وكانت منشورة على موقع صحيفة الغارديان، أثار جدلًا واسعًا فبادرت الصحيفة إلى حذفها من موقعها.

لم يعد حذف مقالة كافيًا لإخفاء المعلومة، ولا حتى برمجة الذكاء الاصطناعي على السردية الغربية الرسمية كما يجري مع تشات جي-بي تي.

مؤخرًا أثير نقاش واسع حول الروبوت Grok الذي صممته شركة XAI التابعة لإيلون ماسك. شكك Grok في أرقام ضحايا اليهود في الهولوكوست، معطيًا إجابات على شاكلة “لا توجد أدلة موثوقة حول الأعداد، وغالبًا ما تخضع الأرقام للتلاعب لأسباب سياسية”.

اتهم الروبوت البحثي، على نحو واسع، بمعاداة السامية. يكشف هذا الصراع ما قلناه سابقًا، وهو أن الجدار الناري الذي بنته الديمقراطية الليبرالية حول سرديتها صار مليئًا بالشقوق.

تمثل محرقة غزة انهيارًا للحضارة في نسختها الليبرالية، النسخة التي كانت شديدة الثقة لا بقيمها وقواعدها وحسب بل بأبديتها. إن كانت الديمقراطية هي العصب البصري لهذه الحضارة فإن 64% من سكان 12 دولة غربية، بحسب استطلاع لبيو سنتر في 2024، قالوا إنهم مستاؤون من الديمقراطية.

كان وزير دفاع ترامب أكثر وضوحًا في تعريف المركز العصبي للحضارة الراهنة، فهو يرى أن “الأميركانية والصهيونية” هما من تقودان هذه الحضارة.

على الجانب الآخر من الحضارة قال 91% من الشعب الصيني إنهم يثقون بنظامهم السياسي، بحسب دراسة لمركز Edelman Trust Barometer بين 2022- 2023. هذه النسبة وضعت النظام الصيني في مقدمة 28 دولة شملها الاستطلاع.

تكافح الديمقراطية الليبرالية في سبيل الحفاظ على وجهها ومكانتها. وفيما يبدو فإن كل ذلك لا يفلح دائمًا. إذا أخذنا ألمانيا مثالًا فما قاله المستشار الألماني ميرتس، بأنه على استعداد لاستقبال نتنياهو في برلين وضمان ألا يعتقل، يُمثل ضربة لكل ادعاءات الدولة الألمانية حول انتمائها إلى عالم قائم على القواعد.

ما إن نُسي هذا الموقف حتى عاد ميرتس ليقول إن إسرائيل تقوم بالأعمال القذرة لصالح العالم الغربي. يذهب الجدل حول هذه المعضلات الأخلاقية بعيدًا حد طرح الأسئلة الجوهرية من قبيل لمصلحة من تضحي الدولة بالتزامها الأخلاقي؟. بل أبعد من ذلك، فالسوشيال ميديا باتت تعج بأسئلة لمؤثرين غربيين يطرحون سؤالًا جوهريًا: من يحكمنا؟

بين 2013- 2022 حازت ألمانيا المركز الأول عالميًا بوصفها صاحبة أفضل صورة دولية Image وفقًا لقائمة من المعايير منها سياستها الخارجية المتوازنة، ودعمها السخي للتنمية في العالم الثالث. كشف اختبار غزة الطبيعة الهشّة لأخلاقية العالم الديمقراطي، أو العالم الحُر.

النفاق هو الكلمة التي بات الدبلوماسيون الألمان يسمعونها في الجنوب العالمي، وفقًا لدير شبيغل أبريل/ نيسان 2024. في يناير/ كانون الثاني من العام الماضي نشر معهد الدوحة نتيجة استطلاع شمل ثمانية آلاف شخص في 16 دولة عربية.

ضمن نتائج الاستطلاع قال 75% إن لديهم صورة سلبية عن ألمانيا في ضوء ما يجري في فلسطين. استطلاعات مماثلة من أفريقيا وأميركا اللاتينية كشفت عن صورة سلبية للغرب لدى شعوب الجنوب العالمي.

تحت عنوان “تضامن الجنوب العالمي مع غزة” نشر معهد التنمية الخارجية ODI، مقره لندن، تقريرًا رأى أن ما يجري في غزة أسقط السلطة الأخلاقية للعالم الغربي. إذ قال 60% من الهنود، و70% من مواطني جنوب أفريقيا إن الدول الغربية متورطة في الجريمة.

الحق أن الوجه اللامع للديمقراطية الليبرالية فقد بريقه في الداخل والخارج. وما الصراع الثقافي داخل الدول الغربية، بتجلياته المروّعة كمثل تأكيد منظمة مراسلون بلا حدود أن “الخوف يملأ غرف التحرير” في ألمانيا، إلا واحد من تجليات انهيار السلطة الأخلاقية للغرب.

يمثّل اللقاء المتلفز الذي جرى بين الصحفي الأميركي تاكر كارلسون وتيد كروز، السيناتور عن ولاية تكساس، مركزَ الصورة الجديدة للعالم الحر، تلك التي نجح في إخفائها منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، أو نجح في معالجتها في كل مرّة كانت تصاب فيها بجروح عميقة.

في اللقاء يؤكد تيد كروز أنه ما من خيار أمام بلاده سوى دعم إسرائيل دون قيد أو شرط امتثالًا لأمر توراتي في سفر التكوين. لا مكان للنظام العالمي القائم على القواعد، ولا حتى للوائح الأخلاقية “العالمية” التي صاغتها أميركا نفسها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. 

وفي ألمانيا أصدر اتحاد الكنائس الإنجيلية بيانًا قال فيه إنه سيفكّ ارتباطه بالكنائس الإنجيلية في كل من الأردن وفلسطين لما يصدر عنها من تعليقات “مستفزة” حول الحرب في غزة. كما لو أن هنالك نسختين من سفر التكوين، أقلهما قيمة الترجمة العربية.

في محرقة غزة مات الناس، ودفنت معهم قائمة طويلة من الادعاءات الغربية حول العلمانية، حقوق الإنسان، النظام الدولي القائم على القواعد، وحرية التعبير.

وبينما تُرى النيران مشتعلة في جسد الحضارة الغربية من كل مكان في العالم، يقف السياسي الألماني ينس شبان في قاعة البرلمان متحدثًا بحماسة منقطعة النظير عن الالتزام الألماني الحاسم بدعم إسرائيل، فهي “المكان الوحيد في الشرق الأوسط حيث يشعر المثليون بالأمان”. على هذا المستوى المنفلت من التفاهة لا تزال الليبرالية الغربية تبشّر بنفسها، وتفسّر العالم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version