خلال المواجهة الأخيرة بين الكيان الصهيوني وإيران التي شهدت هجمات أميركية- إسرائيلية مركزة وكثيفة بأقصى درجات القصف الجوي التقليدي (غير النووي) واستهدفت علماء إيران النوويين ومقدراتها العلمية ومنشآت برنامجها النووي المنتشرة عبر الجغرافيا الإيرانية الشاسعة، أبدى خبراء وباحثون استغرابًا كبيرًا من غياب عنصر هام جدًا في حساب معادلة الردع والردع المضاد بين إيران والكيان الصهيوني.

ففي ضوء امتلاك إيران مئات الكيلوغرامات من اليورانيوم عالي التخصيب (HEU) بنسبة 60 بالمئة، بحسب تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولم يصدر أي نفي لذلك من قبل الحكومة الإيرانية ووكالاتها ذات الاختصاص، تساءل الخبراء:

لماذا لم تحسب إسرائيل- عندما بدأت حملتها الجوية على إيران- حساب أن تطوّر إيران من هذا اليورانيوم عالي التخصيب قنابل نووية “قذرة” قادرة على إحداث تلوث إشعاعي خطير إذا أصاب أي منطقة داخل الكيان الصهيوني، فسيجعلها إقليمًا غير صالح للحياة؟ ولماذا لم يطرح هذا الاحتمال أصلًا قيد النقاش والتحليل في مساحات التداول إقليميًا ودوليًا.

قاد هذا التساؤل آخرين إلى اقتراح معادلة ردع نووي إيراني قائم بالفعل، وقد تؤدي في المآل إلى مقايضة تجعل الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية.

قنابل “قذرة”

بدوره، يقدّم المفكر الأيرلندي وأستاذ الفيزياء النظرية، البروفيسور توماس غرين، ما يسميه اقتراحًا متواضعًا، مفاده أن إيران تتمتع بالفعل بردع نووي الآن وفق معادلة يُجملها غرين على النحو التالي:

طائرات مسيرة فعّالة + يورانيوم عالي التخصيب (HEU) بنسبة 60 بالمئة = قنابل نووية صغيرة “قذرة” يمكن مقايضتها بشرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية!

لقد أثبتت جولة الصراع الأخيرة التي بدأها الكيان الصهيوني ضد الجمهورية الإسلامية أن الإيرانيين قادرون على إيصال عدد غير قليل من الطائرات المسيرة التي يطلقونها إلى تل أبيب.

علاوة على ذلك، قيل لنا إنهم يمتلكون مئات الكيلوغرامات من اليورانيوم عالي التخصيب بنسبة 60 بالمئة. ومن المستحيل أن يغيب عن الجيش الإيراني الوصفة البسيطة “للردع النووي” التي تُشير إليها هاتان الحقيقتان.

إذا أطلقت إيران خمسين طائرة مسيرة انتحارية، كل منها محملة بكيلوغرام واحد من اليورانيوم عالي التخصيب، باتجاه تل أبيب، فمن المؤكد أن يصل ما لا يقل عن 20 طائرة (أو أكثر إذا كان الإسرائيليون وجيرانهم حكماء بما يكفي لعدم اعتراضها).

وحتى لو انفجرت هذه القنابل “القذرة” الطائرة في مواقع عشوائية، فستُلوّث المدينة التي ستصل إليها بفاعلية كبيرة. وسيُشكّل هذا هجومًا يؤدي لحظر دخول طويل الأمد لتلك المنطقة، قد يجعل مدينة مثل تل أبيب غير صالحة للسكن لعقد من السنوات أو أكثر. وستكون ضربة اقتصادية قاصمة.

وهذا أيضًا غير أنيق للأسف: فأي طائرة مُسيّرة تُسقَط ستُلوّث مساحة كبيرة، وقد يحدث هذا داخل دول ليست طرفًا في الصراع. لكن يُتوقع حدوث ذلك.

مقايضة نووية!

هذا وضع مُعقّد لأن الحديث هنا يتناول “الردع” تحديدًا. فإذا هدّدت إيران بشن هجوم كهذا، ستردّ إسرائيل حتمًا بقنابلها النووية، مما سيؤدي إلى أسوأ نتيجة مُمكنة. فأي نوع من التبادل النووي سيعني فشلًا تامًا لنظرية أو عقيدة الردع النووي بأكملها.

يرى غرين أن القدرة أو الاقتدار العلمي النووي هي كل ما يهم لأمن إيران. وهي موجودة بالفعل ولا يُمكن انتزاعها بالقوة. لقد فات أوان ذلك بالفعل.

إيران قادرة على القضاء على إسرائيل بقنابل “قذرة”. لكن، على عكس الإسرائيليين، الذين يخططون لتدمير الكوكب بأكمله إذا ساءت الأمور بالنسبة لهم، يتمتع الإيرانيون برقيّ واحترام ذاتي كبيرين يمنعانهم من جعل منطقة بأكملها غير صالحة للحياة، مع أنهم قادرون على ذلك بالتأكيد، اليوم!

يمكن بيع هذه القدرة بالسعر المناسب. ثمة مستقبل مشرق محتمل هنا لأن إيران لديها شيء مهم يمكن مقايضته: يمكنها التخلي عن اليورانيوم عالي التخصيب مقابل تخلي إسرائيل عن أسلحتها النووية.

في الوضع المثالي، سيوافق الطرفان على الحد من التخصيب إلى مستويات مناسبة للتطبيقات أو الاستخدامات المدنية فقط. وسيصادق كلاهما على معاهدة حظر الانتشار النووي، ويسمحان بعمليات تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

سيكون الشرق الأوسط الخالي من الأسلحة النووية مصدر ارتياح لجميع سكان الكوكب تقريبًا. وبطبيعة الحال، ستحتفظ الدولتان كلتاهما بالقدرة على تطوير الأسلحة النووية في المستقبل، كما هو الحال عندما تنهار الإمبراطورية الغربية تحت وطأة جشعها وقمعها العنيف، وتزدهر الفوضى العالمية في لحظة مجد غير مسبوق.

تصفير التخصيب

العقبة هنا هي الإصرار الإسرائيلي الدائم على أن تكون قدرة إيران على التخصيب صفرًا، وهو مطلب سخيف لن يقبل به إلا شخص مثل دونالد ترامب وأعضاء حكومته. لكن ربما تعلّم من الفشل المُحرج لمغامراته الأخيرة في دبلوماسية القوة.

لا يمتلك الإيرانيون، ولا يرغبون في امتلاك، أسلحة نووية متفجرة، مع أنهم يريدون القدرة على تطويرها يومًا ما إذا لزم الأمر. ومن ذا الذي لا يرغب في ذلك، وهو يعيش بالقرب من كيان صهيوني بغيض للغاية؟

في ضوء كل ما سبق، يعتقد غرين أنه في الوقت الحالي، لإيران ولغيرها كل الحق في تخصيب اليورانيوم للاستخدام المدني. فالجميع له الحق في ذلك. وأي حديث عن “تصفير التخصيب” مجرد هراء.

سيتعين على الإسرائيليين ببساطة قبول حقائق الحياة لأجل التغيير. ويبدو أن إيران فرضت عليهم بعض هذه الحقائق مؤخرًا، وهو ما أثار دهشتهم. وقد أحسنت بفعل ذلك.

والمعلوم منذ عقود في أدبيات السياسات النووية أن الأسلحة النووية ليست للاستخدام بل هي للردع. والردع هنا يعني حماية الدول النووية وقيادتها من التغول الجيوسياسي والابتزاز النووي والتهديد الوجودي.

وكان من أبرز نتائج حرب أوكرانيا أنها أثبتت عدم جدوى الأسلحة النووية في الصراعات الجيوسياسية التقليدية. فروسيا تمتلك آلاف الرؤوس/ القنابل النووية من كل المستويات الإستراتيجية والتكتيكية وربما العملياتية محدودة النطاق، لكنها لم تستعملها ولا يبدو أنها ستفعل.

وكان قصارى الأمر نوويًا أن روسيا صعدت التهديدات أو بالأحرى التحذيرات النووية لأوروبا، بدون كثير جدوى، وأجرت تعديلات على العقيدة النووية الروسية منذ عامين تقريبًا لتأكيد صدقية تلك التحذيرات.

وهذا إجمالًا يؤكد محدودية دور الأسلحة النووية في الصراعات العسكرية واقتصار التلويح باستخدامها على دفع التهديد الوجودي للأمم النووية ومصالحها الحيوية، كما تعرّفها هي بالطبع.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شاركها.
Exit mobile version