قال المفكر الإستراتيجي الألماني الراحل كارل فون كلاوزفيتز: إن “فتح مسارح قتال ثانوية في ظروف معينة لتشتيت قوة العدو جيد، ولكن يجب ألا يكون ذلك على حساب النجاح في مسرح العمليات الرئيسي، والذي يمثل في نهاية المطاف المسرح الأهم بالنسبة إلى قيادة الجيش”.

تحسين الوضع على طاولة المفاوضات

أخذ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من ألمانيا السلاح للدفاع عن بلاده في مواجهة توغل الجيش الروسي، وعلى ما يبدو أخذ النصيحة من مفكّرها كلاوزفيتز أيضًا، ولكن ليس بهدف الإلهاء، وفتح جيوب قتالية جديدة للجيش الروسي وحسب، بل لتحسين وضعه على طاولة المفاوضات عندما يحين وقت السلام.

اعتبر زيلينسكي أن التوغل العسكري الجريء لجيشه في مقاطعة كورسك الروسية، يهدف إلى إنشاء منطقة عازلة؛ لمنع موسكو من شنّ مزيد من الهجمات عبر الحدود، من خلال تدمير جسور الإمدادات الحيوية للجيش الروسي.

بات شبح “انقطاع الإمدادات” يهدد فعلًا القوات الروسية في كورسك، عقب استهداف سلاح الجو الأوكراني ثالث جسور نهر سيم، بعد استهداف جسر يبعد عنه قرابة 16 كيلو مترًا، وجسر آخر في منطقة “زمانوي”. لا مبالغة في القول إن هذه الجسور تعدّ عصب الإمدادات بالنسبة إلى الجيش الروسي، والتي استعاض عنها بجسور عائمة، لكنها تحولت هي أيضًا لأهداف مركّزة أوكرانية.

إنّ قرار التوغل وضرب الجسور – لا شكّ – هو “جريء”، ولكن غير كافٍ لعرقلة تقدّم الجيش الروسي شرقي أوكرانيا، حيث تفيد آخر التقارير الميدانية، الجمعة 29 أغسطس/آب الماضي، أنّ روسيا حققت في الساعات الماضية مزيدًا من التقدم باتجاه مدينة بوكروفسك الإستراتيجية في منطقة دونيتسك بشرق أوكرانيا.

ومع إعلان الجيش الروسي سيطرتَه على بلدة كوميشيفك قرب بوكروفسك، فقد دعت كييف سكان المنطقة إلى إخلائها، فيما أقر زيلينسكي في مداخلته المسائية اليومية بأن الوضع على هذه الجبهة أصبح “بالغ الصعوبة”. وتشير التقارير إلى أنه إذا وصل الجيش الروسي إلى بوكروفسك، فإنه سيقترب أكثر من الحدود الإدارية لمقاطعة دونيتسك مع مقاطعة دنيبروبتروفسك.

واضح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فيما يريده من حربه على أوكرانيا، هو ما حدّده في بداية الحرب، بضم أقضية وأقاليم إلى حدود بلاده لإبعاد خطر تموضع حلف شمال الأطلسي، وضمان أمن بلاده القومي.

ولكن التساؤلات التي تطرح نفسها هي: ماذا يريد الأوكراني من دخول العمق الروسي، بعدما أعلن قائد جيشه أولكسندر سيرسكي، الثلاثاء 27 أغسطس/آب، أنّ قواته سيطرت على مئة بلدة، أي ما مساحته 1294 كيلومترًا مربعًا في منطقة كورسك الحدودية الروسية، وأسرت 594 جنديًا منذ بدء هجومها قبل ثلاثة أسابيع؟

قرارات عسكرية صعبة

ما يريده زيلينسكي يدخل في خانة الدفع نحو التفاوض انطلاقًا من الميدان وتطوّراته، وبالتالي توصّل إلى أن على بلاده أن تقاتل الروس بطريقةٍ مختلفة. وقد يكون التوغّل الذي قام به في روسيا يهدف إلى فرض معادلةٍ جديدةٍ في أرض الميدان، “الأرض مقابل الأرض”، لاسيما أنه استولى على نفس المساحة التي احتلّها الجيش الروسي في أوكرانيا إلى الآن.

إذ قد يكون زيلينسكي، قارئًا جيدًا للتاريخ، وسعى على قاعدة “الأرض مقابل السلام” للاحتذاء بما حقّقه الجيش الإسرائيلي في 5 يونيو/حزيران 1967 عندما اجتاح بشكلٍ مفاجئ حدود دول الجوار، في حرب أطلق عليها “التجلي الإلهي”، ومن خلالها استطاع أخذ مصر والأردن إلى طاولة المفاوضات للتوقيع على معاهدات السلام بينهم.

وهي دوافع علنية نطق بها الرئيس الأوكراني، لكن ما خفي من هذا التوغّل على ما يبدو هو الأعظم. إذ يتوقف المراقب عند ما تحمله تلك الجرأة التي دفعت الجيش الأوكراني لإقدامه على اقتحام الحدود الروسية لأول مرة في تاريخ روسيا منذ الحرب العالمية الثانية، واحتلاله الأراضيَ وقصفه خطوطَ الإمدادات عبر تدميره الجسور، الأمر الذي يُعتبر حدثًا يتخطّى الجرأة ليُصَنّف ضمن حالة التهوّر العسكري.

فهو يشكّل تهديدًا مباشرًا لأمن روسيا القومي، ما سيسمح لها بأخذ القرارات العسكرية الصعبة على رأسها استخدام الأسلحة النووية التي هدّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستخدامها في أكثر من مناسبة.

تحتلّ مقاطعة كورسك أهمية كبيرة في التاريخ الروسي، فهي التي شهدت أكبر معركة دبابات في التاريخ خلال الحرب العالمية الثانية، وهي المعركة التي مثّلت نقطة تحوّل في تلك الحرب، عندما أطلقت ألمانيا عملية “القلعة”، والتي كانت بمثابة ردّ هتلر على هزيمته المدمّرة على يد الجيش الأحمر السوفياتي في معركة “ستالينغراد”.

فهل ما فشل فيه هتلر النازي سينجح فيه زيلينسكي (الذي يتّهمه بوتين بالنازي)، ويستطيع الجيش الأوكراني إعادة كتابة التاريخ الحديث، ويأخذ روسيا إلى المفاوضات بعدما أعلنت عن إلغائها منذ التوغّل الأوكراني في أراضيها؟

قالت مصادر في جهاز المخابرات الخارجية الروسي، إن أجهزة مخابرات أميركية وبريطانية وبولندية شاركت في تخطيط التوغّل الأوكراني في منطقة كورسك الروسية. وأضافت المصادر أن الوحدات المشاركة في العملية خضعت لتدريبات قتالية في مراكز تدريب في بريطانيا وألمانيا، وفقًا لما ذكرته صحيفة “إزفيستيا” الروسية.

كما أن الجيش الأوكراني قد شنّ هجومًا مفاجئًا على المنطقة الروسية في السادس من أغسطس/آب الجاري، واصفًا إياه بأنه الأضخم، مع دخول القوات الأوكرانية منطقة كورسك الروسية، وهي جزء حيوي إستراتيجي من روسيا.

فرض معادلات جديدة

حملت التقارير الروسية اتهامات مباشرة إلى جهات أجنبية شاركت من خلال تقديم الدعم العسكري واللوجيستي والاستخباراتي للقوات الأوكرانية في تنفيذ توغّلها.

إذ تمّ نقل الجنود المشاة في مركبات دعم مدرّعة قدمها الغرب، واستخدمت طائرات سترايكر وعربات همفي الأميركية وماردر الألمانية، مع رغبة أوكرانية في استخدام المزيد من المعدات الغربية مع استمرار التوغّل، على رأسها صواريخ أتاكمز أميركية الصنع لضرب المطارات في عمق روسيا، وصواريخ ستورم شادو لضرب الطرق وخطوط السكك الحديد التي تجلب التعزيزات الروسية.

قد تصيب هذه التقارير وقد تخطئ، لاسيما أن الغرب يدّعي عدم الاطلاع على التفاصيل، وهذا يمكن أن يكون جزءًا من الحقيقة.

“حسابات الحقل قد لا تتطابق مع حسابات البيدر”، فزيلينسكي سارع الخطوات لنقل الحرب إلى الضفة الأخرى من القتال، أي إلى العمق الروسي، وهذا ما قد تستغلّه روسيا لصالح استخدامها أسلحة أكثر فتكًا، وتنفّذ ضربات كانت تعتبر إلى الآن أنها خارج قواعد الاشتباك.

لقد أدان الرئيس الأميركي جو بايدن الاثنين 26 أغسطس/آب “الهجوم الشائن” الذي شنته روسيا على شبكة الطاقة والبنية التحتية لمناطق في أوكرانيا، منها كييف العاصمة، وهو الهجوم الأضخم الذي تشنه روسيا مستخدمةً للمرة الأولى صواريخ تفوق سرعة الصوت من طراز “خنجر”، أدت إلى قتل وجرح العشرات.

لكن ما دفع زيلينسكي للرهان، هو أنه فهم شيئَيْن مهمَّيْن في قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في واشنطن هذا الصيف؛ أولهما أن أوكرانيا ليست لديها أي فرصة في الانضمام إلى الحلف في وقتٍ قريب، وثانيهما أن الرئيس الأميركي جو بايدن الذي رحّب به باعتباره بطة عرجاء، ليس له من الأمر شيء.

على طريقة صديقه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يسعى زيلينسكي على ما يبدو إلى جرّ الولايات المتحدة والغرب بشكلٍ عام إلى حربٍ مباشرةٍ مع روسيا. إذ إن الوضع في الميدان لم يعد لصالح كييف، وإن الحرب في الشرق الأوسط أخذت الكثير من الاهتمامات الأميركية على الصعيدَين: الدبلوماسي والعسكري، وأتى هذا على حساب دعم أوكرانيا التي عبّر مسؤولوها في أكثر من مناسبة عن أنها تقاتل عن أوروبا.

إنها الفرصة الأنسب لزيلينسكي لفرض معادلته الجديدة في ساحات القتال، حيث ترزح أميركا على وقع خطابات المرشحين إلى البيت الأبيض. فزيلينسكي أخذ خيار الرهان من هذه العملية، مستغلًا نهاية ولاية الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، وموصلًا الرسالة إلى المرشح الجمهوري دونالد ترامب، بأنّ قرار الحرب والسلم لن يكون باتّصالٍ هاتفيٍ كما عبّر في أكثر من مناسبة؛ لأنّ التوغّل هذا أعاد خلط الأوراق من جديد، ورفع من مستوى التحدي إلى أعلى درجات الخطورة، لاسيما أن المعركة الآن باتت داخل أراضي روسيا وتمسّ أمنها القومي.

لقد فتح التوغّلُ الحربَ على كافة السيناريوهات، وباتت كل الاحتمالات واردة على رأسها الانزلاق نحو الحرب العالمية الثالثة، فهل كان فعلًا هذا التوغّل جرأةً زائدة عند الأوكراني، أم تهورًا كان يمكن تجنّبه؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version