تتصاعد الحملة العسكرية التي يشنها الجيش الإسرائيلي على لبنان، وذلك بعد سلسلة عمليات قاسية استهدفت قيادات وكوادر عسكرية في حزب الله، بدأت بتفجير أجهزة البيجر ثم أجهزة الاتصال اللاسلكي، وتلا ذلك اغتيال عدد من قيادات الصف العسكري الأول.

ويأتي التصعيد العسكري الإسرائيلي على لبنان والضربات المفاجئة كمحاولة لكسر إرادة المقاومة لدى الحزب، وذلك بعد إعلان وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت عن مرحلة جديدة من الحرب، وأن مركز عمليات جيش الاحتلال “يتحرك شمالا”.

وفي هذا السياق، تطرح نقاشات واسعة بشأن أهداف التصعيد الإسرائيلي وتداعياته على الحزب والعدوان على قطاع غزة، والخيارات التي يملكها الحزب للرد، خصوصا في ظل حدوث تحول عميق في نظرة إسرائيل أساسا إلى الصراع سواء مع قوى المقاومة أو على مستوى دول الإقليم.

فقد أحدثت عملية طوفان الأقصى تغييرًا كبيرا في إستراتيجية إسرائيل في التعامل مع التهديدات، إذ قطعت أشواطا خلال العام الماضي في التكيف مع حرب طويلة الأمد إن فرضت عليها، وحتى المخاطرة بخوض حروب برية وتحمّل خسائر بشرية هائلة، سواء على صعيد أعداد القتلى والجرحى أو حتى الأسرى لدى المقاومة.

استغلال الضربات القاسية

يرى محللون إسرائيليون أن العمليات الأخيرة ضد حزب الله كشفت عن خروقات لمنظومته الأمنية، أفقدت الحزب عددا من المزايا التي يتمتع بها، وهو الذي يخوض حرب دعم للمقاومة الفلسطينية امتدت على مدار عام تقريبا.

ويشدد القادة الإسرائيليون -وفي مقدمتهم رئيس أركان الجيش هرتسي هاليفي– على ضرورة استغلال الوضع الراهن في استمرار العمليات الهجومية بشكل متعاظم وتسريع وتيرتها وتعزيزها، وعدم منح الحزب فرصة لالتقاط أنفاسه.

والهدف من ذلك هو محاولة إلحاق الضرر بمنظومة الردع لدى الحزب، وإضعاف منظومة القيادة عبر تصفية قيادات عسكرية وازنة وإظهاره في حالة انكشاف أمني، في محاولة للتأثير على مكانته لبنانيا وإقليميا.

لكن تجارب سابقة تشير إلى أن الضربات الإسرائيلية المفاجئة عادة ما تكون نتاج عمل طويل يقصد منه إحداث حالة ارتباك في صف المقاومة إلا أن مدى تأثيرها الزمني يبقى محدودا، وهو ما يمنح حركات المقاومة القدرة على امتصاصها.

وفي هذا السياق، يقول رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات العميد الركن هشام جابر -في تصريحات للجزيرة نت- إن تمكّن إسرائيل من هزيمة حزب الله عبر هذه الضربات غير واقعي، “لأن الحزب لا يزال يملك جميع القدرات العسكرية، ولا يزال يملك الصواريخ الدقيقة وقوات الرضوان وقدرات كثيرة لم يستعملها”.

ويتابع أن الحزب لا يريد أن ينجرّ إلى حرب شاملة، “أما إذا استمر العدو في إجرامه من دون حدود، فإن الحزب يستطيع أن يوجه ضربات مؤلمة وواسعة، في منطقة حيفا على سبيل المثال التي تضم تجمعا سكنيا يزيد على 250 ألفا”.

أهداف التصعيد

يمكن تلخيص أهم الأهداف الإسرائيلية من هذا التصعيد في جملة نقاط، منها محاولة جيش الاحتلال تعزيز قوة منظومة الردع التي تهشمت بعد عملية طوفان الأقصى، كما يسعى لتجاوز تداعيات فشله الاستخباري والعسكري في مواجهتها.

كذلك يهدف الجيش الإسرائيلي إلى إضعاف حزب الله وتوجيه ضربة قوية لقدراته العسكرية والأمنية، وضرب صورته وهيبته وإضعاف معنويات حاضنته وقواعده الشعبية، إضافة إلى إحداث خلل في موازين القوى داخل لبنان لمصلحة خصومه، والتحريض عليه.

ويسعى الاحتلال من خلال ذلك إلى فرض شروط على الحزب تحت الضغط العسكري، وربما عبر هجوم عسكري واسع، قد يتضمن اجتياحا بريا، من أجل إجبار الحزب على التراجع عن الحدود إلى ما بعد نهر الليطاني، ووقف دوره العسكري في مساندة قطاع غزة، وبما يتيح عودة مستوطني الشمال إلى منازلهم.

ويرى الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش –في مقال له على موقع الجزيرة نت- أن أهداف إنهاء تهديد حزب الله للجبهة الشمالية وإعادة النازحين لا تبدو سوى واجهة لهدف أكبر يتمثل في إعادة تشكيل الصراع مع حزب الله، وتقويض قدراته العسكرية إلى حد كبير، وربما محاولة تدميره حتى لو تطلّب الأمر غزوًا بريًّا للبنان، وإعادة احتلال بعض أراضيه ضمن مشروع إنشاء منطقة عازلة على طول الشريط الحدودي.

التداعيات على غزة

لا يخفي جيش الاحتلال أهداف حربه على لبنان وحزب الله، فقد أعلن قادته مرارا عزمهم على إجبار الحزب على فك ارتباطه مع جبهة غزة، لكن تحقيق هذا الهدف يبدو بعيد المنال، خصوصا أن الأمين العام حسن نصر الله أكد بنفسه أخيرا أن جبهة لبنان سوف تظل مرتبطة بجبهة غزة “مهما كانت الخسائر والتضحيات”.

وعلى الرغم من حجم التضحيات والضربات التي تعرض لها الحزب، فإن هذه العمليات أعادت تعريف تعاطي الحزب مع العدوان على غزة لتتجاوز “حالة الدعم” للانتقال تدريجيا إلى وحدة الجبهتين، مع ما يعنيه هذا من رفع وتيرة التنسيق مع بقية الجبهات في العراق واليمن.

كما شدد الحزب على تمسكه بإدامة الاشتباك مع الاحتلال ما دامت الحرب في غزة مستمرة، وذلك يؤكد إستراتيجية قراره، ويصعّب على الجيش الإسرائيلي الاستفراد بالمقاومة الفلسطينية.

ومن التداعيات المحتملة للتصعيد في جبهة الشمال، تخفيف الضغط على جبهة غزة، بما قد يمنح المقاومة وسكان القطاع بعض فرصة لالتقاط الأنفاس.

ويرى الباحث علوش في مقاله أن إستراتيجية حرب الاستنزاف الإسرائيلية فشلت في ردع حزب الله ودفعه إلى التخلي عن ربط وقف إطلاق النار على الجبهة الشمالية بإنهاء الحرب على غزة، وسحب قواته إلى ما وراء نهر الليطاني.

خيارات الحزب

يرى مراقبون أن حزب الله رغم الغارات الإسرائيلية الكثيفة التي أضعفت جزءا من قدراته فإنه لا يزال يحتفظ بمفاجآت ولم يستخدم بعد أسلحته الدقيقة والبعيدة المدى، لأنه لا يرغب باندلاع حرب شاملة.

ويعتمد الحزب حتى الآن إستراتيجية الصمود واحتواء الضربات المؤلمة، والرد بقدر محسوب جدا على العدوان الإسرائيلي، بما يمنحه فرصة لاستعادة التوازن وترميم قدرات الردع لديه وتجاوز تداعيات الإخفاقات الأخيرة، لمواصلة دوره في مساندة غزة.

كما يبقى لدى الحزب خيار الخروج من حالة التحفظ والتحلل من كل الالتزامات، والدخول في مواجهة مفتوحة واشتباك عالي الوتيرة مع الجيش الإسرائيلي، والدفع بكل قوته في هذه المعركة.

الموقف الإيراني

في المقابل، لا بد من الإشارة إلى طبيعة الموقف الإيراني بهذا الصدد وأهميته، إذ يعدّ حاسما جدا في قرار الحزب، وقد عبرت تصريحات كثير من المسؤولين الإيرانيين وفي مقدمتهم الرئيس مسعود بزشكيان عن عدم رغبة طهران في اندلاع حرب جديدة بالمنطقة.

وأشار في أغلب تصريحاته، سواء خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أو على هامشها، إلى أن بلاده تريد السلام ولا تريد الحرب، لكنه حذر من “أن تصبح لبنان غزة أخرى”، وأن الأمور قد “تتفاقم إلى صراع إقليمي يمكن أن يكون خطيرا على مستقبل العالم”، مشددا على أن “إسرائيل هي التي تسعى إلى خلق هذا الصراع الواسع”.

وأمام هذا الموقف غير التصعيدي من القيادة الإيرانية، قد يتخذ الحزب قراره بالتساوق مع هذا الموقف، ومواصلة ما أطلق عليه “الصبر الإستراتيجي” بانتظار ما قد تسفر عنه التحركات الدبلوماسية بين الوسطاء والإدارة الأميركية.

محددات مؤثرة

لكن لا بد من الإشارة إلى بعض المحددات التي ستؤثر على قرار الحزب، ومنها إمكانات الحزب وقدرته على تجاوز آثار الضربات الموجعة، ومقدار استعداد حاضنته الشعبية للمواصلة، وكذلك مواقف خصومه في الساحة.

وفي المقابل، لا بد من النظر في هذا السياق إلى خيارات الجانب الإسرائيلي ومدى استعداده لمواصلة الحرب بهذه الوتيرة والانتقال إلى مرحلة الغزو البري، مع الإشارة إلى موقف الإدارة الأميركية ومدى استجابتها للخطط الإسرائيلية.

ومن الأهمية بمكان البيان أنه حتى اللحظة لم تصدر عن الحزب أي إشارات على استعداده للخضوع للشروط الإسرائيلية، ويُرجّح ألا يوافق على ذلك، رغم الضغط العسكري الهائل لفرض شروط الاحتلال، التي تضمن تحقيق التهدئة في الشمال وعودة المستوطنين النازحين.

وتظهر الردود العسكرية حتى الآن -بحسب محللين- أن الحزب يسعى لتوجيه ضربات تحمل رسائل للجانب الإسرائيلي بأنه لديه القدرة على إلحاق الضرر، إن هو واصل العدوان، ويأتي في هذا السياق إعلان إذاعة جيش الاحتلال عن اعتراض صاروخ أطلق من لبنان باتجاه تل أبيب، في سابقة منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة قبل نحو عام.

شاركها.
Exit mobile version