في قلب وادي الأردن، يظل البحر الميت ذلك المسطح المائي الفريد محط اهتمام العلماء والزوار على حد سواء بمياهه الغنية بالأملاح وتركيباته الكيميائية الفريدة حيث يمثل ظاهرة طبيعية استثنائية، وتثور تساؤلات عدة حول الأسباب التي جعلت مياهه تفوق في ملوحتها البحار والمحيطات الأخرى بـ10 أضعاف، وكيف تطورت هذه التركيبة الفريدة لتجعل البحر الميت أيقونة للملوحة.

وخلال الدراسة المنشورة في دورية “إيرث آند بلانيتري ساينس ليترز” حاول فريق بحثي من كلية علوم الأرض والبيئة بجامعة سانت أندروز بألمانيا الإجابة عن هذه الأسئلة عبر رحلة في أعماق العلوم الجيولوجية والكيميائية، واستعانوا خلالها بـ”نظائر البورون” لكشف أسرار هذا المسطح العريق.

ومنذ ملايين السنين، كان البحر الميت جزءا من نظام بحري أكبر يمتد إلى البحر الأبيض المتوسط، لكن بعد انفصال هذا النظام خلال حقبة البليوسين (تمتد من حوالي 5.3 ملايين سنة إلى 2.6 مليون سنة مضت) بدأ البحر الميت في التحول إلى خزان مائي مغلق، مما أدى إلى تراكم الأملاح والمعادن بشكل استثنائي. ووفرت الدراسة التي قادتها الباحثة هانا جوريكوفا، والتي اعتمدت على قياس نسب نظائر البورون في الرواسب والمياه، رؤى غير مسبوقة حول ديناميكيات تطور البحر الميت.

ومن جانبه، يصف باحث ما بعد الدكتوراه بجامعة إكس-مرسيليا بفرنسا، والباحث الرئيسي بالدراسة الدكتور جمال العشيبي -في تصريحات خاصة للجزيرة نت- هذه الدراسة بأنها “خطوة هامة في فهم تطور مياه البحر الميت” مشيدا بالمنهجية المتقدمة التي استخدمها الباحثون عبر توظيف 6 أدوات تحليلية.

البورون عنصر غير معدني يمتلك صلابة عالية وهو ضعيف التوصيل الكهربائي (جيمس مارشال)

لماذا نظائر البورون؟

والبورون عنصر غير معدني يمتلك صلابة عالية، وهو ضعيف التوصيل الكهربائي، ويندرج في مجموعة العناصر شبه الموصلة، ويوجد بالطبيعة في صورة مركبات مثل البوراكس والكرناليت والكوليمانيت، ويحتوي على نظيرين رئيسيين هما (بي 10) و(بي11) والنظائر هي أشباه كيميائية لنفس العنصر.

ويعتبر هذا العنصر حساسا للتغيرات البيئية والكيميائية، لذلك فإن نظائره توفر معلومات قيمة عن مصادر المياه والتفاعلات الكيميائية التي جرت على مدار آلاف السنين، وكشفت تحليلات أجراها الباحثون أن العمليات الطبيعية مثل تبخر المياه وترسب المعادن وامتصاص البورون على الطين ساهمت في زيادة تركيز الملوحة وإثراء المياه بنظير البورون الثقيل (بي11).

ويرتبط وجود نظير البورون الثقيل ارتباطا وثيقا بارتفاع الملوحة، وقد فسر الباحثون هذه العلاقة بأنه -في بيئة مغلقة مثل البحر الميت- يؤدي التبخر العالي إلى تركيز المياه المتبقية بالمعادن والأملاح الثقيلة، بما في ذلك نظائر البورون، ولأن نظير (بي 11) أثقل من (بي10) فإنه يميل إلى البقاء في المحلول المائي أثناء التبخر، بينما يتم فقدان النظائر الأخف بشكل أسرع نسبيا.

ومع زيادة التبخر، تبدأ بعض المعادن بالترسب. وخلال هذه العملية، يبقى نظير البورون الثقيل في المياه مع الأملاح الذائبة التي لم تترسب بعد، مما يؤدي إلى إثراء المياه بهذا النظير بالتوازي مع زيادة الملوحة.

وأخيرا، فإن المعادن الطينية تميل إلى امتصاص نسبة أعلى من نظير البورون الأخف (بي10) مقارنة بنظير البورون الثقيل. وبالتالي، تصبح المياه الغنية بالأملاح أكثر تركيزا بنظير (بي11).

يخشى العلماء من أن تؤدي إجراءات الهندسة المناخية عن غير قصد إلى حلقات تغذية راجعة تؤدي إلى تفاقم تغير المناخ (ويكيميديا) Earth at the last glacial maximum of the current ice age. Based on: "Ice age terrestrial carbon changes revisited" by Thomas J. Crowley (Global Biogeochemical Cycles, Vol. 9, 1995, pp. 377-389
خلال العصر الجليدي الأخير منذ حوالي 115 ألفا -11 ألفا و700 سنة مضت كانت هناك فترات من الدفء النسبي (ويكيميديا)

أدوات تحليلية

للتوصل إلى هذه الاستنتاجات حول دور نظائر البورون في مياه البحر الميت، استخدم الباحثون ستا من الأدوات والتقنيات العلمية المتقدمة، التي تم تفصيل دورها خلال الدراسة، أولها أداة “التحليل الطيفي الكتلي للنظائر” وتم استخدامها لقياس نسب نظائر (بي-11) و( بي-10) بدقة عالية، وساعد ذلك في تتبع العمليات الكيميائية والبيئية التي أثرت على مياه البحر الميت عبر الزمن.

كما استخدام الباحثون “تقنيات تحليل الرواسب” والتي أتاحت دراسة العينات الجيولوجية من قاع البحر الميت وتحليل التركيبة الكيميائية للرواسب المعدنية، وكشف ذلك عن تاريخ الترسيب والتغيرات البيئية التي أثرت على المياه.

وساهمت أداة ثالثة وهي “القياس الطيفي بالأشعة السينية” في تحليل البنية البلورية للمعادن والكشف عن العناصر الدقيقة مثل البورون، بما في ذلك توزيعه في الرواسب، وأتاحت “نماذج الهيدرولوجيا والكيمياء الجيولوجية” فهم العمليات الديناميكية التي تؤدي إلى تركيز الأملاح والنظائر الثقيلة مثل (بي-11).

كما تم استخدام التحليل الكيميائي للمياه لقياس تركيزات البورون والعناصر الأخرى باستخدام أدوات مثل الامتصاص الذري أو التحليل الطيفي الضوئي. وأخيرا: أتاحت الدراسات الزمنية بواسطة التأريخ الإشعاعي تحديد أعمار الطبقات الرسوبية وفهم التسلسل الزمني للتغيرات البيئية.

كيف ساعدت هذه الأدوات؟

وقدمت هذه الأدوات بيانات دقيقة حول العمليات الطبيعية التي أثرت على البحر الميت، كما مكنت العلماء من ربط التغيرات في نسب نظائر البورون بعمليات مثل التبخر وترسب المعادن، وساهمت في تطوير فهم شامل للعوامل التاريخية التي جعلت من مياه البحر الميت أيقونة الملوحة الفريدة.

وكشفت هذه الأدوات عن التغيرات المناخية -خلال العصر الجليدي الأخير- والتي لعبت دورا رئيسيا في تشكيل التركيبة الكيميائية للبحر الميت. فخلال فترات الأمطار الغزيرة، كان تدفق المياه العذبة يخفف من ملوحة البحر، بينما أدت فترات الجفاف إلى زيادة تركيز الأملاح والمعادن بفعل التبخر، وهذا التوازن الهش بين المياه العذبة والتبخر ساهم في جعل البحر الميت نموذجا فريدا لدراسة العمليات الكيميائية في البيئات المغلقة.

ووفقا للدراسة، فإنه خلال العصر الجليدي الأخير (منذ حوالي 115 ألفا إلى 11 ألفا و700 سنة مضت) كانت هناك فترات من الدفء النسبي، حيث كانت الأمطار أغزر في منطقة الشرق الأوسط، مما أدى إلى تدفق المياه العذبة إلى البحر الميت.

وفي المقابل، كانت هناك فترات باردة قصوى (مثل آخر ذروة جليدية منذ حوالي 26 ألفا و500 إلى 20 ألف سنة مضت) حيث انخفضت كمية الأمطار، وزادت معدلات الجفاف.

أما في الحقبة الهولوسينية (منذ حوالي 11 ألفا و700 سنة حتى اليوم) التي جاءت مباشرة بعد العصر الجليدي الأخير، فكانت فترة مناخية أكثر رطوبة، وكانت المنطقة تشهد أمطارا أكثر. وبعد ذلك، بدأت فترة جفاف تدريجي منذ حوالي 5 آلاف سنة، واستمرت حتى اليوم، مع فترات من الجفاف الشديد وتراجع معدلات الأمطار، مما أدى إلى ارتفاع ملوحة البحر الميت.

وعلى ذلك، فإن قصة الملوحة الشديدة بدأت فصولها بالانفصال عن البحر المتوسط الذي حول البحر الميت إلى ” خزان مائي مغلق” ثم تطورت مع التغيرات المناخية في الحقبة الهولوسينية، والتي أدت إلى انخفاض تدفق المياه العذبة وزيادة معدلات التبخر، وهذه العمليات تسببت في تركيز الأملاح والمعادن في مياه البحر الميت، مما جعله أكثر ملوحة من البحار الأخرى، كما أدى إلى تراكم نظائر البورون في الترسبات الجيولوجية.

لكن، ورغم قوة المنهجية المستخدمة، يشير العشيبي إلى أن الباحثين أنفسهم اعترفوا بوجود محدودية في البيانات المتعلقة بالهيدرولوجيا القديمة ونقص في بعض التفاصيل حول تدفقات البورون الدقيقة. وعلى سبيل المثال، كان من الممكن أن تكون النتائج أكثر دقة إذا توفرت معلومات أفضل عن تأثير الأنشطة البشرية الحديثة أو تدفقات المياه الجوفية القديمة، ويقول إن “علاج هذه المشكلة يحتاج لمزيد من الدراسات التي تجمع المزيد من البيانات الميدانية الإضافية”.

شاركها.
Exit mobile version